الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
62 - السُنَّةُ وَالمُذَكِّرَةُ الإِيضَاحِيَّةُ:
إذا كان فقهاء السلف، قد اختلفوا في شيء من أمر السنة النبوية فإنما كان هذا الخلاف حول الاصطلاحات والمفاهيم، فمن فهم أن السنة النبوية لا تستقل بتشريع الأحكام بل تأتي تبعًا للكتاب وتبنى على أصل عام منه، يوجب العمل بالسنة كلها حتى لو جاءت بحكم جديد، وبالتالي فهذا الفريق لا يرد الأحكام الواردة في السنةالنبوية بل يبحث عن أصل عام في القرآن ويربطها به حتى ولو كانت سنة زائدة عما جاء في القرآن، وتكون النتيجة العملية هي الأخذ بالسنة كلها وهنا يلتقي هذا الفريق مع من قال أن السنة تستقل بتشريع الأحكام.
وهذا هو حال علماء السلف رضي الله عنهم، ولكن بعض طلاب العلم بنى على هذا الخلاف قضية أخرى تنتهي بحكم آخر وهو حصر نطاق السنة في تفسير القرآن وَرَدِّ ما جاء في السنة النبوية زائدًا عما في الكتاب الكريم - وبالتالي يستحلون كثيرًا من المحرمات ويردون جانبًا من الحدود - والعقوبات بل إن بعضهم يعلل ذلك بأنه يدافع عن السنة النبوية (1).
وهذه هي وسيلة المستشرقين للطعن على الدين، فالمستشرق اليهودي (جولدتسيهر)
(1) ذهب إلى ذلك الشيخ محمود أبو رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية " وتابعه السيد صالح أبو بكر في " الأضواء القرآنية "، انظر البند 69.
يقول في كتابه " العقيدة والشريعة ": «ألوف الأحاديث هي من وضع العلماء الذين أرادوا أن يجعلوا من الإسلام دينًا شاملاً فخلقوا هذه الأحاديث، والقرآن لم يعط من الأحكام إلا القليل، ولا يمكن أن تكون أحكامه شاملة لهذه العلاقات غير المنتظرة» .
هذا المستشرق لم يجد لمزاعمه دليلاً، ولكن بعض المسلمين التمسوا الدليل في سببين:
1 -
الأول هو حديث موضوع نصه: «[إِذَا جَاءَكُمُ الْحَدِيثُ] فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَهُ فَقَدْ قُلْتُهُ وَمَا خَالَفَهُ لَمْ أَقُلْهُ» ، وما يؤكد عدم صحته أنه يتعارض مع حديث آخر صحيح رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ونصه:«لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» ، وقد جاء هذا الحديث برواية أخرى وفيها يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ [الكِتَابَ] وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» .
لقد كشف علماء الحديث أن الحديث الأول من وضع الزنادقة، قال بذلك يحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي، كما قال الشافعي: أنه غير صحيح ويتعارض مع قول الله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، ومع ما رواه " البخاري " و" مسلم ":«مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ» .
من هذه اللحمة يستبين أن المستشرقين قد أدركوا أن السنة تجعل الإسلام دينًا شاملاً كاملاً وبالتالي فلا سبيل لهدمها أو تطويرها إلا بتجميدها وأيسر وسيلة هي التشكيك فيها أو ادعاء أن أكثرها موضوع وهو المنهج الذي تبناه جولدتسيهر، أما بقية الأحاديث التي لا يستطيعون الطعن عليها فسبيل تجميدها هو القول بعرضها على القرآن، فإن جاءت بحكم ليس في القرآن لا تلتزم به.
2 -
والحجة الثانية عندهم هي قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
فيقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام ليس إلا مُبَيِّنًا وَمُفَسِّرًا لما جاء في القرآن وقد شاع على ألسنتهم وغيرهم وصف السنة بالمذكرة التفسيرية للقانون ولكن هذه المذكرة غير ملزمة للقاضي ولا لغيره من الناس وقد تكون كاشفة عن سبب الحكم ولكن ما تتضمنه من تفسير لا يلزم أحدًا وهذا بخلاف السنة النبوية، فهي ملزمة لجميع المسلمين.
والآية القرآنية تبين بجلاء أن الله أنزل الذكر على النبي ليبين للناس وَهْمَ الكُفَّارِ حكم الله لعلهم يتفكرون فيهتدون إلى الإيمان (1).
فالناس هنا هم الكفار لا يؤمنون كما أن الذكر هو القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم يكون بتلاوته على الناس جميعًا كما يكون البيان للناس عن طريق الأحاديث النبوية، ولكن ظاهر هذه الآية لا ينطبق إلا على الكفار لأنهم هم الذين يعرضون عن الإيمان، فتلاوة القرآن عليهم وبيانه يقيم الحجة عليهم ولعلهم يتفكرون فيهتدون إلى الإيمان، أما المؤمنون فهم مهتدون إلى الإيمان بنعمة الله وليسوا في حاجة إلى إقامة الحجة أو طلب إيمانهم بالله، ويزيد ذلك وضوحًا الآيات الأخرى الواردة في هذا المعنى في نفس السورة وهي سورة النحل، قال الله تعالى:{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 63، 64]. وهذا لا يكون إلا بالنسبة للكفار كما أن القرآن هدى ورحمة لمن آمن به وهؤلاء لا يقول الله عنهم {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
(1)" تفسير القرآن العظيم ": لإسماعيل بن كثير: جزء 4.
والنتيجة التي نود إظهارها هي أن السنة النبوية تختلف عن المذكرة التفسيرية للقانون الوضعي، فالأخيرة لا تعد تشريعًا وبالتالي لا تلزم القاضي ولا غيره بينما لا خلاف بين المسلمين على أن السنة النبوية هي تشريع من الله الذي عصم نبيه من الخطأ في بيان حكم الله للناس، ولهذا فما ورد بها يجب العمل به ولو كان حكمًا جديدًا لم تتضمنه نصوص القرآن وتستوي بعد ذلك أن توصف السنة بأنها مبينة أو مفسرة أو مكملة لأن هذه الأوصاف لا يترتب عليها استبعاد حكمها أو إضعافه، ولهذا لا وجه بأن تشبه السنة بالمذكرة التفسيرية للقانون.
إن الخطأ الشائع بأن السنة كالمذكرة التفسيرية للقانون يرجع إلى عدم معرفة منزلة هذه المذكرة من القانون، فالسنة مصدر تشريعي يعبر عنها بالمصدر الثاني، أما المذكرة التفسيرية للقوانين الوضعية، فهي ليست نصًا تشريعيًا ولا مصدرًا لنص تشريعي إنما تفصح عن المصدر الذي استقى منه النص ثم تبين سبب وضع النص بهذه الصياغة، وبالتالي فهي ليست ملزمة ملزمة للقاضي أو الفقيه بل تكون محل استئناس عند تفسير النص، وعليه فمن شبه السنة النبوية بالمذكرة التفسيرية يضع السنة في غير موضعها، فهي ملزمة للقاضي والفقيه، بل ولكل فرد من المسلمين وهي مصدر تشريعي بجانب القرآن الكريم، وما يرد بها مفسرًا للنص القرآني يستوى ف الإلزام مع ما يرد في السنة من أحكام سكت عنها القرآن لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وكذا للأسباب السابق ذكرها.
ومن رد حديثًا ثبت صحته بدعوى أنه غير ملتزم إلا بما جاء في القرآن، يكون بهذا الرد قد ارتد عن الملة، قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فالاحتكام والتحكيم يكونان للقرآن والسنة معًا، ولا خلاف في هذا، فلا يحل لمسلم أن يطلب الاحتكام إلى غير القرآن والسنة ولا يحل للقضاة أو الحكام أن يحكموا بغير ما أنزل الله أو بغير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن استحل هذه المخالفة فقد كفر لإنكاره حكم الله ولتحليله ما حرم الله، أما من مالت نفسه فخالف مع إيقانه وتصريحاته وإعلانه أن حكم الله ورسوله هو الأولى وهو الواجب والأحسن فذاك المخالف يكون عاصيًا.
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا فقال: «أَلَا إِنِّى أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» . رواه أبو داود وغيره (" التاج الجامع للأصول ": جـ 1 ص 46).
وقد زعم البعض أن الآيات القرآنية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، لا تفيد كفر من استحل الحكم بخلاف القرآن والسنة، وهؤلاء نسوا قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وقوله تعالى:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148].
كما تركوا ما رواه الترمذي بسنده الصحيح عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: «يَا [عَدِيُّ اطْرَحْ] عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ» ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» (*).
إن آيات سورة المائدة قد وصفت من استحل الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وصفًا يفيد الكفر والظلم والفسق، وهذه الأوصاف الثلاث تتعلق بحقيقة واحدة هي استحلال الحكم بغير الكتاب والسنة النبوية، وبالتالي
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) الرواية التي ذكرها المؤلف هي في " المدخل إلى السنن الكبرى " للبيهقي، تحقيق الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي: ص 209، حديث 261، نشر دار الخلفاء للكتاب الإسلامي - الكويت. انظر التعليق في الهامش: ص 255.
فالكفر في هذا الصدد هو نفسه الفسق وهو أيضًا الظلم، لأن هذه الأوصاف الثلاث قد ترد بمعنى الكفر المخرج عن الملة، كما في هذا الشأن، وفي قوله تعالى عن إبليس:{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]، وفي قوله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وقد ترد هذه الأوصاف بمعنى المعصية كما في سورة الحجرات عن السخرية والتنابز بالألقاب إذ قال الله عنه: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
كما قال الله عن الجهاد في سورة التوبة: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. وهذا الخطاب موجه إلى المؤمنين ولذلك كان الفسق بمعنى المعصية وأيضًا ورد الكفر بما يفيد المعصية في الحديث النبوي الذي رواه " مسلم " بلفظ: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَاله كُفْر» ، لأن الله تعالى لم ينف الإيمان عن المسلمين الذين اقتتلوا، فقال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. وهكذا فإن كلمات الكفر والظلم والفسق قد ترد بمعنى الكفر المخرج عن الملة وقد تأتي بمعنى المعصية والذي يحدد المقصود هو سياق الآيات في كل موضوع وليس أهواء الناس ومصالحهم. وقد فصلت ذلك في كتاب " الحكم وقضية تكفير المسلم ".