الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
29 - أَحَادِيثُ الآحَادِ وَالعِلْمِ اليَقِينِي:
الحديث النبوي قد يرويه في عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابع التابعين، عدد من الرواة يستحيل تواطؤهم على الكذب ويسمى هذا بالحديث المتواتر.
ولكن هذا العدد الذي لا يحصى قد لا يتحقق في هذه الطبقات الثلاث، وفي هذه الحالة يطلق عليه اسم حديث الآحاد مثل حديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» الوارد في أول كتاب البخاري، فقد رواه الصحابي عمر بن الخطاب ولكنه اشتهر وشاع في عصر التابعين ومن بعدهم حتى رواه عدد لا يحصى في هاتين الطبقتين.
ومثل هذا الحديث أجمع على نقله أصحاب كتب الحديث المشهورة المتداولة، ولهذا يرى آخرون أن مثل هذه الأحاديث متواترة إذا أجمعت هذه الكتب على إثباتها وتعددت طرقها مما يستبعد معه تواطؤهم على الكذب (1).
ولقد أجمع العلماء على أنه فرض على كل مسلم أن يعمل بما صح من السنة النبوية سواء في ذلك ما يعد متواترًا أو آحادًا، [(2)] ولكنهم اختلفوا في مسألة إثبات العقائد والمعجزات بسنة الآحاد، فجمهور الفقهاء يرون أن
(1) الشيخ الألباني - " وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة ": ص 24.
(2)
" مناهج الاجتهاد ": ص 508، والشيخ شلتوت في " الفتاوى ": ص 62.
أمور العقيدة لا تؤخذ إلا من النصوص المتواترة (1)، ويرى غيرهم أنه طالما أن العمل بالسنة كلها مجمع عليه فيستحيل أن يعمل المسلم بشيء ولا يعتقد به.
وقد استدل هؤلاء الفقهاء على ذلك بالآتي:
أولاً: إن التفرقة بين الأحاديث النبوية والقول إن هذا متواتر فنأخذ به في جميع الأمور لأنه قد رواه خمسة فأكثر أو سبعة فأكثر. وذلك آحاد لا يؤخذ به في أمور لأن رواته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغوا حد التواتر سالف الذكر.
هذه التفرقة لا دليل عليها من القرآن أو السنة، أو إجماع الصحابة أو أقوال جمهورهم أو بعضهم وبالتالي فإنه لا يوجد سند شرعي لهذا التقسيم خصوصًا وأن القرآن الكريم قد اعتد بخبر الاثنين والأربعة وأخذ به في الحدود بما فيها من إرهاق النفس في القصاص أو غيره.
قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
…
} [النور: 4].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106].
ثانيًا: إن ما عليه السلف الصالح في أمر العقائد قد تجسد في آراء أحمد بن حنبل في رسائله وإجاباته، وهي تدل على أنه كان يقبل أحاديث الآحاد في الاعتقاد، ويسير على مقتضاها ولا يقتصر في الأخذ بها على العمل، فالإيمان
(1)" تيسير الوحيين " للشيخ النجدي: ص 15 و" مناهج الاجتهاد ": ص 508.
بعذاب القبر ومنكر ونكير والحوض والشفاعة، والدجال ونزول عيسى، كل هذا وغيره أخذه عن أحاديث الآحاد.
كما أن كل ذي حس وبصيرة يدرك أن المسلم لا يؤدي العبادة إلا بعد اعتقاده بصحة الحديث النبوي الذي أمر بهذه العبادة، والمعلوم أن العبادات قد ثبتت كلها بأحاديث الآحاد، وأنها تضمنت أمورًا هي من العقائد (1) ومنها الحديث الوارد في " البخاري " و" مسلم " الآمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويؤدوا أركان الإسلام وقد استند إليه الخليفة الأول في قتال مانعي الزكاة وأجمع الصحابة على ذلك.
ثالثًا: أن القرآن الكريم قد تضمن اختصاص الرسول ببيان أحكام القرآن وتفصيلها. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
والرسول إنما بلغ أحكام الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد بأخبار الآحاد فوجبت الطاعة التامة لهذه الأحكام، واعتقاد وجوبها لأن العمل بها يسبقه الاعتقاد بثبوتها إذ لا عمل بغير اعتقاد.
رابعًا: إن الأمانة والصدق في الرواية لا تكون بالعدد، ولهذا قال الدهلوي:«لَيْسَ مِيزَانُ التَّوَاتُرِ عَدَدُ الرُّوَاةِ وَلَا حَالَهُمْ وَلَكِنَّ اليَقِينَ الذِي يَعْقُبُهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ» (2).
(1) الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه " ابن حنبل ": ص 226 بند 115 و" المناقب " لابن الجوزي: ص 169.
(2)
" الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف " للإمام ولي الله الدهلوي: ص 50.
لهذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا وحده ليبلغ الناس في موسم الحج الأحكام الواردة في سورة التوبة وفيها ما يتعلق بالكفر والإيمان وهذه من العقائد.
فلو كان خبر الواحد لا يعمل به في العقائد لأرسل النبي صلى الله عليه وسلم وفدًا. ولكنه لم يفعل ذلك، بل أرسل نفرًا واحدًا لكل بلد ليبلغ أهلها أحكام الدين كلها بما فيها العقائد والعبادات والمعاملات.
خامسًا: إن أهل البلاد استقبلوا مبعوث النبي وهو فرد واحد وتلقوا عنه هذه الأحكام. وظل الصحابة والسلف الصالح من بعدهم يقبلون خبر الآحاد في العقائد وغيرها، حتى ظهرت التقسيمات النظرية التي لا تستند إلى شيء إلا المنطق العقلي، وهو ليس مصدرًا للأحكام الشرعية بل وينقضه منطق عقلي مخالف.
سادسًا قول ابن تيمية في كتابه " الفتاوى ": «كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلاً بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ العِلْمَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إلَاّ فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ المُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الكَلَامِ» (1).
سابعًا: وهذه الحقيقة ثابتة ومؤكدة منذ عصر الصحابة فأول رسالة في هذا كتبها الإمام الشافعي فقال: «اِجْتَمَعَ المُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَديثًا عَلَى تَثْبِيتِ خَبَرَ الوَاحِدِ وَالاِنْتِهاءِ إِلَيه» (2).
(1)" مجموع الفتاوى ": جـ 13 ص 351.
(2)
" الرسالة ": ص 106 - 121.
ثامنًا: قال الكرابيسي وابن منداد وابن حزم وأبو يعلى الحنبلي: إن خبر الواحد حجة في العقائد، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي " التَّبْصِرَةِ " وَ" شَرْحِ اللُّمَعِ ":«وَخَبَرُ الوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ يُوجِبُ العِلْمَ وَالعَمَلَ سَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ الكُلُّ أَوِ البَعْضُُُُ» ولو كان هناك دليل قطعي على أن العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد لصرح بذلك الصحابة (1).
تاسعًا: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: «جَمِيعَُ مَا حَكَمَ مُسْلِمٌ رحمه الله بِصِحَّتِهِ فى هَذَا الكِتَابَ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ وَالعِلْمَ النَّظَرِيَّ حاصِلٌ بِصِحَّتِهِ فِي نَفْسِ الأَمْرِ وَهَكَذَا مَا حَكَمَ البُخَارِيُّ بِصِحَّتِهِ في كِتَابِهِ وَذَلِكَ لأَنَّ الأُمَّةَ تَلَقَّتْ ذَلِكَ بِالقَبُولِ سِوَى مِنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَوِفَاقَِهِ فِي الإِجْمَاعِ» (2).
عاشرًا: قال ابن حزم: «فَخَبَرُ الوَاحِدِ إِذَا اتصل برواية العدل إلى رسول الله وجب العمل به ووجب العلم بصحته إذ الناقل للخبر إما أن يكون عدلاً أو فاسقًا، فإن كان فاسقًا فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره، فأوجب ذلك سقوط قوله فلم يبق إلا العدل فكان هو المأمور بقبول روايته» ، وقال:«جَمِيعُ أَهْل الإِسْلامِ كَانُوا عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الوَاحِدِ الثِّقَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَجْزِي عَلَى ذَلِكَ كُلَّ فِرْقَةَ فِي عِلْمِهَا كَأَهْلِ السِّنَّةَِ وَالخَوَارِجَ وَالشِّيَعَةَِ وَالقِدْرِيَّةَ حَتَّى حَدَثَ مُتَكَلِّمُو المُعْتَزِلَةَ بَعْدَ المِائَةِ مِنَ التَّارِيخِ فَخَالَفُوا الإِجْمَاعَ» (3).
حادي عشر: وقال السفاريني: «وَلَمَّا وَقَفَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى اخْتِيَارِ ابْنِ الصَّلَاحِ مِنْ أَنَّ مَا أُسْنِدَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ، قَالَ: وَإِنَّا مَعَ ابْنِ الصَّلَاحِ فِيمَا عَوَّلَ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ» (4).
(1)" وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة ": ص 24.
(2)
" شرح النووي لصحيح مسلم ": جـ 1 ص 14.
(3)
" الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: جـ 1 ص 14 - 17.
(4)
" لوامع الأنوار البهية " للسفاريني: ص 17.
ثاني عشر: وأخيرًا فقد نقل عن ابن كثير أنه وقف على كلا (الشيخ) ابن تيمية مضمونه أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من أهل الإسلام، ثم قال ابن تيمية:«وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الحَدِيثِ قَاطِبَةً، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ عَامَّةً» (1).
ولما كان ذلك كذلك، فقد أخطأ من ذكرنا ممن قالوا إن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا ال ظن، كما أخطأ الشيخ محمود شلتوت خطأ فادحًا فيما قرره بقوله أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة أو المغيبات (2).
فلا إجماع على ذلك حسبما أوضحناه من قبل، وأحاديث الآحاد التي ثار خلاف حول كونها قطعية الثبوت أم لا، لا نجد بين علماء الأمة خلافًا حول وجوب العمل بها لأن وجوب العمل لا مجال لتقريره إلا لأن العلم بهذه السُنَّةِ يقيني وليس ظَنِّيًّا (3).
فضلاً عن ذلك كله فإن ادعاء أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن أو لا يعمل بها في العقائد ليس عليه أي دليل من القرآن أو السنة أو عمل الصحابة بل قامت هذه الأدلة وغيرها على أن الحديث النبوي إذا صحت نسبته إلى النبي يعمل به في جميع أمور الدين.
والشروط التي وضعها أصحاب هذا المعتقد تجعل الحديث المتواتر معدوم الوجود غالبًا عند جميع الفرق الإسلامية وإن وجد فهو في أربعة أحاديث أو خمسة، وجميع أمور الدين التي خول الله النبي تفصيلها وبيانها بالسنة هي أحاديث آحاد أجمع المسلمون على العمل بها ولكن الخلاف في مسألة العلم بها وهل هو ظني أو يقيني والحقيقة أن العمل لا يصح إلا إذا اعتقد المسلم بصحة الأمر به وقد استقر العمل بأحاديث الآحاد لاعتقاد المسلمين بثبوتها ويستوي أن يكون الثبوت على سبيل العلم القطعي أو اليقيني أو الظني.
(1)" العقيدة في الله " للشيخ عمر سليمان الأشقر: ص 46.
(2)
" الإسلام عقيدة وشريعة ": ص 75.
(3)
" الإحكام " لابن حزم: جـ 1 ص 108.