الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمراد بأن النص ظني الدلالة أن به كلمات غير قطعية المعنى كقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فالقرء معناه اللغوي الحيض أو الطهر. فهذا التعدد يجعله في حاجة إلى قرينة للترجيح.
التَّخْصِيصُ وَشُبْهَةُ التَّعَارُضِ:
إذا ورد نص عام كقول الله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. ثم نص خاص كقول النبي «لَا صَلَاةَ إِلَاّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» فيرى الجمهور أن هذا الحديث وإن كان آحادًا فإنه خاص قطعي الدلالة ويخصص عموم هذه الآية لأنها ظنية الدلالة لعمومها، وخالف الأحناف لأن الحديث لا يخصص عموم القرآن لأن العام لا يخصصه إلا ما كان قطعي الثبوت كالقرآن والسنة المتواترة أو المشهورة، ولكن العام إذا خصص كان الباقي من أفراده ظني الدلالة وتخصصه سنة الآحاد أو القياس ولهذا فعموم قول الله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] يخصصه الأحناف بالحديث المشهور: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالفَضْلُ رِبًا» فهذا الحديث الذي رواه أحمد والبخاري قد حدد الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والملح ونهى عن بيعها أو التبادل فيها إلا يَدًا بِيَدٍ ومثلاً بمثل منعًا من الربا.
فقال الأحناف: باقي البيوع التي يشملها النص القرآني يخصصها حديث الآحاد أو القياس لأن النص العام بعد هذا التخصيص أصبح ظني الدلالة. ولهذا حرموا التفاضل في الأصناف التي توزن أو تكال أو تتحدد في النوع أو الجنس مع الأصناف الربوية الستة وذلك عن طريق التخصيص بالقياس.
ومنهج الأحناف في عدم تخصيص العام بسنة الآحاد محل نظر فلم يكن معمولاً به قبلهم فنقل البزدوي (2) ما يفيد توسع الأحناف في تخصيص العام بأخبار الآحاد كانتقاض الوضوء بالضحك في الصلاة وبالنوم مضطجعًا وعدم إفساد الصوم بالأكل والشرب نسيانًا.
(1)" المستصفى من علم الأصول " للإمام أبي حامد الغزالي: جـ 1 ص 148 أو " مناهج الاجتهاد ": ص 607.
(2)
" كشف الأسرار " للبزدوي: جـ 1 ص 383، و" مناهج الاجتهاد ": ص 602.
لقد ترتب على القول بظنية ثبوت أحاديث الآحاد أن اتجه فقهاء الرأي إلى عدم الأخذ بها إذا كان حكمها زائدًا عما جاء في القرآن الكريم لأن الزيادة نسخ ولا يؤخذ بالدليل الظني. كما رفضوا تخصص عام القرآن والسنة المتواترة والمشهورة بأحاديث الآحاد لأن الظني لا يعارض القطعي، والتخصيص يكون عند التعارض (1).
ولكن في الأحكام العملية أخذ الأحناف بخلاف هذه القاعدة كانتقاض الوضوء بالضحك في الصلاة وبالنوم مضطجعًا والمساواة في قيمة الدية الشرعية من أصابع اليد الواحدة وغير ذلك من أحكام الفروع ولكن فقهاء مدرسة الحديث يرون أن خبر الآحاد يستقل بتشريع الأحكام فالزيادة فيه على القرآن والسنة المتواترة مقبولة لقضاء النبي بشاهد ويمين المدعي وجلد الزاني المحصن وتغريبه عام لأن التغريب ورد في السنة النبوية.
كما اختلفوا في دلالة النصوص العامة في القرآن والسنة فترى مدرسة الحديث أنها ظنية وبهذا يخصص عام القرآن والسنة المتواترة بأحاديث الآحاد، بينما ترى مدرسة الرأي أن العام مثل الخاص قطعي الدلالة وبالتالي أحاديث الآحاد لا تخصص عام القرآن والسنة المتواترة وهذا لا يظهر إلا عند تعارض النصوص في الظاهر فإن عرف المتأخر منهما كان ناسخًا وعمل به، فإذا لم يعرف المتأخر يعمل بقطعي الثبوت منهما وهو القرآن والسنة المتواترة ومثلها المشهورة وهذا ثبت الرجم عند الأحناف بالسنة النبوية لأنه إذا لم يعرف تاريخ العام والخاص كان العام هو الأخير احتياطًا ونسخ المتقدم (3).
«وتخصيص العام عند الجمهور يعني قصر العام على بعض أفراده بدليل مستقل أو غير مستقل مقارن أو غير مقارن» . [" أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء " الدكتور مصطفى سعيد الخن: ص 206].
قال الآمدي: «إِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ إِلَاّ بِخِطَابٍ مِنَ الشَّارِعِ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِالقِيَاسِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الأَدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ. [" الإحكام ": 3/ 161.].
(2)" الإسلام عقيدة وشريعة ": ص 75 وكتابه " الفتاوى ": ص 62.
ومن هذا يتضح عدم سلامة منهج الأحناف بشأن أحاديث الآحاد، فهم نظريًا يقولون بعدم قدرتها على تخصيص عام القرآن والسنة المتواترة وعمليًا يأخذون بها.
إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقبلون الحديث النبوي ويعملون به، دون أن يفرقوا بين الآحاد والمتوتر ولكن بعضهم كأبي بكر يستشهد مع الراوي آخر ليتأكد من نسبة الحديث النبوي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانوا يعملون بالسنة النبوية كلها لأنها البيان الإلهي للقرآن الكريم لقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
فقد أمر الله بقطع يد السارق في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38]. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه أنه لا قطع في ربع دينار فصاعدًا، فأخذ الصحابة والتابعون بعدهم بالحديث ولم يبحثوا عن القطعي والظني من السنة بل لم يكن عندهم هذا الاصطلاح.
إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأون الفاتحة في كل ركعة من الصلاة امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه " مسلم ": «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» أي ناقصة، وقوله:«لَا صَلَاةَ إِلَاّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» . ولم يقل أحد منهم أن هذا الحديث النبوي من سُنَّةِ الآحاد فلا يخصص قول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، ومن ثم وجب أن نتبع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فقد حذرنا من الابتداع فقال فيما رواه " مسلم ":«مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» .
وعلى ذلك فسنعرض بإيجاز لشبهة التعارض بين النصوص ونسخ الأحكام وذلك من خلال هذه الحقيقة وليس من خلال المصطلحات المؤدية إلى عدم الوفاق.