الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
72 - رَدُّ العَقْلِ لِلْسُنَّةِ:
يقول شيخنا محمد سعاد جلال في مقاله الأخير: «إن الحديث النبوي له صورتان في الانقطاع. الانقطاع الظاهر وهو انقطاع السند بسقوط فرد أو أكثر من سلسلة السند وهو يقضي بعدم حجية الحديث، والانقطاع الباطن أي أن يكون سند الحديث متصلاً لكن يقع معناه على خلاف مقتضى العقل فيكون ذلك من أسباب انقطاع معناه وترك العمل به» .
ولقد نسب هذه المقولة إلى الخوارج وعززها بقوله: «إن روح العصر الحاضر ومشاعر الناس في هذا الزمن لم تعد تحتمل وقع هذه العقوبة الشنيعة وأصبح ذلك موضع نقد موجه إلى أحكام الفقه الإسلامي الاجتهادي لا نقول إلى الشريعة الإسلامية وهو نقد غير مرفوض حتى من وجه نظر الشريعة نفسها، لأن الشريعة يجب أن تكون فيما لا يصطدم بقطعي أداة قانونية مرنة موظفة للتعبير مشاعر الجماهير المتطورة بتطور العصر» .
هذا الذي يؤمن به شيخنا ويدعو المسلمين للإيمان به يحتاج إلى وقفة موضوعية لأن الإيمان به من شأنه أن يصبح كل من يظن أن عقله قد بلغ مرتبة الاجتهاد حاكمًا على النبي صلى الله عليه وسلم فيرد ما يشاء منها ويحل منها ما يشاء ويحرم ما يشاء وبهذا يصبح عند المسلمين الآلاف من الأرباب الذين يملكون التحليل والتحريم وهذا ما حذر منه الله في القرآن الكريم وفصله في السنة النبوية.
ولسنا ندري ما هو العقل الذي سيحكم على الحديث النبوي بعدم حجيته وعدم جواز العمل به لأن معناه يخالف العقل مع أنه ليس مما يخضع للتجارب المادية والنبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله قد أخبر أن شؤون الدنيا تخضع لعقول الناس وتجاربهم فقال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ» (*). أما ما يخرج عن نظام الحواس فلا يختص به الناس: أي لا يخضع للعقل.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) انظر التعليق بالصفحة 355 من هذا الكتاب.
إن الإسلام قد صحح الانحرافات التي مارسها كثير من رجال الدين من أهل الكتاب حيث زعموا أن بيدهم صكوك الغفران والحرمان فجاء القرآن وأبطل اختصاص هؤلاء بالتحليل والتحريم. فهل تعود هذه الانحرافات مرة أخرى تحت اسم جديد هو حكم العقل؟. إن العقل لا يصدق أن يرد عالم البصر للأعمى أو يحيي الموتى ولكن القرآن قد أخبر أن نبي الله عيسى فعل ذلك فصدقنا ذلك وقبلناه لا بحكم العقل بل بالإيمان بصدق القرآن.
والإيمان بصدق النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يجعلنا نقبل الأحكام التي جاء بها عن طريق السنة أو القرآن.
كما أن عقول الأوربيين تحسن الزنا وتراه أمرًا عاديًا وليس جريمة في حق المجتمع، فهل تصبح هذه العقول حكمًا على سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سواء نطق بهذا الحكم شخص غير مسلم أو نطق به مسلم بلسانه لكنه أوروبي بعقله وبيانه.
إن مشاعر أصحاب هذه العقول لا تحكم على الله ورسوله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. إن مشاعر ملايين من البشر في روسيا قد تقبل أن يقتل السارق ولكنها لا تقبل أن تعاقب الزوجة الزانية بأدنى العقوبات، ومشاعر دعاة الحرية الجنسية ترى أن الرجم عقوبة شنيعة بينما رجم القرى والمدن بأهلها بوابل من القنابل في لبنان وفلسطين وأفغانستان وإرتريا وكشمير وتشاد والفلبين لا يعد أمرًا شنيعًا أو ماسًا بمشاعر الناس، ومع هذا يصبح من الاجتهاد في شرع الله أن يقال إن اعتراض هؤلاء على عقوبة الزنا نقد غير مرفوض من وجهة نظر الشريعة نفسها حسبما يزعم الشيخ متجاهلاً أن الطب أثبت أن الزنا يضر بالفرد والمجتمع.
ثم من هو الذي يملك أن يتحدث وحده باسم الشريعة ليقول: إن هذا النقد مقبول من وجهة نظر الشريعة. إن الشريعة الإسلامية لا تعبر عن مشاعر الجماهير المتطورة بتطور العصر، فهذه المشاعر تحل الزنا والخمر والقتل الجماعي وغير ذلك من الموبقات والمهلكات، وقد جاء الإسلام لتحكم نصوصه من قرآن
وَسُنَّةٍ على أعمال هؤلاء وتصحح أخطاءهم فكيف تتبع الشريعة مشاعرهم.
حسبنا أن الله تعالى قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].
وحسبنا قول الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، وبالله تعالى نعتصم ونتأيد (1).
(1) نشر هذا بجريدة " الوطن " يوم الجمعة 1/ 10 / 1982 م رَدًّا على مقاله المنشور يوم 10/ 9 / 1982 م (22/ 11 / 1402 هـ).