الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
61 - السُنَّةُ وَتَفْسِيرُ القُرْآنِ:
إن السنة النبوية هي البيان النبوي المكمل للقرآن الكرم، وقد امتن الله على المؤمنين بهذا فقال عز وجل:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وفي هذا قال الإمام الشافعي: «ذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: " الحكمة سُنَّةُ رسول الله» (1).
لقد جعل الله من خصائص الرسول البيان وهو تفصيل القرآن الكريم، إما زيادة عما ورد في القرآن أو تخصيصًا لعمومه وتقييدًا للأحكام المطلقة به، بل جعل سلطانه شاملاً لجميع الأمور صغيرها وكبيرها، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} (2).
وفي هذا قال ابن القيم: «فَإِذَا [جُعِلَ] مِنْ لَوَازِمِ الإِيمَانِ أَنَّهُمْ لَا يَذْهَبُونَ
(1)" الرسالة ": ص 78.
(2)
[سورة النور، الآية: 62].
مَذْهَبًا إذَا كَانُوا مَعَهُ إلَاّ بِاسْتِئْذَانِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ لَا يَذْهَبُوا إلَى قَوْلٍ وَلَا مَذْهَبٍ عِلْمِيٍّ إلَاّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، وَإِذْنُهُ [يُعْرَفُ بِدَلَالَةِ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ فِيهِ]».
إن كل ذي حس وبصيرة يدرك أن قول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقوله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وغير ذلك مما ورد في القرآن عن طاعة الرسول كلها آيات بينات على لزوم السنة وحفظ الله لها، إذ لو كان القرآن وحده هو المصدر التشريعي للمسلمين لما كان لهذه الآيات وغيرها معنى لأنها تشير إلى بيان الرسول، وهذا البيان ليس في القرآن الكريم، لهذا أمر الله بطاعة الرسول فيما أمرنا به أو نهانا عنه.
كما جاءت السنة النبوية بأحكام ليست في القرآن الكريم مثل تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في الزواج (1).
ومنها عقوبة شرب الخمر ورجم الزاني المحصن وميراث الجدة، كما خصصت السنة أحكامًا جاءت عامة في القرآن، فالله تعالى يقول: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
…
} [النساء: 11]. ولكن جاءت السنة وخصصت هذا بحديث: «لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ» (2).
وفصلت السنة أمورًا كانت مجملة في القرآن مثل عدد الصلوات ومواقيتها وكيفيتها ومناسك الحج والأموار الخاضعة للزكاة وشروط ذلك وأحكام الصوم.
ولقد أجمع أهل الإسلام على أن هذه الأحكام واجبة كتلك الواردة في القرآن ولا فرق ولكن يوجد بين الفقهاء خلاف لفظي في وصف السنة فنجد
(1)" البخاري ": 7/ 11، و" مسلم ": 4/ 135.
(2)
أخرجه " البخاري " و" مسلم " وأصحاب السنن.
الشافعي يقول: «السُنَّةََ لَا نَاسِخَةٌ لِلْكِتَابِ، وَإِنَّمَا هِي تَبَعٌ لِلْكِتَابِ
…
» بينما يقول: «وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ فِيمَا لَيْسَ فِيه نَصُّ الكِتَابِ» (1)، والشافعي مع قوله:«السُنَّةََ لَا نَاسِخَةٌ لِلْكِتَابِ» يأخذ بحديث: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ولكنه يصفه بأنه مخصص لعموم قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]، وليس ناسخًا لها.
بينما يرى غيره أن هذا الحديث ناسخ لهذه الآية وليس مخصصًا لها، فالخلاف في هذه الاصطلاحات ليس له أثر على العمل بالسنة النبوية، فمن قال: السنة مبينة للقرآن كمن قال: إنها مفسرة له، فكلاهما يأخذ بالسنة إن جاءت بحكم جديد ليس في القرآن، والفارق بينهما أن الذي يقول: إن السنة مفسرة يرد أحكام السنة إلى أصل عام في القرآن وبالتالي لا يرى أن الحديث زائد عن القرآن، والذي يرى أن السنة مبينة أو مكملة للقرآن يستند إلى ما جاء في القرآن، الذي يرى أن السنة مبينة أو مكملة للقرآن يستند إلى ما جاء في القرآن من وجوب طاعة الرسول، فالخلاف يرجع إلى اختلافهم في الوصف أو النظر إلى صفة السنة وليس في وجوب العمل بها ولهذا قال الشافعي:«وَكُلَّ مَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ فَقَدْ أَلْزَمَنَا اللهُ اِتِّبَاعَهُ» .
أ - ولكن منهم من يصف هذا القضاء الزائد بأنه تفصيل لنص عام في القرآن فلا نجد في السنة حكمًا إلا وقد دل القرآن عليه إجمالاً أو تفصيلاً، فهي في تصورهم «بَيَانٌ لِمَا فِيهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهَا رَاجِعَةً إِلَيْهِ» (2).
ب - ومنهم من يصف حكم النبي الزائد عما ورد في القرآن الكريم، بأنه استقلال في التشريع، وفي هذا يقول الأوزاعي: «الكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُّنَّةِ
(1)" الرسالة ": جـ 2.
(2)
" الموافقات " للشاطبي: جـ 4 ص 12، 13.
مِنَ السُنَّةِ إِلَى الكِتَابِ»، وقال ابن عبد البر:«يُرِيدُ أَنَّهَا تَقْضِي عَلَيْهِ وَتُبَيِّنُ المُرَادَ مِنْهُ» (1). وقال آخرون: «يَجِبُ أَنْ يَكُونَ المَعْلُومُ لَدَى جَمِيعِ المُسْلِمِينَ أَنَّ القُرْآنَ أَحْوَجَ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ السُنَّةِ إِلَى القُرْآنِ، فَالسُنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الكِتَابِ وَلَيْسَ الكِتَابُ قَاضِيًا عَلَى السُنَّةِ» (2).
ولكن هذه الأوصاف غير دقيقة فقد كان جواب الإمام أحمد عن القول: «السُنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الكِتَابِ» قوله: «مَا أَجْسُرُ عَلَى هَذَا [أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ]: إِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ» (3).
فالقرآن والسنة مصدرهما واحد هو الوحي عن الله تعالى، فهما شيء واحد يعملان معًا في تنسيق كامل ويفترقان في أن القرآن معجز في لفظه ومعناه، والسنة معجزة في معانيها فقط لأن المعنى من الله واللفظ من النبي الذي أجاز الرواية:«إِنَّ القُرْآنَ وَالسُنَّةَ لَهُمَا مَقَاصِدَ وَاحِدَةً فِي جُمْلَتِهَا وَهِي مُتَّسِقَةً بَيْنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ بِحَيْثُ نَجِدَ أَحْكَامًا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ فِي القُرْآنِ وَأَحْكَامًا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ فِي السُنَّةِ لِيَظَلَّ النَّاسُ فِي حَاجَةٍ دَائِمَةٍ إِلَى الكِتَابِ وَالسُنَّةِ مَعًا فِي كُلِّ زَمانٍ وَمَكَانٍ» (4).
لقد أخرج الخطيب والسمعاني بسنديهما إلى عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كان جالسًا ومعه أصحابه كَانَ جَالِسًا وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: «لَا تُحَدِّثُونَا إِلَاّ بِالقُرْآنِ» ، فَقَالَ لَهُ:
(1)" جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: جـ 2 ص 191.
(2)
بحث للشيخ محمد المبارك نشر بمجلة " الدعوة " الصادرة بالقاهرة في غرة ذي الحجة 98 هـ، العدد 30: ص 48.
(3)
" جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: جـ 2 ص 191.
(4)
كتاب " تفسير الرسول للقرآن " للأستاذ محمد العفيفي، وهو كتاب جديد يركز على المنهج الذي تبناه في كتابه " المعجزة القرآنية " وكتابه " القرآن القول الفصل بين كلام الله وكلام البشر " ولكنه ينفرد عنهما بتبيان مفصل لدور السنة النبوية وصلتها بالقرآن والحياة.
[ادْنُهْ] ، فَدَنَا ، فَقَالَ:" أَرَأَيْتَ لَوْ وُكِّلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى القُرْآنِ أَكُنْتَ تَجِدُ فِيهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَصَلَاةَ العَصْرِ أَرْبَعًا وَالمَغْرِبَ ثَلَاثًا؟ ، تَقْرَأُ فِي اثْنَتَيْنِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ وُكِّلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى القُرْآنِ أَكُنْتَ تَجِدُ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ سَبْعًا وَالطَّوَافَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ قَوْمُ خُذُوا عَنَّا فَإِنَّكُمْ ، وَاللَّهِ إِلَاّ تَفْعَلُوا لَتَضِلُّنَّ ". فالقرآن أحكم ذلك والسنة تفسر ذلك (1) والقرآن الكريم قد أمر بالعمل بالسنة النبوية، قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} (2)، وقال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59]. وفي هذا قال ابن حزم: «القُرْآنُ وَالخَبِرُ الصَّحِيحُ [بَعْضُهَا] مُضَافٌ إِلَى بَعْضٍ وَهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي أَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (" الأحكام ": جـ 1 ص 88).
ولهذا نفى الله الإيمان على من ينكر سنة النبي وحكمه، فقد قال عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. من أجل ذلك قال الإمام الشوكاني (3): بـ «ثُبُوتِ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ وَاسْتِقْلَالَهَا» .
فالقرآن والسنة هما المصدران الرئيسيان للشريعة الإسلامية، أما الإجماع والقياس وغيرهما من المصادر الأخرى فهي ليست مصادر مستقلة، فلا يؤخذ منها الحكم لأنها بذاتها واجبة الاتباع، بل هي طرق للتعبير وبناء الحكم من المصدر وهو الكتاب والسنة، وهي لا تنشئ حكمًا بل تكشف عنه.
ولقد أشرت إلى هذا في الفصل الثامن عن الإجماع والنسخ.
(1) كتاب " الحديث النبوي " للأستاذ محمد الصباغ: ص 20.
(2)
[الحشر: 7].
(3)
" إرشاد الفحول " للإمام محمد بن علي الشوكاني: ص 29.