الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
28 - أَحَادِيثُ الآحَادِ بَيْنَ الظَنِّ وَاليَقِينِ:
إذا كان قد نقل عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه يقدم عمل أهل المدينة على أحاديث الآحاد، وعن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يقدم القياس على سنة الآحاد.
فذلك كان قبل تدوين السنة وتمحيصها ومعرفة الصحيح منها وغير الصحيح، وبالتالي فكان عمل أهل المدينة أو القياس أكثر اطمئنانًا عندهما من الحديث الذي لم يثبت، وهما لا يقدمان شيئًا على الحديث الصحيح، ومن ثم نقل عنهما وعن غيرهما إذا صح الحديث فهو مذهبي.
من أجل ذلك رحل محمد بن الحسن (صاحب أبي حنيفة) من العراق إلى المدينة، والتقى الإمام مالك وقرأ عليه " الموطأ " ثم قارنه بما لدى شيخه أبي حنيفة من أحكام، بحيث إذا وجد في مذهب الأحناف حكمًا يخالف حديثًا صحيحًا أثبت الحكم من الحديث وترك القياس (1).
ولم يكن " صحيح البخاري " أو " مسلم " موجودًا حتى يرجع إليهما الفقيه محمد بن الحسن.
(1)" حجة الله البالغة " و" الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف " للإمام ولي الله الدهلوي: ص 52، 53.
وأيضًا رحل أبو يوسف الصاحب الثاني لأبي حنيفة إلى المدينة، وقرأ " الموطأ " وصحح ما لديه من الفقه.
كما كثرت المناظرات العلمية في هذا الشأن، من ذلك مناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن في حجية أحاديث الآحاد واقتناع الأخير بعدم جواز تقديم القياس عليها، ولهذا أيضًا نجد الإمام النووي في " المجموع " ينقل رأي شيخه الشافعي، فإذا وجد حديثًا صحيحًا أثبته وقال: وهذا هو المذهب.
إننا لا نجد في أن خلافًا وقع بشأن مدى ثبوت أحاديث الآحاد ولكنه لا مجال له اليوم، ولذا يقول أبو الطيب صديق حسن خان:«والخلاف في إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم مقيد بما إذالم يضم إليه ما يقويه وما إذا انضم إليه ما يقويه، أو كان مشهورًا أو مستفيضًا، فلا يجدي فيه الخلاف المذكور، ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع عليه، قد صيره من المعلوم صدقه، وهكذا خبر الآحاد إذا تلقته الأمة بالقبول» .
وقد أوضح ابن الصلاح أن ما رواه البخاري أو مسلم مقطوع بصحته، عدا ما تكلم فيه أهل الثقة من الحفاظ كالدارقطني، وقال ذلك ابن كثير في " علوم الحديث "، ونقله العراقي في " شرحه على ابن الصلاح " عن الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي وأبي إسحاق الإسفراييني والقاضي أبي الطيب وأبي أسحاق الشيرازي، ونقله أيضًا عن السرخسي الحنفي أو عن القاضي عبد الوهاب (من المالكية) وعن أبي الخطاب وأبي يعلى من الحنابلة وعن أكثر أهل الحديث، ورجح ذلك الحافظ ابن حجر (1).
(1)" الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث " لابن كثير: ص 16، وكتاب " الحديث حجة في العقائد والأحكام " للشيخ محمد [ناصر الدين] الألباني: ص 58، و" علوم الحديث ": ص 25.
ولما كان الأحناف يرون أن الحديث المستفيض يوجب العلم به، وكان حديث الآحاد في اصطلاحهم هو ما رواه في الطبقات الثلاث (الصحابة والتابعين وتابع التابعين) عدد لا يبلغ حد التواتر، وكان حد التواتر من خمسة رواة فأكثر.
وكان من الاصطلاح عندهم أن الحديث إن اشترك في روايته اثنان أو أكثر يسمى عزيزًا، وإن كان الرواة في أي طبقة أكثر من ثلاثة سمي مشهورًا ومستفيضًا. فإنه لا يوجد ضوابط يعتمد عليها للتفرقة بين الآحاد والمشهور أو المتواتر، إذ أن زيادة رَاوٍ وَاحِدٍ لحديث الآحاد ينقله إلى المشهور وزيادة رَاوٍ وَاحِدٍ إلى الخبر المشهور يجعله متواترًا، فضلاً عن أن هذه الشروط لم تكن عند صحابة رسول الله فقد كان حديث الآحاد عندهم مقبولاً في العقائد وغيرها. والقرآن يثبت الحقوق بشهادة اثنين من العدول.
وعلى ذلك فلا يحل لمسلم أَنْ يَرُدَّ حديثًا صحيحًا أو أن يزعم أن العمل به غير جائز في أمور العقيدة أو في المعجزات أو في الشؤون الدستورية أو في العقوبات أو الحدود، ولو جاز هذا المنطق لما وجد ما يمنع هؤلاء أو غيرهم من القول بأن أحاديث الآحاد لا يعمل بها في الأمور الاقتصادية لخطورتها أو في المعاملات لأهميتها، وبالتالي يصبح الإسلام طقوسًا أو لا يحكم حياة الناس ومعاملاتهم ويخضع لقاعدة (دَعْ مَا لِقَيْصَرْ لِقَيْصَرْ، وَمَا للهِ للهِ)، أو يصبح الإسلام اشتراكية علمية حسب الأسلوب الأخير للبلاشفة، وهو الزعم بأن الماركسية نظام اقتصادي ولا شأن له بالأديان، والمسلم الذي يطبق العدل الماركسي إنما يطبق الإسلام.
وتكون النتيجة أن الإسلام لا يمنع أن نأخذ بالماركسية كنظام اقتصادي أو بالرأسمالية كنظام عالمي، ورحم اللهُ أئمة المذاهب الجماعية فلو كانوا يعلمون أن تقسيم الحديث سيؤدي إلى هذه النتائج ما أقروا التقسيم.