الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
35 - المَذَاهِبُ وَالخِلَافُ الفِقْهِيُّ:
لقد تميز عصر الصحابة رضي الله عنهم بقلة الخلاف في الأحكام الشرعية، لأنه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يرجعون إليه في جميع الأمور، فيبين لهم حكم الله تعالى فيعملون بهذا الحكم ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحياة العملية، فيصلون كصلاته ويحجون كحجه دون أن يسألوا عن الفرائض والسنن، حيث كانوا يلتزمون بكل ما صدر عنه قولاً أو عملاً.
كما كانوا لا يكثرون من السؤال، وفي هذا روى الطبراني في " الكبير "(*) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا سَأَلُوهُ إِلَاّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ، كُلُّهُنَّ فِي القُرْآنِ، مِنْهُنَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ} [البقرة: 217]
…
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]».
غير أنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر اتجاهان في الفقه:
الأول يتمسك بظواهر نصوص القرآن والسنة النبوية حتى سمي أصحابه بـ (مدرسة الحديث)، وكان من أشهر رجالها زيد بن ثابت، عبد الله بن عباس، عبد الرحمن بن عوف، الزبير بن العوام، أبو عبيدة بن الجراح، وابن عمر [" المدخل لدراسة القرآن والسنة " للدكتور شعبان إسماعيل: جـ 2 ص 315].
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)" المعجم الكبير " للطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي: 11/ 454، حديث رقم 12288، الطبعة الثانية، نشر مكتبة ابن تيمية - القاهرة.
انظر أيضًا: " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري:2/ 1062، حديث رقم 2053، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.
والاتجاه الثاني كان يأخذ بالرأي عند انعدام النصوص الشرعية أو لترجيح فهم بعضها على الآخر، ولهذا أطلق على أصحاب هذا التيار اسم (مدرسة الرأي) وقد ظهر منهم الصحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأم المؤمنين عائشة. [" الاجتهاد بالرأي " للدكتور خليفة بابكر: ص 197].
وقبل تدوين السنة وتمحيص الفقه اتسع الخلاف بين المدرستين بسبب قلة الأحاديث النبوية عند أهل الكوفة من أصحاب مدرسة الرأي، ولعدم تثبت بعض أصحاب مدرسة الحديث من بعض الأحاديث كان منهم من يقدم القياس أو عمل أهل المدينة على بعض النصوص الشرعية التي لم تكن قد شاعت وثبت صحتها. فلم يأخذ بحكم خيار البيع كل من الإمام أبو حنيفة وهو من مدرسة الرأي، والإمام مالك وهو من مدرسة الحديث، لأن الحكم الشرعي جاء به حديث غير متواتر ولا مشهور فلم يعملا به لعدم شهرته بين التابعين.
وظن هذان الإمامان أن هناك علة في الحديث أدت إلى عدم شهرته وإلى عدم العمل به، ولكن يرجع السبب في ذلك إلى أن السنة النبوية لم تكن قد جمعت كلها ومحصت، ومن ثم عندما تحقق ذلك تبين أن هذا الحديث عند البخاري ومسلم مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ:«إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» [" مناهج الاجتهاد ": ص 114، 120].
ومن قبيل عدم العلم بالسنة ما رواه الإمام مالك وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق أنه لم يحكم للجدة بالميرات وقال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن ميراثها شيئًا، وسأل الناس في المسجد بعد صلاة الظهر، فقام المغيرة بن شعبة وقال: أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم السدس، فقال الخليفة: أيعلم ذلك أحد غيرك؟ قال: محمد بن مسلمة، فصدقه الخليفة وحكم للجدة بهذا الميراث.
وفي الطبقة الثالثة كثرت الرحلات العلمية بين العلماء والفقهاء، كما
كثرت المناظرات وتوفرت السنة النبوية بسبب جمعها وتمحيصها، وأصبح من المتفق عليه أنه لا يحل ترك هذه السنة والعمل بالقياس أو بالرأي أو بعمل بعض التابعين من أهل المدينة أو غيرهم. كما أصبح من المُسَلَّمِ بِهِ أَيْضًا أن الرأي أو الاجتهاد طريق لاستنباط الحكم الشرعي عند عدم وجود الحكم في القرآن أو في السنة النبوية.
غير أنه في نهاية القرن الرابع الهجري انتشرت المذاهب الجماعية واستقرت وانتسب كل فقيه إلى مذهب بعينه لا يتعداه حتى سمي هذا العصر بعصر التقليد، بل أطلق عليه في المرحلة الأخيرة منه اسم عصر الجمود، وأشيع أن باب الاجتهاد قد أغلق حتى أصبح قول إمام المذهب كالنص الشرعي فلا يجوز مخالفته.
وهذا يخالف ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ظل عليه السلف الصالح حتى القرن الرابع الهجري، فكان المسلم لا يقلد مذهبًا بعينه إذ يأخذ عن العالم الثقة بغير اعتبار لمذهبه، بل كان أئمة المذاهب الجماعية يرفضون هذا التقليد. وعندما أراد الخليفة جمع الناس على رأي واحد في الفقه طلب من الإمام مالك أن يضع كتابًا يتجنب فيه رخص ابن عباس وتشدد ابن عمر وشواذ ابن مسعود ويوطئه للناس توطيئًا.
غير أن الإمام مالك عندما فرغ من وضع الكتاب وسماه " الموطأ " رفض أن يلزم المسلمين به وقال: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لَا تفعل هَذَا، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ [إِلَيْهِمْ] أَقَاوِيلَ، وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ، وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ بِمَا سَبَقَ [إِلَيْهِمْ]
…
».
وفي هذا أيضًا روى ابن حزم بسنده أن الإمام مالك قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطىءُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي فَكُلُّ مَا وَافَقَ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقْ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَاتْرُكُوهُ» .
كما روي عن الإمام أبي حنيفة في كتاب " اليواقيت والجواهر " مثل ذلك وعند الحاكم والبيهقي عن الإمام الشافعي أنه قال: «إذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي» .
فليس لمسلم أن يترك الحديث الصحيح ويعمل بقول أحد من الناس. ولهذا عندما أجاب ابن عباس رضي الله عنه بالحديث النبوي وقال السائل: قال أبو بكر وعمر، كان جواب ابن عباس:«يوشك أن تسقط عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر» .
ولكن الذي يجتهد في فهم النص الشرعي ابتغاء مرضاة الله فيتمسك بفهم لا ترده قواعد اللغة يكون مأجورًا ولو أخطأ في الحكم، فقد روى " البخاري " و" مسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا [حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ] ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» . وهذا كله إذ كان من أهل الاجتهاد.
وفي هذا روى " البخاري " و" مسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد غزوة الخندق: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَاّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» ، فأدركتهم الصلاة في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وقال بعضهم لم يرد منا هذا، فصلوا في الطيق، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف سبب حثه الصحابة ليصلوا العصر في بني قريظة وهو سرعة الوصول بغير تأخير، وبالتالي لم يرد تغيير مواقيت الصلاة، والذين صلوا في الطريق كانوا أصوب فعلاً ولكن لم يعب على الذين تمسكوا بعموم الأمر وظاهره لأنهم اجتهدوا في فهم المراد من الأمر النبوي.