الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليال حتى رماه الله بمرض العدسة فقضى عليه، وكانت قريش تتّقي هذا المرض، فتركه ابناه بعد موته ثلاثا حتى أنتن، فقال لهما رجل من قريش:
ألا تستحيان، إن أباكما قد أنتن في بيته، ألا تدفنانه؟ فقالا: إنا نخشى عدوى هذه القرحة، فقال: انطلقا وأنا أعينكما عليه، فغسلوه قذفا بالماء من بعيد ما يدنون منه، ثم احتملوه إلى أعلا مكة فأسندوه إلى جدار ثم ردموا عليه الحجارة. وهكذا شاء الله سبحانه وتعالى أن يموت هذه الميتة الشنيعة لعداوته للرسول ومناهضته للإسلام، وعدم رعايته للرحم حرمة.
ومكثت قريش تنوح على قتلاها مدة، ثم تواصوا فيما بينهم وقالوا:
لا تفعلوا، يبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم. وكذلك تواصوا ألايسرعوا في بذل الفداء، وقالوا: لا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم، لا يأرب «1» عليكم محمد وأصحابه في الفداء، وكان هذا من تمام ما عذّب الله به أحياءهم في ذلك الوقت، فإن البكاء مما يبل فؤاد الحزين، ويخفف من لوعة الحزن وهول المصاب، وكان الأسود بن المطلب قد أصيب في ثلاثة من ولده: زمعة، وعقيل، والحارث، فقال لغلام له: هل بكت قريش على قتلاها لعلّي أبكي على ولدي، فإن جوفي قد احترق.
افتداء الأسرى
ولم تطق قريش الصبر على ما اتفقوا عليه من عدم التسارع إلى الفداء، وانسلوا واحدا وراء الاخر، وقد كان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاءكم في طلب فداء أبيه» ، فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم، قال المطلب بن أبي وداعة: صدقتم لا تعجلوا، وكان هو أول من نقض هذا، فانسل من الليل وقدم المدينة، وفدى أباه بأربعة الاف درهم، وكان هذا أول أسير فدي، ثم بعثت قريش في فداء أسراهم.
(1) قال في النهاية في تفسير هذا الخبر: أي يتشدّدون عليكم في طلب الفداء.
فقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، وكان سهيل رجلا أعلم «1» من شفته السفلى، فقال عمر بن الخطاب لرسول الله:(دعني أنزع ثنية سهيل بن عمرو فيدلع «2» لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا)، فكان جواب النبي هذا الجواب البالغ السمو في الرحمة والإنسانية:«لا أمثّل، فيمثّل الله بي، وإن كنت نبيا وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه» . وقد صدقت نبوءة الرسول، فإنه لما جاور الرفيق الأعلى أراد بعض أهل مكة الارتداد كما فعل غيرهم من الأعراب والمنافقين، فقام سهيل هذا خطيبا وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله:
(أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ألم تعلموا أن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، ثم قال: والله إني لأعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها، فلا يغرنّكم هذا يريد أبا سفيان «3» - من أنفسكم، فإنه يعلم من هذا الأمر ما أعلم، لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وكلمته تامة، وإن الله ناصر من نصره، ومقر دينه، وقد جمعكم الله على خيركم يعني أبا بكر- وإن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه) فتراجع الناس عما كانوا عزموا عليه، فكان معجزة من معجزات النبوة.
ومن الأسرى: عمرو بن أبي سفيان بن حرب، فقالوا له: افد عمرا ابنك فقال: لن يجتمع علي دمي ومالي، قتلوا حنظلة وأفدي عمرا؟ دعوه في أيديهم فيمسكوه ما بدا لهم. فبينما هو كذلك خرج سعد بن النعمان، - وكان شيخا مسلما- إلى مكة معتمرا، فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو،
(1) أعلم: مشقوق الشفة.
(2)
يخرج عند الكلام.
(3)
لم يثبت أن أبا سفيان كان له موقف سيّىء بعد وفاة رسول الله، ولقد أسلم الرجل وحسن إسلامه، وأبلى في فتوح الشام بلاء حسنا (الناشر) .
فمشى قوم سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا صاحبهم به، فأعطاهم إياه فأرسلوه إلى أبي سفيان، فخلّى سبيل سعد.
ومن الأسرى: العباس بن عبد المطلب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق:
لما أمسى رسول الله يوم بدر والأسارى محبوسون بالوثاق بات النبي ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه: مالك لا تنام يا رسول الله؟ فقال: «سمعت أنين عمي العباس في وثاقه» ، فأطلقوه فسكت، فنام رسول الله «1» .
وروى الحاكم في المستدرك عن ابن عمر قال: لما أسر العباس فيمن أسر يوم بدر أوعدته الأنصار أن يقتلوه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه» ، فقال عمر:
أفاتيهم؟ فقال: «نعم» فأتى عمر الأنصار فقال لهم: أرسلوا العباس، فقالوا:
لا والله لا نرسله، فقال عمر: فإن كان لرسول الله رضا؟ قالوا: فإن كان له رضا فخذه، فأخذه عمر، فقال له: يا عباس أسلم فو الله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك.
ومع أن النبي تألّم لألمه وهو في الأسر فقد أبى إلا أن يأخذ منه الفداء، وقد فدى نفسه وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وحليفه عتبة بن عمرو أحد بني الحارث بن فهر بمائة أوقية من الذهب، ولما قال للنبي: إنه لا مال له قال له: «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، وقلت لها: إن أصبت في سفري فهذا لبنيّ: الفضل، وعبد الله، وقثم» ، فقال: والله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما أعلمه إلا أنا وأم الفضل!!!
ولما قال: إنه خرج مستكرها وإنه كان قد أسلم قال له النبي: «أما ظاهرك فكان علينا، والله أعلم بإسلامك وسيجزيك» ، وكذلك أبى أن يتنازل له الأنصار عن الفداء. روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: إن
(1) السيرة مع فتح الباري، ج 7 ص 248 ط بولاق.
رجالا من الأنصار «1» استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا «2» العباس فداءه، فقال:«لا والله، لا تذرون له درهما» «3» .
وهذا غاية العدل والإنصاف في المعاملة، فرسول الله مع رحمته بعمه وشفقته عليه وتخوفه أن يقتل وهو يرجى من ورائه للإسلام خير كثير، تأبى عليه نفسه السامية أن يفرّق بينه وبين الأسارى في الفداء، أو أن يقبل أن يمن عليه الأنصار خشية أن يكون عملهم هذا لمكانه من رسول الله وقرابته، مع أنه صلى الله عليه وسلم منّ على بعض الأسارى دون فداء، وهذا ليس بعجيب ممن كان خلقه القران.
ومن الأسرى: أبو عزّة الشاعر، كان فقيرا ذا عيال، فقال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليّ، فمنّ عليه رسول الله، وأخذ عليه ألايظاهر عليه أحدا، فتعهّد بذلك ومدح الرسول بشيء من شعره.
ثم لم يلبث أن أغراه المشركون بهجاء النبي والمسلمين، ففعل بعد أن تمنّع، وصار يؤلب على المسلمين لأجل أحد، وقد حضر الموقعة فأسر، فسأل النبي أن يمنّ عليه فقال له:«لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين» ، ثم أمر به فضربت عنقه، وقيل: إن الرسول قال له: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» ، قيل: إن هذا من الأمثال التي لم تسمع إلا منه عليه الصلاة والسلام «4» .
ومن الأسرى: الوليد بن الوليد، افتداه أخواه خالد وهشام، فلما افتدي ورجع إلى مكة أسلم، فقيل له: هلّا أسلمت قبل الفداء، فقال: خفت أن
(1) هم بنو النجار، وقد كان وقع في أسرهم، ولعل الذين أرادوا أن يقتلوه غير بني النجار، أو بعض اخر منهم، فلا تنافي بين هذه الرواية والسابقة.
(2)
هم أخوال أبيه عبد المطلب لأن أمه سلمى بنت عمرو من بني النجار ففي الكلام تجوز.
(3)
البداية والنهاية، ج 3 ص 299.
(4)
المرجع السابق، 313.
يعدوا إسلامي خوفا، ولما أراد الهجرة إلى المدينة منعه أخواه، فبقي بمكة حتى فرّ إلى النبي في عمرة القضاء.
ومن الأسرى: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته زينب رضي الله عنها، وهو ابن أخت «1» السيدة خديجة رضي الله عنها، وكان من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، وكان تزوجها قبل النبوة، فلما دعا النبي إلى دين الله مشى رجال من قريش إلى أبي العاص فقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك بأي امرأة من قريش شئت، فقال: لا والله إذا لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش!!
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليه في صهره كما ثبت في صحيح البخاري ويقول: «حدّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي» ، وكان أسر ببدر، فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت السيدة زينب بنت الرسول في فداء زوجها بمال، وفي المال قلادة كانت للسيدة خديجة رضي الله عنها، فأهدتها إليها وأدخلتها بها على أبي العاص، فلما راها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة، وأهاجت في نفسه ذكرى السيدة الجليلة التي واسته بنفسها ومالها خديجة، فقال لأصحابه:«إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا» ، فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردّوا عليها قلادتها.
وكان النبي قد أخذ عليه أن يخلّي سبيل ابنته زينب فوفى بالعهد وأرسلها، فبقيت عند أبيها إلى ما بعد الحديبية، فأسر أبو العاص مرة أخرى، ففر إلى المدينة واستجار بزوجته زينب- وكان الإسلام قد فرّق بينه وبينها- فأجارته، فأقر المسلمون إجارتها له، ورجع إلى مكة ومعه ماله، فأدّى الأمانات إلى أصحابها، ثم عاد إلى المدينة مسلما، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه بعقد ومهر جديدين على الصحيح.
(1) الروض الأنف، ص 81، 83؛ الإصابة، ج 4 ص 122؛ والاستيعاب (على هامش الإصابة) 4 ص 125- 129.
ومن الأسرى: وهب بن عمير بن وهب الجمحي، وكان أبوه شيطانا من شياطين قريش، شديد الإيذاء للرسول وأصحابه بمكة، جلس يوما بعد الحرب مع صفوان بن أمية يتذاكران مصاب بدر، فقال عمير: والله لولا دين علي ليس عندي قضاؤه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد فأقتله، فإن ابني أسير عنده. فاغتنمها صفوان بن أمية فقال له: علي دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم علي، قال: سأفعل.
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له، وسمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، وما أكرمهم الله به، إذ نظر إلى عمير بن وهب وقد أناخ بعيره على باب المسجد متوشحا سيفه، فقال: هذا عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرّش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر، ثم دخل على رسول الله فأخبره فقال له:«أدخله علي» .
فأقبل إليه عمر فأخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبّبه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: أدخلوه على رسول الله، فلما راه وعمر اخذ بحمالة سيفه في عنقه قال:«أرسله يا عمر، أدن يا عمير» فدنا فقال له: «فما جاء بك يا عمير» ؟ قال:
جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه. قال:«فما بال السيف في عنقك» ؟ قال: قبّحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئا؟ قال:«اصدقني ما الذي جئت له» ؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال:«بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمّل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك» .
فقال عمير: أشهد أنك رسول الله!! قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو الله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«فقهوا أخاكم في دينه وعلموه القران، وأطلقوا أسيره» ، ففعلوا.