الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير ما نزل من الايات في تبوك
لقد أنزل الله سبحانه في تبوك ايات كثيرة وإليك تفسيرها موجزا:
قال عز شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ: نزلت في الحث على غزوة تبوك، وكانت في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، حين طابت الثمار والظلال، فكان لابدّ من الترغيب في الخروج، والتنفير من القعود. اثَّاقَلْتُمْ: أصلها تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء فصارت ساكنة، فأتي بهمزة الوصل: أي تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة وطيب الثمار. أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ: أفعلتم هذا رضاء للدنيا بدل الاخرة، ثم زهّد في متاع الدنيا ورغب في الاخرة فقال:
فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، ثم أوعدهم على ترك الجهاد فقال:
إِلَّا تَنْفِرُوا هي إن الشرطية المدغمة في لا النافية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً:
جواب الشرط، يعني في الاخرة، أو فيها وفي الدنيا كمنع المطر عنهم.
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ: خيرا منكم وأطوع. وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً: بترككم النفير. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: فهو ينصر نبيه بدونكم.
ثم بيّن الله أن نصرة نبيه ليست متوقفة عليكم، وإلا فقد نصره الله على أعدائه لما خرج مهاجرا ليس معه إلا صاحبه الصدّيق ولا أعوان معه ولا سلاح، وقد أيده بجنود لم تروها وهم الملائكة، فأنجاه الله منهم وهم مسلحون وهو على قيد أذرع منهم فقال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إلى قوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وهو من الاستطرادات اللطيفة البديعة.
ثم عاد إلى الحث على غزوة تبوك فقال: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: قيل إنها أول ما نزل من سورة براءة، وهو قول سديد يتفق وما روي أن صدر السورة نزل قبيل خروج أبي بكر أميرا على الحج سنة تسع أو بعد خروجه بقليل، وتبوك قبل حجة الصديق قطعا.
ومعناها: شبابا وشيبا، وأغنياء وفقراء، وأقوياء وضعفاء، ومشاة وركبانا، في العسر واليسر، والمنشط والمكره. ثم من العلماء من يرى أن ذلك كان في أول الأمر بسبب ما لابس تبوك من ظروف، ثم نسخ باية لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى.... واية: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ، ومنهم من يرى أنها محكمة، وكان بعض السلف الصالح على هذا، ويخرج للجهاد على أي حال «1» منهم أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن عمرو من الصحابة، ومن التابعين سعيد بن المسيب كما قدمنا.
ذلِكُمْ: أي الجهاد بالنفس والمال خَيْرٌ لَكُمْ: في الدنيا لما فيه من العزّة والظهور على الأعداء، والاخرة لأن الله ضمن للمجاهدين في سبيل الله الجنة. ثم وبّخ الله المتخلفين في تبوك فقال: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً: أي غنيمة قريبة المتناول. وَسَفَراً قاصِداً: قريبا هيّنا. لَاتَّبَعُوكَ: لخرجوا معك.
وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ: المسافة. وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ: لكم إذا رجعتم إليهم قائلين: لَوِ اسْتَطَعْنا: الخروج، لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ
…
: بالتخلف من غير عذر والأيمان الكاذبة.
كان جماعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخلفوا عنه فأذن لهم، وكان الأولى أن لا يأذن لهم لأنهم لا أعذار لهم، فعاتبه الله على هذا، وهذا من ألطف أنواع الكلام، حيث قدّم العفو على العتاب. وهو يدل على غاية إكرام الله لخاتم
(1) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 4 ص 179.
أنبيائه، وحفاوته به فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ.
ثم بين الله أنه لا يستأذنه المؤمنون المخلصون في التخلف عن الجهاد، وإنما ذلك شأن المنافقين فقال: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ: شكت ونافقت، فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ: يتحيرون لا يثبتون على حال.
ثم هوّن الله الأمر على نبيه في شأن المتخلفين، وأنهم لم يكونوا جادّين في اعتذارهم، وأن الخير في عدم خروجهم فقال: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً: من سلاح وكراع «1» ، وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ:
خروجهم معكم مع أمرهم به شرعا، فَثَبَّطَهُمْ: بعد التوفيق وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ: المرضى والزّمنى والنساء والصبيان. أي قال بعضهم لبعضهم ذلك.
ثم بين تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا: أي فسادا وشرا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ: الإيضاع الإسراع، أي لأسرعوا بالسعي فيما بينكم بالفتنة والبغضاء والنميمة، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ: أي مستجيبون لأحاديثهم ووسوستهم. ثم بين الله سبحانه أنهم طالما فكروا في كيدك وخذلان دينك، وتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم، كما فعل ابن أبيّ في أحد، ولكن الله ردّ كيدهم في نحرهم، ونصرك وأظهر دينك، فقال: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ النصر وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ: دينه على كره منهم. قال تعالى:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي: نزلت في الجدّ بن قيس كما قدمنا.
ثم بيّن الله تأصل عداوة هؤلاء المنافقين فقال: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ:
نصر أو غنيمة تَسُؤْهُمْ: تحزنهم وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ: من قتل أو هزيمة
(1) الكراع: بضم الكاف، جماعة الخيل.
يَقُولُوا: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ: أي حذرنا بالقعود عن الغزو وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ: بما نالكم من مصيبة قُلْ لهم يا محمد: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا: هو تعزّ بالقضاء بعد نزول البلاء، ولن يخفف عن الإنسان ألم المصيبة إلا الإيمان بالقدر خيره وشره، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك هُوَ مَوْلانا: ناصرنا وحافظنا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: إما النصر والغنيمة، أو الشهادة والمغفرة وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ: فيهلككم كما أهلك الأمم الخالية أَوْ بِأَيْدِينا بالقتل أو السبي فَتَرَبَّصُوا: ما وعدكم به الشيطان إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ما وعدنا الله به قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً: أي طائعين أو مكرهين. قيل نزلت في الجدّ بن قيس حين اعتذر وقال: أعينكم بمالي لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ: عاصين لله ورسوله.
وبعد أن ذكر الله سبحانه أصنافا من المنافقين ومقالاتهم ونيلهم من النبي والمسلمين رجع إلى أخبار تبوك فقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ: أي مخالفين له أو متخلّفين بعده وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ: أي قال بعضهم لبعض ذلك قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا: في الدنيا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً: في الاخرة جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ: من النفاق فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ: أي ردّك، والمراد بالطائفة الذين تخلفوا نفاقا فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك في غزوة أخرى فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً في سفر وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ:
يعني في غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ: الرجال الذين تخلّفوا بغير عذر وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً
…
: نزلت بسبب صلاة النبي على ابن أبيّ المنافق كما سيأتي، وحكمها عامّ في كل من عرف نفاقه.
قال تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ المعذرون: قرىء بالتشديد من عذر في الأمر إذا قصر فيه، وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما فعل ولا عذر له، أو أصله المعتذرون أدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى
العين، وهم الذين يعتذرون بالباطل، وهم جماعة من الأعراب جاؤوا يعتذرون ولا عذر لهم، وقرأ يعقوب ومجاهد: المعذرون بالتخفيف، وهم المبالغون في العذر، يقال في المثل:«لقد أعذر من أنذر» قال ابن إسحاق: إنهم نفر من بني غفار وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ: يعني المنافقين. قال أبو عمرو بن العلاء: كلا الفريقين كان سيئا، قوم تكلّفوا عذرا بالباطل، وقوم تخلّفوا من غير تكلف عذر، فقعدوا جرأة على الله تعالى، فأوعدهم الله بقوله: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
ثم بيّن الله تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد عن القتال بسببها، سواء ما كان منها لازما لا ينفك عن صاحبه، أو عارضا، فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ، وَلا عَلَى الْمَرْضى، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ: طريق بالعقوبة والمؤاخذة وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ: بهم وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ لتوفر لهم الظهر والنفقة قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ: وهم البكاؤون كما أسلفنا.
وفي الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهو راجع من تبوك: «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا وهم معكم» قالوا وهم بالمدينة؟ قال: «نعم، حبسهم العذر» إِنَّمَا السَّبِيلُ: الحجة بالعقوبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ: النساء جمع خالفة وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ: بسوء اختيارهم فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ:
النافع من الضار.
ثم أعلم الله نبيه بأنه عند رجوعه إلى المدينة سيأتي المنافقون المتخلّفون يعتذرون، وأوصاه بأن لا يصدقهم فقال: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ، قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ: لن نصدقكم قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ فيما سلف وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ: فيما يستقبل، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ: من خير أو شر، ويجازيكم عليهما سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ: إخبار بأنهم سيشفعون اعتذارهم بالأيمان الكاذبة لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ:
لتصفحوا عنهم ولا تؤنّبوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ: احتقارا لهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ:
نجس بواطنهم واعتقاداتهم وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ:
يجترحون من السيئات.
ثم بيّن سبحانه إلحاحهم في الحلف فقال: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ: فلا تركنوا إليهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي إن فرض أنكم رضيتم عنهم فلن يرضى الله عنهم لأنهم فاسقون خارجون عن طاعة الله ورسوله.
ثم بيّن الله طوائف الأعراب أي أهل البدو، وأنّ منهم كفارا، ومنافقين ومؤمنين، وأنهم أعرق في الكفر والنفاق من غيرهم، فقال: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحضر لغلظ قلوبهم، وبعدهم عن مراكز العلم والاستنارة وهي المدن وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أجدر: أحرى لبعدهم عن سماع القران ومعرفة السنن وهما أصل الدين والفقه والعلم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: عليم بقلوب خلقه حكيم فيما شرعه من شرائع.
ثم ذكر صنفا اخر من الأعراب فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً المغرم التزام ما لا يلزم، فهم لا يرجون على الإنفاق ثوابا، ولا يخافون على إمساكه عقابا، إنما ينفقون خوفا ورياء وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ: الحوادث والشرور والافات عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ قرىء بفتح السين وضمها، أي سينزل بهم البلاء والشرور وما يترقبونه للمؤمنين وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: سميع لدعاء عباده، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان.
ثم ذكر الصنف الفاضل المؤمن الخيّر فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ: طاعات تقربهم من الله وَصَلَواتِ الرَّسُولِ: أي دعائه واستغفاره لهم أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ: حقا
وواقعا سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ: جنته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم استطرد سبحانه إلى ذكر خيار المؤمنين فقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ
…
الاية.
ثم بيّن الله أن في الأعراب منافقين، وفي أهل المدينة منافقين فقال:
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ: أي مرنوا عليه لا تَعْلَمُهُمْ يا محمد يقينا، وإنما تعلمهم بعلاماتهم وأماراتهم، فهو لا ينافي قوله سبحانه في سورة محمد: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ «1» أو معناه لا تعلمهم جميعا، وهو لا ينافي أنه كان يعلم بعضهم، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى حذيفة بأسماء بعضهم.
نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ اختلف في تفسير المرتين على أقوال عدة، فقيل الفضيحة في الدنيا وعذاب القبر، وقيل المصائب في الأموال والأولاد، وقيل بافتضاح أمرهم، وبما كان يداخلهم من الغم والحزن عند ظهور الإسلام. والذي يترجح عندي أن المراد به التكثير لا التحديد، فهو مثل قوله سبحانه: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ويكون المراد ما ينزل بهم في الدنيا من بلاء ومصائب وافتضاح، وما كان يحزّ في نفوسهم كلما حصل للمسلمين نصر وظهور وللإسلام انتشار ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ: عذاب جهنم خالدين فيها أبدا.
قال تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الاية، هم أبو لبابة وأصحابه، وقد قدّمنا قصتهم خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ: بها من ذنب تخلفهم بغير عذر كسلا وتهاونا، لا نفاقا ولا شكا وَتُزَكِّيهِمْ بِها: من شبهة النفاق إلى منازل المخلصين، والضمير في أَمْوالَهُمْ* قيل للمذكورين في الاية السابقة فإنهم لما تاب الله عليهم عرضوا على النبي أن يتصدقوا بأموالهم، فأخذ منهم الثلث وترك الباقي، وعلى هذا يكون المراد بالصدقة صدقة النفل كفارة
(1) لحن القول: فحواه ومعناه الذي يفهم منه نفاقهم، وذلك بما يبدو منهم رغما عنهم ويظهر من فلتات لسانهم، وعلى قسمات وجوههم، ورضي الله عن ذي النورين عثمان حيث قال:(ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه) .
لذنوبهم، ومن العلماء من يجعل الاية مستقلة عما قبلها وأنها تشريع عام لجميع الناس فقالوا: إن المراد صدقة الفرض وهي الزكاة.
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: ادع لهم واستغفر لهم إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ:
طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم توبتهم على الأول، وزكاتهم على الثاني، وكان من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه رجل بصدقة قوم دعا لهم أو بصدقته دعا له، وهل هذا الدعاء واجب، أو مستحب، وفي صدقة الفرض أم في صدقة التطوع أم فيهما معا؟ خلاف بين العلماء «1» . أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ: هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحو السيئات وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: ومن شأن التواب أنه يقبل توبة من تاب إليه بشروطها.
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ حثّ للتائبين أن يتداركوا ما فاتهم من الغزو ويعملوا صالحا فيما يستقبلون من أمرهم وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: وعد للطائعين ووعيد للمخالفين بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى يوم القيامة، فيجازيهم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ: هم الثلاثة الذين خلّفوا، فقد قبل الله توبة أبي لبابة وأصحابه، وأرجأ توبة هؤلاء الثلاثة حتى تاب عليهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ: أي هم تحت عفو الله، إن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم، ولكن رحمته تسبق غضبه وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ*: عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، حكيم في أفعاله وأقواله، منزّه عن العبث والهوى.
ثم أنزل الله التوبة عليهم في قوله سبحانه: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ: أي وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها، ويَزِيغُ: يميل ولم يرد الميل عن الدين، بل أراد الميل إلى التخلف والانصراف عن السير للشدة التي
(1) تفسير ابن كثير والبغوي، ج 4 ص 235.
نزلت بهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ*: توكيدا للأولى إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا إلى قوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ: أي وتاب عن الثلاثة، وقد ذكرنا قصتهم سابقا مستوفاة، ومعنى خلّفوا أي أرجىء قبول توبتهم عن توبة أبي لبابة وأصحابه، وقيل تخلّفوا عن غزوة تبوك، ومعنى ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا أي ليستقيموا على التوبة ويستمروا عليها.
قال تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: هذا عتاب من الله للمتخلّفين عن رسول الله في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب، ومعنى ما كانَ*: ما صح وما ينبغي، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ: أي ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن أن يصيبهم من الشدائد ما نزل به، فيختاروا الراحة والدّعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومعاناة التعب، فإنهم حرموا أنفسهم من الأجر ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ: في سفرهم ظَمَأٌ: عطش وَلا نَصَبٌ: تعب وَلا مَخْمَصَةٌ: مجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً: إما مصدر أو اسم مكان يَغِيظُ الْكُفَّارَ: وطؤهم إياه، ونزولهم به وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا قتلا أو أسرا، أو غنيمة أو هزيمة إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ: أي كتب لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم- أعمالا صالحة وثوابا جزيلا، فهو سبحانه لا يضيع عنده شيء مهما قلّ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً: قليلة أو كثيرة وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً: في السير إلى الأعداء إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ* ثواب ما قدموه من نفقة أو قطع واد لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ: أي أحسن جزاء أعمالهم.
وأما ما يتعلق بمسجد الضرار من الايات فقد ذكرناه فيما سبق، وأما ما يتعلّق بالمسجد الذي أسس على التقوى فقد ذكرناه في أول هذا الكتاب أثناء الكلام عن مسجد قباء، والحمد لله الذي هدانا لهذا.