الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حج الصديق أبي بكر بالناس
لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك تواردت عليه الوفود، ودخل الناس في دين الله من كل فج، فلما حلّ موسم الحج أراد الحج ولكنه قال:«إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» . فأرسل الصدّيق أميرا على الحج سنة تسع، وبعث معه بضعا وثلاثين اية من صدر سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم «1» .
فلما خرج دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه وراءه، وقال له:«اخرج بهذه الايات من صدر سورة براءة، فأذّن- أعلم- بها في الناس إذا اجتمعوا» فخرج علي على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم «العضباء» حتى أدرك الصديق أبا بكر بذي الحليفة، فلما راه الصدّيق قال له: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم سارا، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة لا في شهر ذي القعدة كما قيل.
وقد خطب الصدّيق قبل يوم التروية معلّما الناس مناسكهم، ثم خطب يوم عرفة، ويوم النحر، وكان كلما خطب أمير الحج «الصدّيق» قام أبو الحسن «علي» فقرأ على الناس صدر سورة براءة، ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة.
(1) هذا ما عليه الأكثر، وقيل إنها نزلت بعد خروج الصدّيق فأرسل عليا وراءه للحكمة التي سنذكرها.
روى الترمذي في جامعه عن زيد بن يثيع، قال: سألت عليا بأي شيء بعثت في الحج؟ قال: (بعثت بأربع:
ألايطوف بالبيت عريان.
ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة «1» أشهر.
ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.
ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا) .
قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» وخرّجه النسائي أيضا، وفيه قال علي:(فكنت أنادي حتى صحل «2» صوتي) .
وقد أمر الصدّيق أبا هريرة في رهط اخرين أن يؤذّنوا في الناس يوم النحر بهذه الأمور مساعدين لعلي حتى يصل البلاغ إلى الناس جميعا، فلم يكن ثم افتيات عليه، وإنما هي معاونة على الخير. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة قال:(بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان) فكان حميد بن عبد الرحمن بن عوف يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر من أجل حديث أبي هريرة. وبيان ذلك: أن هذا الحديث مع الاية القرانية وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ
…
يدلان على أن يوم النحر «3» هو يوم الحج الأكبر.
وقد ذكر ابن إسحاق أن قريشا ابتدعت قبل الفيل أو بعده ألايطوف
(1) يعني من يوم التبليغ على الصحيح تنتهي في عشر من ربيع الاخر.
(2)
صحل صوته كفرح فهو أصحل. وصحل: بحّ.
(3)
ومن السلف غيرهم من يرى أن يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة. وسمي الحج الأكبر احترازا عن العمرة لأنها تسمى الحج الأصغر.
أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عريانا، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ، ثم لم ينتفع بها، فلما جاء الإسلام هدم ذلك كله فيما هدم من العقائد والخرافات، وقال العلامة ابن كثير:
كانت العرب ما عدا قريشا لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، وكانت قريش- وهم الحمس- «1» يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه، ومن لم يجد ثوبا جديدا ولا أعاره أحمسي ثوبا طاف عريانا، وربما كانت امرأة، فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه
…
وما بدا منه فلا أحلّه
وأكثر ما كان الناس يطوفون عراة بالليل، وكان هذا ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه أهواءهم، ويعتقدون أن فعل ابائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر الله عليهم ذلك فقال:
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «2» .
وقد كان المشركون يجتمعون مع المسلمين في الحج، فأراد الله ألايكون ذلك، فقد دالت دولة الشرك والأوثان، وأصبحت كلمة الله هي العليا، وقد امتثل المشركون فلم يأت مشرك عام حجة الوداع، وانفرد المسلمون بالبيت لا يشاركهم فيه أحد، قال الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
(1) الحمس: جمع أحمس كأحمر، سميت قريش بذلك، لتحمسها أي تشددها على أنفسها في عبادتها ودينها، وقيل: سموا حمسا بالكعبة لأنها حمساء حجرها أبيض يضرب إلى السواد.
(2)
تفسير ابن كثير والبغوي، ج 3 ص 464. والاية هي 28 من سورة الأعراف.