الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصدّيق والقتال
وكان الصدّيق في بدر ملازما للرسول في العريش وخارجه، وبيده السيف يذب به عنه. روي عن علي رضي الله عنه أنه خطب ذات يوم فقال:(يا أيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر. إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا، فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله، لا يهوي إليه أحد من المشركين إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس) . ثم قال: (ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يحادّه، وهذا يتلتله، ويقولون: أأنت جعلت الالهة إلها واحدا؟ فو الله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجاهد هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أو مؤمن ال فرعون خير أم هو؟ فسكت القوم فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن ال فرعون: ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه)«1» .
إمداد الله المسلمين بالملائكة يوم بدر
اتفق العلماء قاطبة على إمداد الله سبحانه للمسلمين يوم بدر بالملائكة، وذلك لقوله سبحانه: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «2» ، وقوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ
…
إلى قوله: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ «3» . وقد حصل هذا الإمداد على مرات بألف أولا، ثم بثلاثة الاف، ثم بخمسة الاف، وبذلك تكمّل الايات بعضها بعضا.
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 271.
(2)
سورة الأنفال: الايتان 9، 10.
(3)
سورة ال عمران: الايات 124- 127.
ولكنهم اختلفوا، أحصل قتال من الملائكة أم لا؟ فذهب الكثيرون إلى حصول القتال فضلا عن البشرى والتثبيت بإبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المسلمين، وذلك لقوله سبحانه:
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ «1» .
واستدلوا أيضا بالأحاديث والاثار الواردة في هذا، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم- اسم فرس هذا الملك-، فنظر إلى المشرك أمامه فخرّ مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه، كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة» .
وروى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: (لم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون عددا ومددا لا يضربون)«2» ، وابن عباس وإن لم يكن حضر الموقعة يومئذ لصغره وعدم هجرته، فلابد أن يكون سمع ذلك من رسول الله فيما بعد، أو من مشيخة المهاجرين والأنصار.
وذهب بعض العلماء إلى أن الملائكة لم تقاتل يوم بدر، وإنما كانت عونا ومددا، تثبّت القلوب، وتبشّر بالنصر، وتكثّر العدد، واستدلوا بقوله سبحانه:
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ «3» ، وقوله: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ «4» . فقد ذكر الله هاتين الايتين بعد ايات
(1) سورة الأنفال: الاية 12.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي ج 12 ص 85.
(3)
سورة الأنفال: الاية 10.
(4)
سورة ال عمران: الاية 126.
الإمداد، وقالوا: إن الخطاب في قوله سبحانه: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ.. إنما هو حكاية لما أمر الله الملائكة أن يلقوه إلى المسلمين يوم بدر «1» .
والذي نراه- والله أعلم- أن الإمداد بالملائكة حصل قطعا لتكثير العدد، وتثبيت القلوب، وإلقاء البشرى، وأن بعضهم قاتل لا كلّهم، وأن الجهد الأكبر في القتال إنما هو للمسلمين، وبذلك لا نكون تعسّفنا في التأويل، وخرجنا عن ظواهر بعض الايات بغير داع، ولا نرد الأحاديث الصحيحة الدالّة على حصول قتال من بعض الملائكة، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وقد يقول قائل: إن صيحة من جبريل أو انتفاضة منه كانت تكفي للقضاء على قريش وإبادتها في لمحة عين، فلم كل هؤلاء الملائكة؟.
وجوابنا عن ذلك أن الله جرت سنته مع الأمة المحمدية ألايأخذها بما أخذ به الأمم السابقة من عموم العذاب والاستئصال، وترك إهلاكهم للسنن العادية التي أجراها الله في عباده، بدفع الكافرين بالمؤمنين، والمبطلين بأهل الحق، والظالمين بالعادلين، فأراد الله سبحانه أن يكون هلاك الكفار بأيدي المؤمنين، ليكون ذلك أنكى لقريش، وأذلّ لها، وأشفى لنفوس المؤمنين، وفي الوقت ذاته أمدّهم بالملائكة تثبت وتؤيد، وتبشّر وتخوف، وتكثر العدد، ولا حرج أن يشارك البعض في القتال كما ذكرنا، وقد أشار الحق إلى هذه الحكمة في قوله:
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ.
إلى قوله:
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ «2» .
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 279- 281.
(2)
سورة التوبة: الايات 14- 16. انظر تفسير ابن كثير والبغوي.