الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حادثة الإفك
وهي حادثة أخرى تمخضت عنها هذه الغزوة، وهي أشد شناعة وفظاعة من الأولى؛ لأنها تناولت بيت النبوة في أحب نسائه إليه وهي الصدّيقة بنت الصدّيق. وإليك هذه القصة كما رواها الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما بالسند عن عائشة رضي الله عنها واللفظ للبخاري- قالت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج- يعني إلى سفر- أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة قافلين اذن ليلة بالرحيل، فقمت حين اذنوا بالرحيل فمشيت، حتى جاوزت الجيش- يعني لقضاء حاجتها- فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع ظفار «1» قد انقطع فالتمست عقدي، وحبسني ابتغاؤه.
وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم، إنما يأكلن العلقة «2» من الطعام، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا.
(1) جزع بفتح الجيم وسكون الزاي، خرز معروف في سواده بياض كالعروق. وظفار بفتح الظاء وكسر الراء الأخيرة للبناء: مدينة باليمن.
(2)
العلقة: القليل من الطعام.
فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السلمي من وراء الجيش، فادلج «1» فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين راني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه «2» حين عرفني، فخمّرت- غطيت- وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة «3» ، فهلك من هلك، وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول.
فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريا بني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم ثم يقول:«كيف تيكم؟» «4» ثم ينصرف، فذاك يريا بني ولا أشعر بالشر.
حتى خرجت بعد ما نقهت «5» ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع «6» وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل
…
فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة «7» ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح،
(1) ادلج بتشديد الدال: سار من اخر الليل.
(2)
قوله: «إنا لله وإنا إليه راجعون» إعظاما وتألما لما حدث من تأخرها بغير قصد.
(3)
موغرين: نازلين للاستراحة. نحر الظهيرة: في وقت شدة الحر.
(4)
تيكم: اسم إشارة للمؤنثة.
(5)
نقه: بفتح القاف الذي برأ من مرضه ولم تكتمل صحته.
(6)
المناصع: مكان خارج المدينة.
(7)
مسطح: بكسر الميم وسكون السين. أثاثة: بضم الهمزة.
فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه «1» أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك.
فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم قال:«كيف تيكم» ؟ فقلت: أتأذن لي أن اتي أبويّ؟ وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبويّ فقلت لأمي: يا أمتاه، ما يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هوّني عليك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال:«أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟» قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرا أغمصه «2» عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن «3» فتأكله.
فقال رسول الله وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني «4»
من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، لقد ذكروا
(1) يعني يا هذه.
(2)
أغمصه: بالغين والصاد أي أعيبه.
(3)
الداجن: ما يألف البيوت من شاة أو طير.
(4)
يعذرني: من ينصرني عليه وينتقم منه.
رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج- وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته «1»
الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير «2»
وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين «3»
، فتثاور الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله يخفّضهم حتى سكتوا وسكت.
فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي، وقد بقيت ليلتين ويوما
…
فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأننا، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال:
«أما بعد: يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» فلما قضى مقالته قلص دمعي «4»
حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله، قلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القران: إني
(1) احتملته: أي غلبته العصبية.
(2)
أسيد: هو بالتصغير في اسمه واسم أبيه.
(3)
أي صنيعك في المجادلة عن ابن أبيّ صنيع المنافقين.
(4)
قلص: جف من شدة الحزن والأسى.
والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة- والله يعلم إني بريئة- لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر- والله يعلم أني منه بريئة- لتصدقني، والله ما أجد لكم ولي مثلا إلا قول أبي يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «1»
، حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان «2»
من العرق وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي ينزل عليه.
فلما سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّي عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها:«يا عائشة أما الله عز وجل فقد برّأك» فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل، وأنزل الله- عز وجل:
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
…
العشر الايات كلها- يعني إلى قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» .
فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة- يعني عنها- ما قال، فأنزل الله:
وَلا يَأْتَلِ «4»
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ
(1) بضم المواحدة وفتح الراء وبالمد: الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي.
(2)
الجمان: بضم الجيم حبات اللؤلؤ أو الفضة.
(3)
سورة النور: الايات 11- 20.
(4)
ولا يحلف.
وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» .
قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي!! فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري، فقال:«يا زينب ماذا علمت أو رأيت» ؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا قالت: وهي التي كانت تساميني «2»
من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك» » .
وقد بينت الروايات الاخرى في الصحيحين وغيرهما أن الذين خاضوا في هذا الحديث الاثم رأس النفاق ابن أبيّ، وحمنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وأن الذي تولّى معظم الحديث والإرجاف به ابن أبيّ، وتليه حمنة في هذا، وقد تاب هؤلاء- ما عدا ابن أبيّ- ولا سيما حسان بن ثابت، فقد اعتذر عما كان منه وقال يمدح عائشة بما هي له أهل:
حصان رزان ما تزنّ بريبة
…
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
عقيلة حي من لؤي بن غالب
…
كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيّب الله خيمها
…
وطهرها من كل سوء وباطل «4»
(1) سورة النور: الاية 22.
(2)
تناظرني وتحرص على أن تكون لها حظوتي عند رسول الله.
(3)
صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة النور، صحيح مسلم- كتاب التوبة- باب حديث الإفك.
(4)
حصان: عفيفة. رزان: عاقلة. تزن بضم التاء: ترمى وتتهم. الغوافل: جمع غافلة أي عن الشر والإثم. عقيلة: كريمة. خيمها بكسر الخاء: أصلها.