الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التلويح لا التصريح، فكان يقول:«ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا» وهي طريقة فذة مبتكرة في التربية والتهذيب.
وفي الحق أن المساجد في صدر الإسلام ولا سيما المسجد النبوي كانت تؤدي خدمات دينية، وعلمية، واجتماعية، وصحية وحربية، فكانت متعبدات يؤدي فيها المسلمون شعائر دينهم، وكانت تقوم مقام المعاهد والجامعات في التربية والتعليم والتهذيب، ومقام الجمعيات الخيرية في جمع الصدقات والمساعدات والتعاون على البر والخير، وكانت تقوم مقام الملاجىء والمبرات، يلجأ إليها الفقراء ممن لا مال لهم ولا دار، فيجد فيها المسكن والمأكل والمشرب، كما كان الحال في أهل الصّفّة «1» ، أضياف الله وأضياف الإسلام.
وكانت منتديات يجتمع فيها المسلمون فيتالفون ويتحابون، ويتشاورون في مصالحهم الدينية والدنيوية، ويبرمون ما يرتأون، وكانت تصنع بالمسجد النبوي السهام والات الجهاد، وتنصب به الخيام يستقبل فيها جرحى الحروب ويمرضون ويعالجون، وكان يجتمع به بعض المسلمين، فيتمرنون على فنون الحرب والقتال «2» وهكذا نجد أن المساجد في صدر الإسلام كانت تؤدي من الخدمات ما تقوم به جهات عدة في عصرنا الحديث.
بناء مسجد قباء
فلا تعجب والمساجد في الإسلام على ما ذكرنا أن كان أول عمل قام به الرسول في المدة التي أقامها في بني عمرو بن عوف أن يا بني مسجد قباء، وهو المسجد الذي أشار إليه الحق تبارك وتعالى في قوله:
(1) الصفة: الموضع المظلّل من المسجد، وكانت في مؤخرة المسجد النبوي، أعدّ لنزول الغرباء ممن لا مأوى لهم ولا أهل وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر، وقد سرد أسماءهم أبو نعيم في الحلية فزادوا عن مائة.
(2)
راجع صحيح البخاري- كتاب الصلاة- أبواب المساجد، تجد الإمام البخاري عقد لكثير مما ذكرت بابا مستقلا.
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «1» .
روى الطبراني بسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الاية: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا
…
، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال:«ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟» .
فقال: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو قال مقعدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هو هذا» وروى نحوه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، ويؤيد رأي هؤلاء أن سياق الايات القرانية إنما هو في مسجد قباء، وهو الذي قصد أهل مسجد الضرار أن يصدوا الناس عنه بمسجدهم.
وذهب اخرون إلى أنه مسجد المدينة، واستدلوا بما ورد في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ فأخذ كفا من الحصباء فضرب به الأرض، ثم قال:«هو مسجدكم هذا» .
والذي نرجحه أنه مسجد قباء لظاهر الاية والسياق، ولا تنافي بين الاية والحديث، لأنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد المدينة بطريق الأحرى والأولى، وهذا الحديث ذكر في معرض المفاضلة، وليس من شك في أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وهو خير المساجد بعد المسجد الحرام «2» ولو أن النبي قال:«هو مسجد قباء» لتوهم متوهم أن مسجد النبي لم يؤسس على التقوى، ولا تخذ البعض من هذا ذريعة للتقليل من شأن المسجد النبوي، فهذا هو السر في هذا الجواب الحكيم.
(1) سورة التوبة: الاية 108.
(2)
تفسير ابن كثير والبغوي، ج 4 ص 242؛ البداية والنهاية، ج 3 ص 209.
وقد ورد في مسجد قباء أن جبريل عليه الصلاة والسلام هو الذي أشار للنبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع قبلته.
ولما كان قباء أول مسجد بني في الإسلام وجعل لعموم الناس من هذه الأمة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل له ذكريات كريمة في نفسه، وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه كان يزوره كل يوم سبت تارة راكبا وتارة ماشيا، وفي الحديث الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«صلاة في مسجد قباء كعمرة» رواهما الشيخان.
وروى الترمذي عن أسيد بن ظهير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن اتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل» ، وروى ابن ماجه عن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان كأجر عمرة» .
وقد زرت مسجد قباء- ولله الحمد والمنة- غير مرة وأنا في طريقي إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وجلست فيه وصلّيت فيه مرارا.