الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى عرفات
وبعد شروق الشمس خرج النبي قاصدا عرفات، وأمر أن تضرب له قبة (بنمرة)«1» ، فسار رسول الله ولا تشك قريش إلا أنه سيقف بالمشعر الحرام «2» كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، ولكن النبي أخلف ظنهم، وسار حتى أتى عرفات ائتمارا بأمر الله في قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ، فوجد القبة قد ضربت، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس ركب ناقته (القصواء) حتى أتى بطن الوادي (وادي عرنة) ، وهنالك خطب خطبته المشهورة الجامعة.
خطبة عرفة
قال صلى الله عليه وسلم بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلّغت، اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع «3» ، وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب.
وإنّ دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم ابن «4» ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
وإنّ ماثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية «5» .
والعمد قود «6» ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
(1) نمرة: بفتح النون وكسر الميم: موضع بجانب عرفات.
(2)
جبل بالمزدلفة يسمى قزح.
(3)
أي باطل.
(4)
اسمه إياس، وقيل حارثة، والأول أصح، وهو ابن ابن عم النبي.
(5)
السدانة خدمة الكعبة، والسقاية سقاية الحج.
(6)
قود: قصاص.
أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
أيها الناس: إنّ النسيء «1» زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما، ليواطئوا عدة ما حرم الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد.
أيها الناس: إن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليهن ألايوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تعظوهن، وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرّح «2» ، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان «3» عندكم لا يملكن لأنفسهم شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله «4» ، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرىء مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعنّ بعدي كفارا يضرب
(1) كانت العرب تدين بالأشهر الحرم التي يحرمون فيها القتال وربما كانوا يستطيلون ثلاثة شهور متوالية لحاجتهم إلى الحرب والقتال، فيؤخرون حرمة المحرم إلى صفر ويجعلون صفر مكانه حتى صار التحريم لعدد الأشهر لا لذواتها، وقد عاب عليهم القران هذا لاتباعهم الهوى في التحليل والتحريم.
(2)
غير شديد ولا مؤلم.
(3)
جمع عانية وهي الأسيرة أي كالأسيرات في ضعفهن.
(4)
عقد النكاح.
بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا:
كتاب الله، وسنة نبيه.
أيها الناس: إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لادم، وادم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس: إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، وإنه لا وصية لوارث، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث.
والولد للفراش، وللعاهر الحجر «1» ، ومن ادّعى إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا «2» . وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت، فقال بأصبعه السبّابة يرفعها إلى السماء ويقلبها على الناس:
اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، والسلام عليكم ورحمة الله» «3» .
وكان جرير بن عبد الله البجلي يستنصت الناس، وكان ربيعة بن أمية بن خلف يبلّغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن فرغ رسول الله من هذه الخطبة الجامعة أذّن بلال ثم أقام فصلى النبي بالناس الظهر، ثم أقام فصلّى بهم العصر، جامعا بينهما جمع تقديم، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب ناقته حتى جاء الصخرات التي في أسفل جبل الرحمة فوقف عندها مستقبلا القبلة، حتى غربت الشمس، وقال:«وقفت ههنا وعرفات كلها موقف» .
(1) العاهر: الزاني. الحجر: الرجم. والمراد أنه لا ينسب إليه الطفل لأن الولد للفراش.
(2)
الصرف: التوبة. العدل: الفدية.
(3)
السيرة لابن هشام، ج 2 ص 306؛ صحيح مسلم بشرح النووي، ج 8 ص 182- 184؛ والبداية والنهاية، ج 5 ص 170- 171.