الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما بينهم من العداوة والبغضاء، فإن يجمعهم الله بك فلن يكون أحد أعزّ منك في العرب.
وقد حقق الله الرجاء، فقد صاروا بعد أن أنعم الله عليهم بالإسلام إخوانا متحابين متالفين، وكان للإسلام من هذا الغنم والخير الكثير، وقد ذكّرهم الله بهذه النعمة في قوله عز شأنه:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «1» .
وقد قام السادة الأنصار تجاه إخوانهم المهاجرين بألوان من المواساة، والإكرام، والإيواء، والإيثار، ما استحقوا به أن ينزل الله فيهم قرانا يتلى إلى يوم الدين، وصاروا مثلا عاليا يضرب في الأولين والاخرين، وسنعرض لماثرهم ونوفّيهم بعض حقهم عن كثب.
وقد صار المهاجرون والأنصار بعد الهجرة كالجسد الواحد، وعلى قلب رجل واحد، ويدا واحدة تجاه المشركين واليهود و
المنافقين
، ولم يزالوا يكافحون ويجالدون، ويصبرون ويصابرون حتى انما هؤلاء الأعداء الثلاثة، وصاروا في عداد الهلكى الغابرين، وبقيت كلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم.
المنافقين
وهم أهل المدينة من غير المسلمين، ولم يكن بمكة منافقون لأن طبيعة العرب الخلّص تأبى النفاق، فإما إيمان صادق، وإما كفر ظاهر، وإنما نجم النفاق بالمدينة، فقد كان يساكن العرب فيها اليهود، وهم قوم مخادعون منافقون بطبيعتهم، وعنهم أخذ عرب المدينة الذين لم يسلموا هذا الخلق المرذول.
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وتالف المهاجرون والأنصار، وتاخوا في الله، وصاروا قوة مرهوبة في المدينة، وصارت للنبي صلى الله عليه وسلم الكلمة النافذة على المسلمين
(1) سورة ال عمران: الاية 103.
جميعا، لا فرق بين مهاجري وأنصاري، وصارت إليه الرئاسة الدينية والدنيوية، والقيادة السياسية والاجتماعية- حقد عليه وعلى دينه بعض العرب ممن كانت له الزعامة في المدينة، واليهود الذين حقدوا على العرب أن يكون منهم النبي المبعوث في اخر الزمان، وتامر من هؤلاء وأولئك فئات على الشر وعداوة الإسلام، ولم يكن في استطاعتهم أن يعلنوا عن الحقد والشر الخبيء في قلوبهم، فلم يجدوا بدا من التستر بالإسلام، يظهرونه ويبطنون الكفر والحقد والضغينة على الإسلام والمسلمين، وهم من يسمّون في الإسلام (بالمنافقين) ، وقد تزعم هؤلاء رجل من العرب، كان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ويملّكوه عليهم، فلما انصرفوا عنه ومنهم أهله وولده حقد وضغن، ونافق وداهن، وهو عبد الله بن أبيّ ابن سلول الخزرجي.
وانضوى تحت لوائه- لواء النفاق- جماعة، منهم: أبو عامر، وكان يقال له الراهب، كان قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح «1» . قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:
«لا تقولوا الراهب ولكن قولوا: الفاسق» ومات بالشام غريبا طريدا وحيدا، وكان ابنه حنظلة من خيار المسلمين، استشهد يوم أحد، وهو غسيل الملائكة.
ومنهم: جلاس بن سويد بن الصامت، قال ابن إسحاق: وقد زعموا أنه تاب وحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير. ونبتل بن الحارث وهو الذي قال فيه رسول الله: «من أحب أن ينظر إلى شيطان فلينظر إلى هذا» ، وكان جسيما ثائر شعر الرأس، أحمر العينين، أسفع الخدين وكان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينقله إلى المنافقين، وهو الذي قال: إنما محمد أذن، من حدثه بشيء صدّقه، فأكذبه الله. وعبّاد بن حنيف، وكان ممن بنوا مسجد الضّرار. ومربع بن قيظي، وكان أعمى، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاز في حائطه وهو ذاهب إلى أحد:
لا أحلّ لك إن كنت نبيا أن تمر في حائطي، وأخذ في يده حفنة من تراب، ثم قال: لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك لرميتك بها، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال
(1) المسوح: لباس الرهبنة.
رسول الله: «دعوه فهذا الأعمى، أعمى القلب، أعمى البصر» ، وقد ضربه سعد بن زيد الأشهلي بالقوس فشجه. وأخوه أوس بن قيظي. وحاطب بن أمية بن رافع، وكان شيخا جسيما قد أسنّ في الجاهلية، وكان له ابن من خيار المسلمين يقال له: يزيد بن حاطب أثخنته الجراح يوم أحد فاستشهد، وهؤلاء من الأوس.
ومن الخزرج: رافع بن وديعة، والجد بن قيس، وزيد بن عمرو، وعمرو بن قيس، وقيس بن عمرو.
ومن المفارقات العجيبة أن عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين كان له ابن من خيار المسلمين وأصدقهم إيمانا، حتى لقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل أباه، فأبى النبي وقال:«لا، بل نحسن صحبته ما دام بيننا» !!.
وتبع ابن أبيّ من اليهود قوم أظهروا الإسلام نفاقا وتقية، منهم:
سعد بن حنيف، وزيد بن اللصّيت، ورافع بن حرملة، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات:«قد مات اليوم عظيم من عظاماء المنافقين» ، ورفاعة بن زيد بن التابوت، أخبر النبي بموته مرجعه من تبوك، ونعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، وغيرهم «1» .
وكان هؤلاء المنافقون بحكم ظاهرهم يحضرون المسجد، ويسمعون أحاديث المسلمين، ويسخرون ويستهزئون بدينهم، ويتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الأعداء.
ولكن الله سبحانه وتعالى كان لهم بالمرصاد، فما بيّتوا أمرا إلا أظهره الله وفضحهم. وما دبروا مكيدة إلا ردّ الله كيدهم في نحرهم، وأنزل في شأنهم معظم سورة التوبة، فما زال يقول فيها: ومنهم، ومنهم
…
حتى أخزاهم وكشف عن نذلة نفوسهم، وايات كثيرة في سورة البقرة، وال عمران، والأحزاب وغيرها، حتى أنزل فيهم سورة بتمامها وهي:(المنافقون) ، وكانت عاقبة أمرهم كفرا وذلة، وعاقبة أمر المؤمنين المخلصين عزا وسيادة، وسنبين موقف الإسلام منهم في فصول تأتي إن شاء الله.
(1) البداية والنهاية، ج 3، ص 240.