الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي المربّي المعلّم
وقد ذكرنا انفا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يبعثني متعنتا، وإنما بعثني معلّما ميسّرا» وقال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال» «1» . وقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم حياة تربية وتعليم، وتأديب وتهذيب، وبحسبنا شاهدا على هذا أنه بعث إلى قوم يعبدون الأصنام، ويسفكون الدماء، ويعتدون على الأعراض والأموال، ويتظلمون، ويتعاملون بالربا، ويشربون الخمر، ويغشون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويتفاخرون بالأحساب والأنساب، فلم يزل بهم يربيهم ويتعهداهم حتى صيّر منهم مواحدين أتقياء، وحكماء علماء، وحلماء رحماء، وإخوانا متحابين أصفياء، وكانوا بحق خير أمة أخرجت للناس في عقيدتها وعبادتها، وعلمها وعملها، وأخلاقها وسلوكها.
من كان يظن أن معاقل الوثنية في الجزيرة العربية تصبح منارات للتوحيد الخالص؟ ومن كان يظن أن العرب- وهم أشد الناس اعتزازا وتفاخرا بالأحساب والأنساب- يصبحون أكثر الأمم اعترافا بالمساواة وتطبيقا لها؟ حتى لقد تسنّى لبلال الحبشي العبد الأسود أن يكون أول مؤذن في الإسلام!! وحتى قال عمر بن الخطاب العدوي القرشي في الصدّيق ومولاه بلال: (هو سيدنا، وأعتق سيدنا)«2» ، وحتى عقل بلال خالد بن الوليد المخزومي القرشي بعمامته، تنفيذا لأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، واستسلم خالد له!! فلما أجاب عما
(1) رواه مالك وأحمد.
(2)
رواه البخاري.
طلبه سيدنا عمر أطلقه وأعاد إليه قلنسوته، ثم عمّمه بيده وقال:(نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخم ونخدم موالينا)«1» أي ساداتنا.
بل من كان يظن أن المرأة تخرج من اليمن إلى الكعبة فلا يعرض لها أحد بسوء؟ وأن الخمر التي كانت ممتزجة بلحوم العرب ودمائهم «2» يتركونها أبدا بعد التحريم؟ وأن الربا الذي كان شائعا بين العرب يقضى عليه هذا القضاء؟!! إنّ هذا سر من أسرار إعجاز الرسالة المحمدية.
لقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وسائل من أهمها القدوة، فقد كان أسوة حسنة في نفسه، وفي أهله وفي بيته، وفي كل تصرفاته، فمن ثمّ أثمرات تربيته أيما إثمار.
وكان رسول الله يربّيهم تارة بالقول، وتارة بالعمل، وتارة بهما معا، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي» «3» ، وقال: «خذوا عني مناسككم
…
» «4» ، وقال:«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبّك بين أصابعه تبيينا للقول بالفعل.
ولم تكن هذه التربية قصرا على الرجال، فقد رغب إليه النساء أن يجعل لهن يوما خاصا يعظهن ويعلمهن فيه، ففعل، وقد تخرج في مدرسة النبوة نساء بلغن الغاية في العلم، والعمل، والحكمة.
وكذلك لم تكن قصرا على الكبار، بل استفاد منها ونشأ عليها الصبيان والفتيان والفتيات، وكان في تربيته يتدرج معهم، ويتخولهم بالموعظة والتعليم أياما دون أيام، كراهية السامة منهم والمشقة عليهم، روى ذلك البخاري في الصحيح «5» .
(1) أشهر مشاهير الإسلام، ج 2 ص 451.
(2)
لقد بلغ من حبهم الخمر أن قال قائلهم:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
…
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني
…
أخاف إذا مامت ألاأذوقها
(3)
رواه البخاري.
(4)
رواه مسلم.
(5)
صحيح البخاري- كتاب العلم.
وكان من أساليب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي عليهم بعض الأسئلة التي تحتاج الإجابة عنها إلى علم وذكاء وفطنة، شحذا لأذهانهم على التفكير، واختبارا لذكائهم، وتنشيطا لهم، وذلك مثل قوله:«إنّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، ولا ينقطع نفعها، وإنها مثل المسلم، حدّثوني ما هي؟» قال ابن عمر:
(فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة) ولكنه استحيى أن يجيب احتراما لكبار الصحابة، ولما أخبر أباه بهذا بعد قال له: لأن كنت قلتها أحب إليّ من أن يكون لي حمر النّعم.
وقد استرعى انتباه الكاتبين من فلاسفة الغرب في تاريخ الحضارات وارتقاء الشعوب، أن الأمة الإسلامية طفرت طفرة واحدة في زمن وجيز على خلاف العادة والمعروف، وعجبوا لهذا، ولو أنهم وضعوا في حسبانهم أن المربّي هو النبي المؤيد بالايات، والمثل الأعلى للمربين، والهداة والمرشدين، وأن عماد هذه التربية هو القران معجزة المعجزات- لزال العجب، ولعلموا أن هذا من إعجاز القران الاجتماعي والأخلاقي، إلى جانب إعجازه العلمي والبياني، وإلا فلن يستطيعوا أن يعلّلوا ذلك بمقتضى النظر المادي.
لقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم من شأن العلم والعلماء حينما قال كما قال الله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وقال: «العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» «1» . ورفع من شأن المربين والمصلحين حينما قال لعلي رضي الله عنه: «فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النّعم» «2» . وبحسب العلماء والمربين والمعلمين هذا التقدير من إمام العلماء وقدوة المربين.
(1) رواه أبو داود والترمذي.
(2)
رواه الشيخان.