الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير ايات الإفك
قال الله تبارك وتعالى:
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» .
بِالْإِفْكِ: أشنع الكذب وأفحشه. عُصْبَةٌ مِنْكُمْ: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، منهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ: خطاب للمسلمين ولا سيما من بلغ منهم الأذى مبلغه. بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ:
يعني في الدنيا والاخرة: أما في الدنيا فلأنه نزل بسببه تشريع عام خالد يحفظ الحرم ويصون المجتمع، ولما تمخّض عنه من تبرئة عائشة حبيبة رسول الله والشهادة لال بيت الرسول بالطهر والعفاف، وتبرئة الرجل الصالح صفوان، وأما في الاخرة فلما لهم من رفعة الدرجات بالصبر على المحنة والبلاء. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ: جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ: كبر الشيء معظمه، وهو ابن أبي فهو الذي كان يجمعه ويذيعه ويشيعه.
ثم أدّب الله المؤمنين والمؤمنات مما كان ينبغي أن يسلكوه في هذه القصة من أدب فقال:
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ «2» .
لَوْلا: هلّا. مُبِينٌ: بين ظاهر. يعني هلّا قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم، وظنوا بإخوانهم خيرا، ولو أنهم فعلوا لتبين لهم أن أم المؤمنين أولى البراءة وأحرى، ولتعففوا عن النطق بهذا الهجر من القول، وممن تأدب بهذا
(1) سورة النور: الاية 11.
(2)
سورة النور: الاية 12.
الأدب الإلهي السامي سيدنا أبو أيوب الأنصاري، فقد قالت امرأته أم أيوب:
أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك!!.
ثم قال تعالى:
لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ «1» .
«عند الله» : يعني في حكمه وشريعته، لأنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بشهداء، وحكم القاذف في الإسلام إن لم يأت بهم أن يحدّ حد القذف، وقد حدّ النبي صلى الله عليه وسلم الأربعة الذين صرحوا بالقذف لما تبين كذبهم بشهادة الوحي.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ «2» .
«لولا» : حرف امتناع لوجود: يعني لولا أني فضّلت أن أتفضل عليكم بضروب النعم في الدنيا التي من جملتها الإمهال، وقبول توبة التائبين، والترحم عليكم في الاخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقوبة في الدنيا والعذاب الدائم في الاخرة. وهذا فيمن عنده إيمان يقبل الله بسببه التوبة كحسان ومسطح وحمنة، فأما من خاض فيه من المنافقين كابن أبي وأضرابه فليسوا مرادين لأنهم ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يؤهلهم لاستحقاق هذا.
ثم بين سبحانه الأحوال والملابسات التي كانت توجب أن ينزل بهم العذاب فقال: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ: أي يتلقفه بعضكم من بعض من غير تحر وتثبت ثم يذيعه، وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ: يعني أن قالة
(1) سورة النور: الاية 13.
(2)
سورة النور: الاية 14.
السوء التي نطقتم بها ليس لها ما يسندها من علم أو دليل، وليست نابعة عن اعتقاد وإنما هي شكوك وأراجيف لا تعدو طرف اللسان، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ «1»
: هذه جريمة من جرائمهم وهي استصغارهم لذلك وهو عظيمة من العظائم عند الله، ولو لم تكن عائشة زوجة نبي لما كان هينا، فكيف وهي زوجة خاتم الأنبياء، وسيد ولد ادم على الإطلاق، وهي بالمنزلة التي لا تخفى عليكم نسبا وشرفا ودينا؟
ثم قال سبحانه:
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ «2»
«سبحانك» : كلمة تعجب من الأمر المستفظع «بهتان» : كذب فاحش وهذا تأديب اخر للمؤمنين أنه كان الأليق بهم أن يستعظموا هذه المقالة، ويطهروا ألسنتهم من النطق بها، ثم حذرهم سبحانه أن يعودوا لمثل هذه المقالة الفاحشة التي تجافي الإيمان فقال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «3» .
ثم قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «4»
. هذا تأديب إلهي ثالث لمن سمع قالة السوء أو علم بفاحشة ألايذيعها ويشيعها، لما في إشاعة الفاحشة من إثارة بواعث الشر في النفوس، وإيقاظ الفتنة بين الناس، وفي ذلك ما فيه من الإضرار بالأسر والجماعات.
ومن أدب النبوة في هذا قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والاخرة» رواه مسلم، وقال: «يا معشر من امن بلسانه ولم يدخل الإيمان
(1) سورة النور: الاية 15.
(2)
سورة النور: الاية 16.
(3)
سورة النور: الايتان 17، 18.
(4)
سورة النور: الاية 19.
قلبه لا تتّبعوا عورات المسلمين، فإن من تتّبع عورات المسلمين فضحه الله تعالى في قعر بيته» رواه أبو داود.
ثم قال سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «1»
. جواب لولا محذوف أي لعاجلكم بالعقوبة، وفي هذا تكرير للمنّة بترك المعاجلة، وفي حذف الجواب إيجاز معجز لتذهب النفس فيه كل مذهب، فلله در التنزيل، ما أبلغه وما أكثر بركاته!!.
ومما يتصل بايات الإفك قوله سبحانه:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23)«2» .
«المحصنات» : العفائف، «الغافلات» : يعني عن الفاحشة، وهذا أسمى وصف يدل على العفة، فإن من العفائف من تخطر الفاحشة ببالها ثم لا تلبث أن تزول، ولكن أعف العفة أن تكون المرأة غافلة عن التفكير فيها والخطور بنفسها، ويدخل في هذه الأوصاف أمهات المؤمنين دخولا أوليا ولا سيما عائشة التي كانت سبب نزولها، فالذين يرمون بالزنا المحصنات الغافلات المؤمنات ملعونون في الدارين على ألسنة الخلق والملائكة، ومطرودون في الاخرة من رحمة الله، ولهم عذاب هائل لا يقادر قدره لعظم ما ارتكبوه.
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ «3» .
ومعنى شهادة الجوارح المذكورة أنه عز وجل ينطقها بقدرته، فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من الذنوب والاثام. دِينَهُمُ الْحَقَّ: أي يعطيهم
(1) سورة النور: الاية 20.
(2)
سورة النور: الاية 23.
(3)
سورة النور: الايتان 24، 25.
جزاءهم المطابق لمقتضى العدل والحكمة وافيا تاما. الْحَقُّ الْمُبِينُ: الحق الظاهر ألوهيته والظاهر حقيته.
ثم ساق سبحانه دليلا على براءة السيدة عائشة على ما هو السنة الجارية الغالبة فيما بين الناس، فقال: الْخَبِيثاتُ: أي من النساء لِلْخَبِيثِينَ من الرجال، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ: ذكره وإن كان مفهوما مما سبق مبالغة في التأكيد. وَالطَّيِّباتُ من النساء لِلطَّيِّبِينَ من الرجال، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أي والطيبون من الرجال للطيبات من النساء لا يتجاوزوهن إلى من عداهن، وحيث كان رسول الله أطيب الطيبين، وخير الأولين والاخرين، فقد ثبت كون الصدّيقة من أطيب الطيبات، واتضح بطلان ما قيل فيها من الترهات.
أُولئِكَ: إشارة إلى ال البيت النبوي رجالا ونساء، ويدخل فيه السيدة عائشة دخولا أوليا. مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ: منزهون عما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ: مغفرة لما عسى أن يقع منهم من خلاف الأولى، أو ما لا يسلم منه إنسان من الذنب، ورزق دائم لا يزول ولا يحول وهو الجنة.
ورحم الله الإمام الزمخشري حيث قال في تفسيره: (ولو قلّبت القران، وفتشت ما أوعد به العصاة، لم تر الله قد غلّظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الايات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه- ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث «1»
لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الاخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيّهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ فأوجز في ذلك وأشبع، وفصّل وأجمل، وأكّد
(1) يريد قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ
…
، إلى قوله تعالى: الْحَقُّ الْمُبِينُ.
وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا بما هو دونه في الفظاعة وما ذلك إلا لأمر.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القران، حتى سئل عن هذه الايات فقال:«من أذنب ذنبا ثم تاب عنه قبلت توبته، إلا من خاض في أمر عائشة» ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك، وقد برّأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه «1»
، وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وبرّأ عائشة بهذه الايات العظام، في كتابه المعجز، المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك، وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على أنافة محل سيد ولد ادم، وخيرة الأولين والاخرين، وحجة الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقق من عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم، وتقدم قدمه، وإحرازه لقصب السابق دون كل سابق- فليتلق ذلك من ايات الإفك، وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه) «2» .
(1) هذه القصة رويت في صحيح البخاري، وقد أشار إليها الله في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً، وكانوا رموه بأنه «ادر» أي منتفخ الخصية، وبينا هو ذات يوم يغتسل في البحر وقد ترك ثيابه على حجر، إذ فرّ الحجر بثوبه، فصار يجري وراءه وهو يقول: ثوبي يا حجر، فرأى الناس أن ليست به أدرة.
(2)
تفسير الكشاف، ج 2 ص 78.