الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جملة المغازي، والسرايا، والبعوث
ها نحن قد انتهينا- ولله الحمد والمنة- من غزوة تبوك، وهي اخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلنذكر جملة المغازي والسرايا والبعوث، فأقول وبالله التوفيق:
روى الشيخان في صحيحيهما بسندهما «1» عن أبي إسحاق السّبيعي قال:
كنت إلى جنب زيد بن أرقم، فقلت له: كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة؟.
قال: تسع عشرة، فقلت: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة، قلت:
فأيهن كانت أول؟ قال: العشير، أو العسيرة «2» ، فذكرت لقتادة قال:
العشيرة «3» .
وروى مسلم في صحيحه بسنده عن بريدة قال: (غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن) ، وعلى هذا يتفق ما رواه زيد بن أرقم، وما رواه بريدة في العدة، ويكون مرادهما الغزوات التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سواء قاتل أولم يقاتل، وأما قوله:(قاتل في ثمان منهن) ، فلعله لم يعدّ الفتح- كما قال الإمام النووي- ويكون مذهبه أنها فتحت صلحا، كما قال
(1) صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب غزوة العشيرة، وباب «كم غزا النبي» ، وصحيح مسلم- كتاب الجهاد والسير- باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
الأولى بالشين المعجمة بلا هاء. والثانية بالسين المهملة وبالهاء على صيغة المصغّر فيهما.
(3)
يعني بالشين المعجمة، وبالهاء على صيغة المصغّر، وهي التي اتفق عليها أهل السير وإن كان الكل صحيحا.
الشافعي وموافقوه، أو لعله اعتبر الخندق وبني قريظة غزوة واحدة، وبقول بريدة رضي الله عنه قال موسى بن عقبة وهو من أئمة أهل المغازي «1» .
ولا يعكّر على هذا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، قال جابر: لم أشهد بدرا ولا أحدا؛ منعني أبي- وذلك ليكون مع أخواته البنات- فلما قتل عبد الله يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط) ، ومقتضى هذا أن عدد غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرون.
وذلك لأن زيدا فاته ذكر اثنتين منها وهما: الأبواء، وبواط، فقد كانتا قبل العشيرة قطعا؛ وكأن ذلك خفي عليه لصغره، ولعلهما خفيتا أيضا على بريدة أو نسيهما، على أن ذكر الأقل لا ينفي ذكر الأكثر، والعبارة في الروايتين غير حاصرة.
والذي ذكره ابن إسحاق في سيرته أنها سبع وعشرون غزوة، قال: (وكان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين غزوة، منها:
غزوة ودّان، وهي غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط من ناحية رضوى؛ ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى بطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر الكبرى، التي قتل فيها صناديد قريش، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ثم غزوة بحران- معدن بالحجاز- ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل، ثم غزوة بدر الاخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان من هذيل، ثم غزوة الحديبية، لا يريد قتالا، فصده المشركون، ثم غزوة تبوك.
قاتل منها في تسع غزوات: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، والفتح، وحنين، والطائف «2» .
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 12 ص 195؛ فتح الباري، ج 7 ص 224، 225.
(2)
سيرة ابن هشام، ج 2 ص 608، 609.
أقول: ولم يذكر ابن إسحاق «غزوة بني قينقاع» مع أنها أولى بتسميتها غزوة من عمرة القضاء، وهذا يدل على أن المسألة اعتبارية، وهي مما تختلف فيها الأنظار، ولا أدري السبب في عدم ذكر غزوة بني قينقاع إلا أن يكون سهوا، والكمال لله والعصمة لرسوله، كذلك خالفت ابن إسحاق في ترتيبه للغزوات بناء على الدليل والبرهان، وقد بينت ذلك ثم قال ابن إسحاق: وكانت بعوثه صلى الله عليه وسلم وسراياه ثماني وثلاثين من بين بعث وسرية. ثم شرع- رحمه الله في تفصيل ذلك.
وقال موسى بن عقبة في مغازيه: (قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في ثمان: بدر، ثم أحد، ثم الأحزاب، ثم المصطلق، ثم خيبر، ثم مكة، ثم حنين، ثم الطائف) ، فأهمل غزوة قريظة لأنه اعتبرها والأحزاب غزوة واحدة، بينما أفردها ابن إسحاق، وعلى هذا لا تنافي بين ما ذكره موسى بن عقبة، وما ذكره ابن إسحاق.
وكذلك عدّ ابن سعد في «الطبقات» المغازي سبعا وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي، وهو موافق لما ذكره ابن إسحاق كما قدمنا. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر، أشار إلى ذلك السهيلي، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل، وعلى هذا يحمل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيّب قال:(غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين غزوة) وأخرجه يعقوب بن سفيان عن سلمة بن شبيب عن عبد الرزاق، فزاد فيه: أن سعيدا قال أولا ثماني عشرة، ثم قال أربعا وعشرين. قال الزهري فلا أدري أوهم- غلط- أو كان شيئا سمعه بعد؟ قلت- أي الحافظ-:
وحمله على ما ذكرته يدفع الوهم ويجمع الأقوال، والله أعلم.
وأما البعوث والسرايا فقد عدها ابن إسحاق ثماني وثلاثين، وعدّها الواقدي ثماني وأربعين، وعدها ابن سعد ستا وخمسين، وحكى ذلك
ابن الجوزي في «التلقيح» ، وعدها المسعودي ستين، وبلغها الحافظ العراقي في نظم السيرة زيادة على السبعين، ووقع عند الحاكم في «الإكليل» أنها تزيد على مائة؛ فلعله أراد ضم المغازي إليها، كما قال الحافظ في الفتح.
فلا يهولنّك- أيها القارىء الفطن- ما ترى من اختلاف في العدة، فالعبارات ليست حاصرة، والعدد كما يقول بعض الأصوليين لا مفهوم له؛ فذكر الأقل لا ينفي ذكر الأكثر، والمسألة كما قلت لك اعتبارية، فمن ثمّ اختلفت العبارات في العدة لاختلاف الاعتبارات؛ وكلّ أخبر بما علم، وقد يكون عند الواحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عند الاخر، وقد يشهد الواحد منهم ما لا يشهد الاخر.
وهذا هو اللائق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من المسلمين، الذين نشروا الإسلام وضحوا في سبيله بالنفس والنفيس، والأهل والولد، وكان الواحد منهم لأن يخر من أعلا جبل، أهون عليه من أن يكذب على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، أو يصفه بما ليس فيه، أو ينسب إليه ما لم يصدر عنه.
وكانوا من العدالة، ومن الصدق، والضبط بالمحل الأرفع، وكيف لا وقد أثنى الله عليهم بالثناء المستطاب في القران الكريم، وضرب بهم الأمثال في التوراة والإنجيل، وأثنى عليهم الرسول الكريم غاية الثناء؟
ولا تعجب- يا قارئي الحصيف- إذا كنت أعنى بالتوفيق بين الايات القرانية، والأحاديث والمرويات، لأن هذا من جلّ مقاصدي في هذا الكتاب أن أبين أن ايات الله يصدّق بعضها بعضا، وتتعارف ولا تتناكر، وتتالف ولا تتخالف، وأن الأحاديث الصحيحة الثابتة لا يرد بعضها بعضا، ولا يناقض بعضها البعض الاخر، وأن لهذه وتلك مخارج صحيحة لمن أعمل الذهن، وقدح الفكر، وتناولها بالقلب المؤمن، والعقل المتئد البصير، رزقني الله وإياك إيمانا ثابتا لا يتزعزع، وقلبا بصيرا تقيا، من الشكوك نقيا، وعلما نافعا، ولسانا ذاكرا،
وبالحق قوالا، وعن الإسلام ورجالاته منافحا، وأتم عليّ وعليك نعمة الإسلام.
ولسان حالي يقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا افتخروا بقيس أو تميم