الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحرام، وفي صبح اليوم الرابع جاء سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزّى إلى رسول الله وهو يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب: نناشدك الله والعهد لما خرجت عن أرضنا فقد مضت الثلاث، فقال سعد: كذبت ليس بأرضك ولا بأرض ابائك والله لا يخرج، ولكن رسول الله حسم المخاصمة وقال لهما:
«إني قد نكحت فيكم امرأة- ميمونة- فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها، ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا» وذلك تطييبا لنفوسهم، وتأليفا لقلوبهم، ولكنهما أبيا فأمر رسول الله أبا رافع فأذّن بالرحيل، فارتحل الرسول وأصحابه حتى نزلوا بسرف- قرية قرب مكة- وأقاموا هناك، وفيها بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزوجه ميمونة، ثم ارتحلوا إلى المدينة وألسنتهم بالشكر والثناء على الله، أن صدق وعده، ونصر عبده وهم يرددون قول الله سبحانه:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً «1» .
حادثة وقضية
ولما خرج النبي من مكة تبعته فاطمة ابنة حمزة شهيد أحد وكانت جارية صغيرة، وقالت: يا عم يا عم، فتناولها علي وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك فحملتها، فلما رجعوا إلى المدينة اختصم فيها علي، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، فقال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي، وعندي ابنة رسول الله وهي أحق بها، وقال جعفر ابنة عمي وخالتها تحتي «2» ، وقال زيد ابنة أخي «3» ، فقضى النبي بها لخالتها وقال:«الخالة بمنزلة الأم» ثم طيّب خاطر كل واحد
(1) سورة الفتح: الاية 27.
(2)
لأن أم البنت هي سلمى بنت عميس أخت أسماء بنت عميس.
(3)
لأن النبي كان اخى بين حمزة وزيد حين عقد المؤاخاة بين المسلمين.
من هؤلاء الثلاثة فقال لعلي: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» «1» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» ولما كبرت قال علي للنبي:
ألا تتزوج ابنة حمزة فقال: «إنها ابنة أخي من الرضاعة» .
وإن لنا هنا لوقفة عند هذه القضية الشائكة، فكل من الثلاثة أدلى بحجته، وعلي وجعفر تربطهما بالنبي صلة القرابة الوثيقة، وهما بالنسبة للبنت أبناء عمومة، وزيد تربطه بالنبي علاقة تربية ومحبة، بهما اثر النبي على أهله حتى تبناه النبي، ثم أبطل ذلك الإسلام فيما أبطل، قضية محيّرة حقا، ولكن ذا القلب الكبير والعقل الواسع قضى فيها خير ما يكون القضاء، فزيد مهما نال من شرف الأخوة وحقها لحمزة فهو دون علي وجعفر في استحقاق ابنة حمزة، وقد يرى بعض بني هاشم في تربيتها في بيت مولى لهم ما يخل بمنزلتهم في قريش، أو ترى البنت الهاشمية في ذلك غضاضة عليها، فبقي التفاضل بين علي وجعفر، كلاهما من بني هاشم، وكلاهما ابن عم لها، وكلاهما من السابقين الأولين من المهاجرين ومنزلتهما في الإسلام معروفة، فليكن التفاضل بما وراء ذلك فمن ثمّ قضى بها لجعفر، لأن خالتها عنده والخالة كما قال الصادق المصدوق بمنزلة الأم.
وقد يبدو بادىء الرأي أن عليا كان أولى بها، لأنه ابن عم، وزوجه بنت عم لها، ولكن كيف؟ وابنة العم مهما بلغت من الكرم والتسامح والرعاية لن تكون كالخالة، وربما ترى في وجود ابنة العم معها- وهي من تحل لزوجها- منافسا لها، فلا تعجب إذا كان صاحب القلب المضيء، والنظر الرحيب، قد قضى بهذا القضاء العادل الحكيم، فقضى بها لجعفر، أو إن شئت الدقة فقل لخالتها التي عنده: أسماء بنت عميس، وهي من هي دينا وخلقا وتضحية في سبيل الله ورسوله.
ولا يخفى على العارف بالنفوس البشرية وما يدبّ فيها من الخواطر والهواجس ما عسى أن يداخل نفوسهم من ألم أو خواطر لفوات ما كانت تحب
(1) الأولى بفتح الخاء وسكون اللام والثانية بضم الخاء واللام.
وتهوى، أو هوان وضعف منزلة، فيطيب خاطر الثلاثة بهذه الأوصاف المشرّفة الموزونة بميزان عادل دقيق، لا يمكن أن يكون إلا ممن أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا، وبهذا جمع النبي صلوات الله وسلامه عليه بين جلال الحق العادل وجمال تطييب الخاطر.