الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين عهدين: العهد المكي والعهد المدني
لقد مكث النبي صلوات الله وسلامه عليه يدعو إلى الله على بصيرة ثلاثة عشر عاما بمكة، وأهلها واقفون عقبة كأداء في سبيل الدعوة، فلم يدخل في الإسلام طوال هذه المدة إلا عدد قليل لا يتناسب وهذه المدة من عمر الدعوة الإسلامية، حتى أذن الله للنور أن ينتشر، فيمّم النبي وجهه شطر قبائل العرب ووفودهم في موسم الحج، فوجد هذا النور من أهل المدينة- طيبة- عيونا متفتحة، واذانا صاغية، وقلوبا واعية، وسرعان ما سرى النور في المدينة كما يسري نور البدر في ظلمات الليل فيبددها، والماء العذب في الأرض الجدبة فينبتها، واحتضنت المدينة الإسلام والمسلمين كما تحتضن الأم الرؤوم أولادها، ووجد المسلمون في الأنصار خير إخوان وأعوان عرفتهم الدنيا في تاريخها الطويل.
وقد كان المحور الذي تدور عليه الدعوة في مكة انتزاع العقائد الضارة من شرك ووثنية، وإنكار للبعث والنبوات، وتثبيت العقائد الصحيحة في النفوس من توحيد، وإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الاخر، وإقامة الأدلة العقلية والوجدانية والافاقية والأنفسية على ذلك، ليؤمن من امن عن بيّنة واقتناع، ويكفر من كفر عن تعنّت وعناد، وقد مكث النبي في هذه الفترة يعلّم ويلقّن ويربّي ويتعهد، حتى صنع طرازا فريدا من الرجال، كانوا اللبنات الأولى التي منها أسس الإسلام وعليها قام صرحه العالي المنيف.
وطبعي أن يكون اتجاه الدعوة في مكة إلى هذه العقائد، فقد بعث النبي بين قوم وثنيين لا يؤمنون ببعث ولا رسالة، فكان المنهج المنطقي القويم في
الدعوة أن يؤمنوا بهذه الأصول أولا، حتى إذا اطمأنت قلوبهم بالإيمان، وانشرحت صدورهم للإسلام، سهل عليهم تقبل التشريعات من حلال وحرام، وهذا ما كان.
وقد كان اتجاه الدعوة في مكة أيضا إلى أصول التشريعات العامة والاداب والفضائل التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وذلك كالحث على الثبات على العقيدة، والصبر والتحمل في سبيلها، والأمر بالصلاة والصدق والعفاف، وبر الوالدين وصلة الرحم والعدل والإحسان، والتواصي بالحق والخير، والنهي عن الرذائل كالقتل ووأد البنات، والظلم والزنا، وأكل أموال الناس بالباطل إلى غير ذلك.
أما في العهد المدني فقد بدأت الدعوة الاسلامية تتجه اتجاها اخر، ولم تعد مقصورة على مكة وما جاورها، بل وجدت أمامها افاقا فسيحة، ودنيا عريضة في جزيرة العرب وخارجها، ووجدت أرضا خصبة تقبلت الإسلام بقبول حسن، وأخذت عالمية الإسلام تأخذ طريقها إلى الأمم والشعوب، فلم تمض بضع سنوات حتى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بالكتب إلى الملوك والأمراء والرؤساء، داعيا إياهم إلى الدخول في الإسلام وإلى كلمة سواء: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فمنهم من أطاع، ومنهم من أبى ورد ردا سيئا، ومنهم من رد ردا حسنا.
والإسلام دين عام خالد، نزل للبشرية جمعاء، لا فرق بين عربي وغير عربي، ولا بين أبيض وأسود، ففي الكتاب الكريم:
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «1» .
وفيه أيضا يقول الله على لسان رسوله:
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ «2» .
(1) سورة الأعراف: الاية 158.
(2)
سورة الأنعام: الاية 19.
ويقول الله سبحانه:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» .
وفي الحديث الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة
…
» ورواه مسلم بلفظ: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود» وفي رواية:
والحق ما لم تكن له قوة تؤيده وتفسح له الطريق كي يأخذ سبيله إلى القلوب والعقول كان حقا مضيعا، فكان لابدّ في هذا العهد من تشريع القتال في الإسلام، ولو أن المناهضين للدعوة اكتفوا في ذلك بالحجاج والكلام، لقابلهم الإسلام بالمثل ولكان له الفوز والغلب. ولكنهم سلكوا مسلك القوة، وحملوا السلاح، فكان من العدل والحق أن تقابل القوة بالقوة، والسلاح بالسلاح، ولا سيما وقد أضحى للمسلمين قوة وكيان.
وقد كانت هذه الفترة من عمر الإسلام أخصب الفترتين، ففيها نزلت معظم التشريعات التفصيلية والأحكام العملية في الحلال والحرام، والعبادات والمعاملات والحدود والجنائيات، والحروب والمعاهدات، والعلاقات الدولية، والنظم السياسية، وذلك لأن حياة المسلمين في المدينة بدأت في الاستقرار، وأصبح لهم دولة وسلطان، ومن شأن الجماعة التي لها رابطة تربطها أن تكون في مسيس الحاجة إلى تشريع يتكفل بما تحتاج إليه في دينها ودنياها.
وشيء اخر: ذلك أن التشريعات العملية- ولا سيما الحدود والجنائيات- مرتبطة بسلطان الحكم التنفيذي، فلا تشريع لمن لا يملك حق التنفيذ.
وقد أشارت إلى هذه الحكمة التشريعية السيدة العاقلة العالمة عائشة
(1) سورة الأنبياء: الاية 107.
رضي الله عنها، قالت:(إنما نزل من القران أول ما نزل منه سورة «1» من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء «لا تشربوا الخمر» لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: «لا تزنوا» لقالوا: «لا ندع الزنا أبدا» ) رواه البخاري.
وكما مني المسلمون بمكة بالمشركين والوثنيين منوا في المدينة باليهود والمنافقين، وبذلك أصبح المسلمون في المدينة أمام قوى ثلاث تصارع الإسلام وتحاربه: قوة المشركين، وقوة المنافقين، وقوة اليهود.
وهؤلاء المنافقون وهم خليط من عرب المدينة ويهودها وإن لم يعلنوها حربا سافرة فقد كانوا أشد خطرا على الدعوة من غيرهم، لأن العدو المكاشف أهون شأنا من العدو المخالط المتستر تحت ستار من الخداع والتمويه، وقد شاء الله سبحانه أن يصرع الإسلام هذه القوى الثلاث، وأن يقضي عليها قضاء مبرما وأن يبقى الإسلام خفاق الراية، عالي المنار، يعلو ولا يعلى عليه.
وبعد: فهذا إيجاز لابدّ له من توضيح وإجمال يحتاج إلى كثير من التفصيل، وهذا ما سنعرض له في البحوث الاتية إن شاء الله، فاللهمّ أعن، وسدّد، وحقّق.
(1) لعل مرادها سورة المدثر، فإنها أول ما نزلت بعد فترة الوحي، ففيها الأمر بتوحيد الله وذكر الجنة والنار، أو أن مرادها بالسورة الجنس أي سور من المفصّل، وسور المفصّل ومعظمها نزل بمكة- تدور حول تثبيت العقائد والدعوة إلى الفضائل، وذكر الجنة والنار، وهذا الثاني أرجح.