الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بريحها، وكان إذا مرّ في طريق يعرف أنه سلكه مما يخلفه فيه من طيبه. وثبت في صحيح مسلم أنه نام في دار أنس فعرق، فجاءت أمه بقارورة فجمعت فيها عرقه، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالت: نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب. وفي رواية أخرى لمسلم:(فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا) .
قال: «أصبت» .
كمال عقله
وأما كمال عقله، وأصالة تفكيره، وبعد نظره فيتجلّى في كثير من تصرفاته ومواهبه السياسية قبل النبوة وبعدها، وذلك كما حدث حينما حكّموه في قصة وضع الحجر الأسود، وفي إعداد الجيوش، ومباغتته للأعداء قبل أن يبغتوه في بلده، وموقفه في القضاء على الفتنة التي كادت تقع بين الأوس والخزرج بسبب تأليب اليهود، وبين المهاجرين والأنصار أثناء غزوة بني المصطلق، ومواهبه الفائقة في عقد المعاهدات والصلح، وفي معاملة الأصدقاء والأعداء، حتى كان سببا في دخول الكثيرين منهم الإسلام، وفي ترضية الأنصار بعد قسمة غنائم حنين، إلى غير ذلك مما لا يحصيه العد. وقد عرضنا لذلك بالتفصيل في هذه السيرة العطرة.
فصاحة لسانه
وكان صلى الله عليه وسلم فصيح اللسان، قوي العارضة، يفصّل الكلام تفصيلا، مع سلاسة طبع ونصاعة لفظ، وقلة تكلف، وجزالة معنى. وليس هذا بعجيب ممن كان في الذؤابة من قريش، واسترضع في بني سعد، ونشأ بمكة، وأنزل عليه القران بلسان عربي بلغ أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.
وكان مما اتاه الله العلم بلغات العرب ولهجاتها، فكان يخاطب كل قوم بلغتهم مما كان يدهشهم ويدهش الحاضرين من الصحابة، حتى قالوا له:
ما رأينا الذي هو أفصح منك!! فقال: «وما يمنعني وإنما أنزل القران بلسان
عربي مبين» وقال مرة أخرى: «أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد» «1» .
فجمع الله له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها، ورقّة ألفاظ الحاضرة ورونقها، إلى المدد الإلهي بالوحي المتتابع، ولا سيما وحي القران الذي لا يحيط بعلمه وأسراره إنسي ولا جني، فلا عجب إذا قال:«أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا» رواه النسائي في سننه وأبو يعلى، ورويت الفقرة الأولى من حديث للبخاري ومسلم.
وإليك ما قاله في وصف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أديب من أكبر أدباء العربية غير منازع وهو الجاحظ قال:
(وأنا ذاكر بعد هذا فنا اخر من كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه! وجلّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى: قُلْ- يا محمد- وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ «2» فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعيب «3» ، واستعمل المبسوط في موضع البسط والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حفّ بالعصمة، وشيّد بالتأييد، ويسر بالتوفيق.
وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلّت به قدم،
(1) ذكره القاضي عياض في الشفاء، وأصحاب الغريب في كتبهم، وروى نحوه الطبراني مرفوعا، وابن سعد مرسلا، وأما:(أنا أفصح من نطق بالضاد) فلا أصل له.
(2)
سورة ص: 86، والاية بتمامها: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
(3)
التقعيب: هو التقعير، وهو أن يتكلم بأقصى قعر فمه، وهو لون من التكلف في الكلام.
ولا بادت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذّ الخطب الطوال بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق ولا يطلب الفلج «1» إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة «2» ، ولا يستعمل المواربة «3» ، ولا يهمز، ولا يلمز «4» ، ولا يبطىء ولا يعجّل، ولا يسهب ولا يحصر «5» ، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى «6» من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيرا
…
ثم قال:
قال محمد: قال يونس بن حبيب: ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جمعت لك في هذا الكتاب جملا التقطناها من أفواه أصحاب الأخبار، ولعل بعض من لم يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلم، يظن أنّا قد تكلفنا له في الامتداح والتشريف ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره، كلا، والذي جرّم «7» التزيد عند العلماء وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ضلّ سعيه.
فمن كلامه صلى الله عليه وسلم حين ذكر الأنصار: «أما والله ما علمتم إلا لتقلّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع» وقال: «الناس سواسية كأسنان المشط» «8»
…
(1) الفلج- بفتح الفاء وفتح اللام وسكونها- الفوز والغلب.
(2)
الخداع.
(3)
المداهنة.
(4)
الهمز: العيب بالجوارح. واللمز: العيب باللسان، وقيل هما بمعنى.
(5)
حصر يحصر حصرا من باب «تعب» عيّ في الكلام.
(6)
الفحوى: المعنى.
(7)
جرّم: جعله جرما وإثما.
(8)
رواه الديلمي.
وقال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم» «1» فتفهّم- رحمك الله- قلة حروفه، وكثرة معانيه.
وقال عليه الصلاة والسلام: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» «2»
…
وقال: «خير المال سكة مأبورة، وفرس مأمورة» «3»
…
«الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» «4»
…
وقال: «الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة» «المستشار مؤتمن» «5» «رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» «6» وقال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرّقوا، وأن تناصحوا من ولّاه الله أمركم، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» «7» .
وقال: «يقول ابن ادم: مالي مالي، وإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» «8» وقال: «لو كان لابن ادم واديان من ذهب لابتغى ثالثا، ولا يملأ عين ابن ادم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» «9» .
وقال: «إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون، ويؤلفون. وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني
(1) رواه أحمد وأبو داود.
(2)
رواه الشيخان.
(3)
السكة: السطر المصطفى من النخل. المأبورة: الملقحة أي كثيرة النتاج والنسل.
(4)
رواه الشيخان.
(5)
رواه مسلم.
(6)
رواه أحمد وأصحاب السنن.
(7)
رواه الديلمي والعسكري.
(8)
رواه مسلم.
(9)
رواه مسلم.
مجالس يوم القيامة الثرثارون المتشدّقون، المتفيهقون» «1» إلى غير ذلك مما ذكره «2» هذا العالم الأديب الأريب.
وقد ذكر هذا الإمام الخبير بكلام البلغاء جملة صالحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن منها ما ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل قوله:«الناس بأزمانهم أشبه منهم بابائهم» فالصحيح أنه من كلام علي، وقيل من كلام عمر، ومنها ما هو موضوع كما نصّ على ذلك أئمة النقد في الإسلام وهو «إن الأحاديث ستكثر عني كما كثرت عن الأنبياء من قبلي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو عني، قلته أولم أقله» وهو كلام باطل لا يصدر مثله عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتاب «البيان والتبيين» ونحوه من كتب الأدب، لا يعوّل عليها في معرفة الأحاديث ما ثبت منها، وما لم يثبت، ولذلك حرصت على تخريج الأحاديث التي ذكرها الجاحظ في الهامش.
ومما ذكره الجاحظ من كتبه صلى الله عليه وسلم التي تدل على مخاطبته كل قوم بلسانهم ولغتهم ما رواه سعيد بن عفير عن ابن لهيعة عن أشياخه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى وائل بن حجر الحضرمي ولقومه: «من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت، امركم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، على التيعة «3» شاة والتيمة لصاحبها «4» ، وفي السبوب الخمس «5» ، لا خلاط، ولا وراط «6» ، ولا شناق،
(1) رواه البخاري، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن. فالثرثارون: هم الذين يكثرون من الكلام من غير داع. والمتشدقون: الذين يملأون فمهم بالكلام تشدقا وتكلفا. والمتفيهقون: الذين يملأون فمهم بالكلام تكبرا وتعظما.
(2)
البيان والتبيين للجاحظ ج 1 ص 16- 30.
(3)
التيعة بكسر التاء: الأربعون من الغنم.
(4)
التيمة: الشاة الزائدة على الأربعين.
(5)
السبوب: جمع سبب: وهو المال المدفون في الجاهلية.
(6)
الخلاط: أن يخلط رجل إبله بإبل غيره أو بقره، أو غنمه ليمنع حق الله فيها، والوراط: الغش.
ولا شغار «1» ، فمن أجبني فقد أربى «2» » وهي خصيصة عجيبة لرسول الله.
وأزيد على ما ذكره الجاحظ فأقول: ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم قوله: «إن المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع» رواه البخاري ومسلم، وقوله:
«اتقوا النار ولو بشقّ تمرة» رواه البخاري، وقوله:«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» رواه الشيخان، وقوله:«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» متفق عليه، «ما ملأ ابن ادم وعاء شرا من بطنه، فإن كان ولابدّ، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وقوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى» متفق عليه، وقوله:«وهل يكبّ الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم» رواه الترمذي، وقوله:
«كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقوله:«المسلمون عند شروطهم، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا» رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني، وقوله:«من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ» رواه البخاري، وقوله:
«ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» رواه البخاري.
وقوله: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين» رواه البخاري، وقوله:
«الحياء من الإيمان» رواه الشيخان، وقوله:«إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما تشاء» رواه البخاري، وقوله:«من يحفظ لي ما بين لحييه، وما بين رجليه «3» ، أضمن له الجنة» متفق عليه، وقوله: «الرحم
(1) الشناق ما بين الفريضتين من الإبل والغنم وهو: الوقص، والشغار: أن يزوج الرجل أخته مثلا على أن يزوجه الاخر أخته من غير مهر، وهو ما أبطله الإسلام.
(2)
الإجباء: بيع الزرع قبل بدو صلاحه، والإرباء من الربا.
(3)
ما بين لحييه أي فكيه وهو لسانه، وما بين رجليه: فرجه.