الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما نزل من الايات في غزوة الأحزاب
وقد أنزل الله سبحانه في هذه الغزوة بضع عشرة اية من سورة الأحزاب، وإليك تفسيرها موجزا:
قال عزّ شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: خطاب للمؤمنين الذين هم أهل العبرة والذكرى. اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: وهي رجوع الأحزاب مدحورين مخذولين، ورجوعكم منصورين امنين. إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ قريش وغطفان وأتباعهما فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً عاصفة في ليلة مطيرة، فضرّست أجسامهم، واقتلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، وكفأت قدورهم وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها هم الملائكة ألقوا في قلوبهم الرعب والخوف، فذهبت معنوياتهم ورجعوا وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً بتاء الخطاب أي من نصرة نبيكم، فيجازيكم أحسن الجزاء. وقرىء في السبع بالياء، أي من تأليبهم على نبيّه، وتحزبهم عليه، فهو وعيد لهم.
ثم صور سبحانه ما نزل بهم من بلاء وشدة لتعظم النعمة بأبلغ عبارة، فقال: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ هم قريش وغطفان وأحلافهما وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ هم بنو قريظة لما نقضوا العهد وأرادوا أن يطعنوهم من ظهورهم «1»
(1) وقيل: «من فوقكم» بنو قريظة «ومن أسفل منكم» قريش وغطفان. وقيل من فوقكم عيينة بن حصن ومن معه، ومن أسفل منكم أبو سفيان ومن معه. والأول أولى، ويشهد له ما رواه الحاكم عن حذيفة قال: (لقد رأيتنا ليلة الأحزاب وأبو سفيان ومن معه من مكة من فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون: إن بيوتنا عورة. فمرّ بي النبي-
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ فلا تثبت ولا تستقر على حال من شدة الخوف وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ لما كان من شأن الخائف المذعور أن تنتفخ رئتاه فتضغطان على القلب فيرتفع قليلا، كنّى بذلك عن شدة الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الحسنة من جانب المؤمنين، وهي أن الله ناصر رسوله مهما اشتد البلاء والجهد، والسيئة من جانب المنافقين وضعفاء الإيمان الذين زعموا أن الله خاذل رسوله ودينه.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً تصوير بالغ في الإعجاز لما اعتراهم من الضيق والانحصار بين عدوين لدودين: الأحزاب واليهود.
ثم قصّ الله سبحانه ما قاله المنافقون وضعفاء الإيمان فقال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً باطلا وزخرفا من القول، ويمثل هؤلاء من قال: إن محمدا يعدنا ملك كسرى وقيصر، ولا يقدر الواحد منا أن يذهب إلى الغائط، وهناك طائفة أخرى وهم عبد الله بن أبي وأصحابه حرّضت على الرجوع إلى المدينة متعلّلين بالتعلّات الباطلة، وهم المعنيون بقوله سبحانه: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا يثرب هي المدينة وكانت تعرف بهذا في الجاهلية، سماها النبي (طابة) و (طيبة)، وهناك طائفة ثالثة اعتذرت بالأعذار الواهية وهم المرادون بقوله سبحانه: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ يعني مكشوفة للعدو والسرّاق غير محصنة، وهم قوم من بني حارثة ويمثلهم أوس بن قيظي، وقيل هم قوم من بني حارثة وبني سلمة، وقد أكذبهم الله في هذا فقال:
وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً.
ثم بيّن سبحانه أن القائلين ذلك قوم جبناء لا ينتصرون لدين ولا حق ولا فضيلة، ولا تهمهم إلا أنفسهم، فقال سبحانه: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ
- ولم يبق معه إلا ثلاثمائة فقال: «اذهب وأتني بخبر القوم» ودعا لي، فأذهب الله عني القر والفزع، فدخلت عسكرهم، فإذا الريح فيه لا تجاوزه شبرا، فلما رجعت رأيت فوارس في طريقي فقالوا: أخبر صاحبك أن الله عز وجل كفاه اليوم) . فتح الباري ج 7 ص 401.
أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها بالمد، أي لأعطوها، وبغيره أي لجاؤوا بها، والمراد بالفتنة الشرك والردة، أقطارها: جوانبها وهي المدينة وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً يعني أنهم لو سئلوا الفتنة لما تريّثوا في الإجابة إلا قليلا ثم أعطوها، وهذا يدل على نفاقهم وضعف اعتقادهم وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ، وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا هم بنو حارثة همّوا أن ينكصوا يوم أحد مع بني سلمة فثبتهما الله، ثم عاهدوا الله ألايعودوا لمثلها أبدا، فلما كانت غزوة الأحزاب نكصوا وعادوا لما هموا به.
ثم بيّن سبحانه أن الجبن لا ينجي من القدر، وأن الموت بسيف، أو بدونه لابد أن يكون، وهبوا أنكم فررتم من أسباب الموت فما تتمتعون في الحياة إلا قليلا، فإن الحياة مهما طالت فهي قصيرة وعمر تأكله ذرات الدقائق والثواني وإن كثر فهو قليل، فقال: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ثم بيّن سبحانه أن الموت والحياة، والخير والشر بيد الله، ولو أراد الله بكم سوا نزل بكم، ما عصمكم منه أحد منكم ولو أراد بكم خيرا ما منعه أحد عنكم، فقال: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وليا ينفعكم، ونصيرا يدفع الضر عنكم.
ثم قال سبحانه: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ المنكّصين من القتال ونصرة الإسلام وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا، وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا هلمّ: تعالوا، البأس: الحرب، وهم عبد الله بن أبيّ ومن رجع معه إلى المدينة، فلم يكتفوا بزلتهم بل حاولوا استزلال غيرهم إلى القعود عن نصرة رسول الله أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بخلاء بالمعونة والإنفاق في سبيل الله.
ثم صوّر الله جبنهم أبلغ تصوير بقوله: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ جاء الخوف أي أسبابه لم تستقر أعينهم على حال، كالذي غشيته سكرات الموت فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ نالوكم بألسنة بذيئة سليطة أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ يعني أن
شحّهم عليكم إنما هو لأن أنفسهم شحيحة بالخير أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً فإن من شأن النفاق أن يحبط الله به الأعمال فلا ثواب لها.
ثم بينّ الله شدّة خوفهم وجبنهم فقال: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ- يعني مرة ثانية- يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي مقيمون في البادية حتى لا يصيبهم أذى يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ، وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا يعني أنهم حتى وهم مقيمون بالبادية لا يجرؤون أن يتعرفوا أخباركم بأنفسهم، بل يتعرّفونها ممن يأتي من ناحيتكم، ومثل هؤلاء لا ترجون قتالهم معكم ونصرتهم لكم، لأنهم إن قاتلوا فمرااة وسترا لنفاقهم وتضليلا لغيرهم.
ثم أقبل على المؤمنين فقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً الأسوة بضم الهمزة وكسرها:
القدوة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محل القدوة في الصبر والشدائد، والثبات في الحروب، والصدق عند اللقاء، وفي كل شيء محل الائتساء، وإنما يأتسي برسول الله الذين يرجون رحمة الله وثواب الاخرة، ولا ينفكون عن ذكر الله، ومثل هؤلاء قلوبهم حاضرة، وضمائرهم حية، وأعمالهم كلها خير وصلاح.
ثم ذكر الله سبحانه المؤمنين وصدقهم في عقيدتهم، وتصديقهم بما وعدهم الله ورسوله مهما عظم البلاء، وأن ذلك لا يزيدهم إلا ثباتا على الإيمان، وصبرا على البلاء، وتسليما للقضاء، فقال سبحانه: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا:
هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً فانظر الفرق بين الصورتين: صورة المؤمنين المشرقة، وصورة المنافقين المخزية.
ثم بيّن سبحانه أن من المؤمنين من سبق إلى الشهادة، ووفى بعهده، وأن منهم من ينتظرها ويترقبها، وأن هؤلاء وأولئك صدقوا الله بالإيمان، وثبتوا على الوفاء، فقال عزّ شأنه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا النحب: النذر اللازم،
وقد أريد به هنا الموت، وكأن المجاهد الذي خرج مخاطرا بنفسه فاستشهد قد نذر نفسه لله ثم وفى بنذره، ومن هؤلاء الذين قضوا نحبهم من استشهدوا في بدر وأحد وغيرها.
ثم بيّن سبحانه أن الغاية من البلاء والاختبار بالمحن والشدائد أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق، فيجازي الأول خيرا والثاني شرا، فقال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ- يعني إن تابوا- إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. ثم ختم الله القصة بتذكيرهم بنعمة الله عليهم بهزيمة الأحزاب، وارتدادهم صاغرين، فقال: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً- نصرا- وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ومن كان ملاذه القويّ العزيز الذي لا يغالب فقد اوى إلى ركن شديد وحليف عظيم.