الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهزيمة، كما تعلموا منه أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الغنائم ما هي إلا عرض زائل لا ينبغي أن تكون غرضا لمجاهد في سبيل الله، كما كان اختبارا تميّز به المؤمنون الصادقون من ضعفاء الإيمان والمنافقين.
وقد دلّ ما حدث في أحد على أن الرسل وأتباعهم قد تنالهم الهزيمة في بعض المواقف لخطأ أو لغير ذلك، ولكن العاقبة بالنصر لابد أن تكون لهم، وهذه هي سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وصدق الله:
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «1» .
وقد سجل الله سبحانه ذلك في كتابه فقال:
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ «2» .
وهذا توضيح لمعاني كلمات هذه الاية:
قَرْحٌ: جراح في أحد، فقد نزل بهم مثله في بدر نُداوِلُها: يوم لك ويوم عليك، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
…
: أي يظهر لعباده المؤمنين المخلصين من المنافقين، وليكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة، وَلِيُمَحِّصَ
…
: أي يطهرهم بالبلاء الذي نزل بهم مما عسى أن يكونوا اقترفوه حتى يصيروا كالذهب نقاء وصفاء، ويهلك الكافرين والمنافقين ويكشف عن دخيلة نفوسهم.
ما نزل من القران في أحد
وقد أنزل الله سبحانه في أحد وما يتصل بها حوالي أربعين اية من سورة ال عمران، وقد ذكرنا بعضها أثناء الدراسة التحليلية للغزوة، وها هي بعض الايات الاخرى منزّلا لها على مواقعها، وموجزا مقاصدها ومواضع العبرة فيها.
(1) سورة المجادلة: الاية 21.
(2)
سورة ال عمران: الايتان 140، 141.
قال تعالى في بيان سنة الله في الأمم، وأن النصر للرسل وأتباعهم، والهلاك للمكاذبين أعدائهم:
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. إلى قوله: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» .
وَلا تَهِنُوا: أي لا تضعفوا عن الجهاد بسبب ما جرى لكم.
وَلا تَحْزَنُوا: على ما أصابكم من قتل وجراح. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ: جمع الأعلى أي الأعلون شأنا، لأن قتالكم لله، وفي سبيل إعلاء كلمته، وقتالهم للشيطان، وإعلاء كلمة الكفر. وأيضا فقتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار، ثم إنكم أصبتم منهم في بدر أكثر مما أصابوا منكم. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أن العاقبة والنصر للمؤمنين، أو إن كنتم من أهل الإيمان الصادق، ففيه تهييج وإلهاب لحماسهم، لأن الإيمان الصادق لا يهن صاحبه ولا يحزن لما أصابه، ويستهين بكل شدائد الحياة في سبيل العقيدة الحقة والغاية الشريفة، أما قوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
…
الاية، فقد سبق شرحها انفا..
ثم بين سبحانه أن الجنة حفت بالمكاره فلا محيص لمن يطلبها من الجهاد والصبر والكفاح، والقتل والجراح.. فقال سبحانه:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ إلى قوله: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «2» .
ومعنى يعلم: يظهر، أو المراد تعلق علم الله بالشيء واقعا وحادثا.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ: تحضروا مواطنه.
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ: عاينتم أسبابه، وأبصرتم موارده.
(1) سورة ال عمران: الايات 137- 139.
(2)
سورة ال عمران: الايتان 142، 143.
ثم عاتب الذين انهزموا وفروا أو قعدوا عن القتال لما أشيع أن النبي قتل مع أنه كسلفه من الأنبياء الذين مضوا، وسيموت كما ماتوا، ولكل أجل كتاب، فقال عز شأنه:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ إلى قوله وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ «1» .
انْقَلَبْتُمْ: انهزمتم وتخاذلتم، وفعلتم فعل المرتدين وإن كان لا ردة، ومن فرّ أو تخاذل فلا يضر إلا نفسه، ومن ثبت وقاتل وصابر فسيجزيه خير الجزاء. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: بقضائه وقدره. كِتاباً مُؤَجَّلًا: أي كتب ذلك كتابا مؤقتا لا تقدّم عنده ولا تأخر. ثَوابَ الدُّنْيا:
من يرد بعمله الدنيا أعطي من الدنيا. ثَوابَ الْآخِرَةِ: ومن قصد وجه الله ورضاءه أجزل له الثواب.
ثم عرض لأتباع الأنبياء في الأمم السابقة، وأنهم ما ضعفوا لما نالهم من قتل أو هزيمة، إلهابا لحماسهم، وإثارة لنفوسهم فقال عز شأنه:
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. إلى قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «2» .
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ
…
: أي وكثير، وقرىء «قتل» و «قاتل» .
رِبِّيُّونَ الجماعات الكثيرة. فَما وَهَنُوا: تخاذلوا لما نزل بهم من هزيمة أو قتل أو جراح. وَما ضَعُفُوا: عن طلب عدوهم. وَمَا اسْتَكانُوا:
لما أصابهم في الجهاد دفاعا عن دينهم، وهذا ظاهر على قراءة قاتل، وعلى الاخرى يكون المراد بقوله: فَما وَهَنُوا
…
: الباقون بعدهم. ثَوابَ
(1) سورة آل عمران: الايتان 144، 145.
(2)
سورة آل عمران: الايات 146- 148..
الدُّنْيا: النصر والظفر. وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ: الجنة ونعيمها. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: الإحسان الإتقان ومراقبة الله في الاعتقاد والقول والعمل، أي يثيبهم.
ثم عاتبهم على فرارهم عن نبيهم وهو يدعوهم إليه فقال:
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ «1» .
تُصْعِدُونَ: من أصعد وهو الذهاب والإسراع في الأرض هربا، وأما صعد فمعناه ارتقى في جبل أو نحوه. وَلا تَلْوُونَ: ولا تعطفون وترجعون. فِي أُخْراكُمْ: في اخركم ومن ورائكم حينما قال: «إليّ عباد الله» .
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ: أي غما بسبب غم، وهو ما نزل بهم من الهزيمة والقتل بسبب ما أدخلتموه على نفس الرسول بمخالفتكم أمره أيها الرماة، أو غما بعد غم، وهو ما نزل بهم من الهزيمة وما حصل لهم لما أشيع أن النبي قتل. عَلى ما فاتَكُمْ: من النصر والغنيمة. وَلا ما أَصابَكُمْ: من القتل والجراح.
ثم وبخ الله المنافقين وضعفاء الإيمان الذين لم تهمهم إلا أنفسهم، وظنوا بالله ورسوله الظنون السيئة، والذين زعموا أنهم لو لم يخرجوا لما قتل من قتل، فقال:
وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «2» .
(1) سورة ال عمران: الاية 153.
(2)
سورة ال عمران: الاية 154.
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ
…
: أي أصابكم الله بما أصابكم ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس، أما هو سبحانه فعليم بما في القلوب.
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ: أي إن الله خاذل دينه ونبيه. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ
…
: فالخروج في الجهاد لا يقصّر أجلا، والجبن والتخلّف في البيوت لا يطيل عمرا، وما قدّره الله لابد أن يكون، والله لا تخفى عليه خافية، ويعلم ما تكنه صدوركم.
ثم حذر سبحانه المؤمنين أن يكونوا كالمنافقين الذين يفتحون عمل الشيطان في نفوسهم بقولهم: لو ولو.. ولن تجر عليهم هذه التمنيات الباطلة إلا الحسرة، والله سبحانه وتعالى هو الذي بيده الحياة والموت، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «1» .
لِإِخْوانِهِمْ: أي لأجل إخوانهم في النفاق أو في النسب. ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ: سافروا فيها لتجارة أو غيرها فماتوا. غُزًّى: جمع غاز أي غزاة فقتلوا. حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ: أي ندامة في الدنيا أن فاتهم ما أحبوا، وفي الاخرة حينما يحرمون من النعيم وتتكشف لهم الحقائق، والله قادر أن يرجع من خرج مجاهدا غانما سالما، وأن يميت من أقام في أهله، ونكص عن القتال.
ثم بين سبحانه أن الموت أو القتل في سبيل الله هو أسمى الغايات وأشرفها، وأن ما أعدّه للمجاهدين ولا سيما الشهداء من النعيم الدائم المقيم خير من الدنيا وما فيها فقال:
(1) سورة ال عمران: الاية 156.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ «1» :
فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ثم قال سبحانه معزّيا للمسلمين ومسلّيا، ومبينا أن ما أصابهم في أحد قد أصابوا مثليه في بدر، وأن ما أصابهم إنما هو بسبب مخالفتهم:
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
أَنَّى هذا؟: أي من أين حصل لنا هذا. قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ:
أي بسبب مخالفتكم أمر الرسول ورغبتكم في الغنائم.
ثم ختم الحق سبحانه قصة أحد يبين منزلة الشهداء عند ربهم فقال سبحانه:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ «3» .
والخوف: ألم يحصل في النفس من توقع حصول مكروه فيما يستقبل.
والحزن: ألم يحصل في النفس من خوف فوات محبوب فيما مضى، وأهل الجنة لا يخافون فيها شيئا لأنها دار أمن وسلام، فلا مكروه فيها، ولا يحزنون لأنهم سيجدون كل ما عملوه من خير محضرا، أو أن ما أعدّه الله لهم من النعيم يفوق
(1) سورة ال عمران: الايتان 157، 158.
(2)
سورة ال عمران: الاية 165.
(3)
سورة ال عمران: الايات 169- 171.
أضعافا مضاعفة ما كانوا يحبون ويرجون، وصدق الرسول الكريم حيث يروي عن رب العالمين: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما اطلعتم عليه، ثم قرأ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وقد قدّمت ما يتعلق بحياة الشهداء، نسأل الله الكريم أن يرزقنا هذا النعيم المقيم تفضّلا وكرما.