الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية أخرى للبخاري أن مسيلمة قال للنبي: (إن شئت خلّينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك) فأجابه النبي بما أجاب به.
وسياق هذه القصة في الصحيح يخالف ما ذكره ابن إسحاق وهو أن مسيلمة وفد مع قومه، وأنهم تركوه في رحالهم يحفظها لهم، وذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا منه جائزته، وأنه قال لهم:«إنه ليس بشركم» وأن مسيلمة لما ادّعى أنه أشرك في النبوة مع رسول الله احتجّ بهذه المقالة؛ وهذا مع شذوذه ضعيف السند لانقطاعه، وأمر مسيلمة كان عند قومه أكثر من ذلك، فقد كان يقال له: رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم، فالمعول عليه ما في صحيح البخاري «1» .
وفد أهل نجران
«2»
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لهم كتابا يدعوهم فيه إلى عبادة الله واحده ونبذ عبادة العباد، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فالحرب. والظاهر أن هذا الكتاب كان سنة تسع «3» بعد نزول قوله تعالى:
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ «4» .
فكان أنهم لما جاءهم كتاب رسول الله خرجوا إليه في أربعة عشر من أشرافهم، وقيل في ستين راكبا، منهم ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذي يصدرون عن رأيه، والسيد وهو صاحب رحلتهم، وأبو الحارث أسقفهم، وحبرهم وصاحب مدراسهم. فقدموا على
(1) فتح الباري ج 8 ص 73.
(2)
نجران بفتح النون: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، حوله قرى كثيرة.
(3)
فتح الباري ج 8 ص 76.
(4)
سورة التوبة: الاية 29.
النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، وفي أيديهم خواتيم الذهب، فقاموا يصلّون في المسجد نحو المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعوهم» ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنهم ولم يكلمهم، فقال لهم عثمان: من أجل زيّكم هذا، فانصرفوا يومهم هذا، ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلّموا عليه، فردّ عليهم ودعاهم إلى الإسلام، فأبوا وقالوا: كنا مسلمين قبلكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولدا» .
وكثر الجدال والحجاج بينه وبينهم، والنبي يتلو عليهم القران ويقرع باطلهم بالحجة، وكان مما قالوه لرسول الله: ما لك تشتم صاحبنا وتقول إنه عبد الله، فقال:«أجل، إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول» فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب فإن كنت صادقا فأرنا مثله؟ فأنزل الله في الرد عليهم قوله سبحانه: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ «1» فكانت حجة دامغة شبه فيها الغريب بما هو أغرب منه.
فلما لم تجد معهم المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة دعاهم إلى المباهلة «2» امتثالا لقول الله عزّ شأنه: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ:
تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ «3» .
وخرج النبي ومعه علي، والحسن، والحسين، وفاطمة وقال:«وإذا أنا دعوت فأمّنوا» فائتمروا فيما بينهم، فخافوا الهلاك لعلمهم أنه نبي حقا، وأنه
(1) سورة ال عمران: الايتان 59- 60.
(2)
الدعاء باللعنة، ثم شاعت في مطلق الدعاء؛ والمباهلة مشروعة حيث يتعذر عن طريق الجدال والمناظرة الوصول إلى الحق، ويأبى الخصم- كما هنا- الخضوع للحجة والبرهان. فلم يبق إلا اللجوء إلى استنزال غضب الله ولعنته وهلاكه على القوم الكاذبين.
(3)
سورة ال عمران: الاية 61.
ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا، فأبوا أن يلاعنوه وقالوا: احكم علينا بما أحببت، فصالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر، وعلى عارية ثلاثين درعا، وثلاثين رمحا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين فرسا إن كان باليمن كيد، واشترط عليهم ألايتعاملوا بالربا، وأمّنهم على أنفسهم ودينهم وأموالهم وكتب لهم كتابا جاء فيه:
«ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهداهم وبيعهم، لا يغير أسقف على سقيف، ولا راهب عن رهبانيته، ولا واقف عن وقفانيته» وأشهد على ذلك بعض المسلمين، ثم رجعوا إلى بلادهم فلم يلبث العاقب والسيد إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي فأسلما، وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري وأقام أهل نجران على ذلك حتى توفّى الله نبيّه.
وتولى الصدّيق الخلافة فأحسن معاملتهم وأوصى بهم عند وفاته، وفي عهد الفاروق عمر تعاملوا بالربا، فأخرجهم من أرضهم وكتب لهم:(هذا ما كتب عمر أمير المؤمنين لنجران من سار منهم أنه امن بأمان الله، لا يضرهم أحد من المسلمين، وفاء لهم بما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، أما بعد: فمن وقعوا به من أمراء الشام، وأمراء العراق فليوسعهم من جريب الأرض فاعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة، وعقبة لهم بمكان أرضهم لا سبيل عليهم فيه لأحد، ولا مغرم. أما بعد: فمن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم فإنهم أقوام لهم الذمة، وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن تقدموا، ولا يكلفوا إلا من ضيعتهم التي اعتملوا غير مظلومين ولا معنوف عليهم) وأشهد على ذلك عثمان بن عفان واخر، فوقع أناس منهم بالعراق فنزلوا النجرانية التي بناحية الكوفة، وذهب بعضهم إلى الشام «1» .
وما حدث من النبي وخليفته هو غاية العدل والإحسان والتسامح مع النصارى، ولولا أنهم تعاملوا بالربا، وأصبحوا يكونون خطرا اجتماعيا
(1) الطبقات الكبرى ج 1 ص 358.