الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض من مات في هذا العام
موت النجاشي
وفي رجب من هذا العام مات أصحمة بن أبجر النجاشي ملك الحبشة، أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يهاجر إليه، وقد أحسن إلى المسلمين الذين هاجروا غاية الإحسان، ولما مات نعاه النبي إلى أصحابه في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلّى وكبر عليه أربع تكبيرات «1» ، وهذا هو الأصل في مشروعية صلاة الجنازة على الغائب.
موت السيدة أم كلثوم
بنت سيد البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاتها في شعبان من هذا العام، وكان سيدنا عثمان تزوجها سنة ثلاث بعد موت أختها رقية، ولم تنجب له أولادا، وقد اشتركت في تغسيلها أم عطية والسيدة صفية بنت عبد المطلب، وأسماء بنت عميس، وصلّى عليها رسول الله والمسلمون، ولما ذهبوا لدفنها وقف النبي على قبرها وعيناه تذرفان بالدموع، فقال:«هل فيكم أحد لم يقارف الليلة» ؟ فقال أبو طلحة: أنا، فقال:«انزل في قبرها» فنزل ونزل معه علي، والفضل، وأسامة بن زيد. وبموتها لم يبق من بنات النبي إلا السيدة فاطمة رضي الله عنهن.
موت عبد الله بن أبيّ
وفي شوال من هذا العام مرض عبد الله بن أبي المنافق ومات في ذي القعدة، وكان النبي يعوده في مرضه، وفي اليوم الذي مات فيه دخل عليه
(1) رواه البخاري وغيره.
وهو يجود بنفسه فقال له: «قد نهيتك عن حب يهود» فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه، قال الحافظ ابن حجر: وهذا مرسل مع ثقة رجاله.
وكان قد عهد ابن أبيّ إلى ابنه بذلك «1» ، فلما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتصلّي عليه وقد نهاك «2» ربك أن تصلي عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما خيّرني الله فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق، فصلّى رسول الله عليه فأنزل الله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ الاية «3» .
وفي رواية أخرى له عن عمر نفسه أن النبي لما قام ليصلي عليه قام عمر فقال: يا رسول الله أتصلّي عليه وقد قال كذا وكذا يعدد مساوئه، فتبسم الرسول وقال:«أخّر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه قال: «إني خيّرت فاخترت، لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» ثم صلّى عليه فلم يلبث إلا قليلا حتى نزلت الاية «4» .
وإنما صلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إجراء له على حكم الظاهر وهو الإسلام، ولما فيه من إكرام ولده عبد الله- وكان من خيار الصحابة وفضلائهم- وهو الذي عرض على النبي أن يقتل أباه لما قال مقالته يوم غزوة بني المصطلق كما ذكرنا، ولما فيه من مصلحة شرعية، وهو استئلاف قومه ومتابعيه، فقد كان يدين له بالولاء فئة كبيرة من المنافقين، فعسى أن يرعووا عن نفاقهم ويعتبروا ويخلصوا
(1) فتح الباري، ج 8 ص 268.
(2)
ليس في القران نهي عن الصلاة على المنافقين قبل نزول اية وَلا تُصَلِّ. والظاهر أن عمر فهم ذلك من قوله سبحانه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ الاية. أو من قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الاية.
(3)
رواه البخاري عن ابن عمر.
(4)
صحيح البخاري- سورة التوبة- باب ولا تصل
…
الخ.
لله ولرسوله، ولو لم يجب صلى الله عليه وسلم ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة وعارا على ابنه وقومه، فالرسول الكريم اتبع أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي فانتهى.
وهو لم يفعل ذلك لاعتقاده أنه يغفر له، وليس أدل على ذلك مما رواه أبو الشيخ عن قتادة: أنهم ذكروا القميص بعد نزول الاية فقال عليه الصلاة والسلام: «وما يغني عنه قميصي، إني لأرجوا أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج» أي يتخلصوا من نفاقهم، وينقادوا ظاهرا وباطنا لله ولرسوله، وأما إعطاؤه القميص فلأن الضن به يخل بالكرم، وقد كان من خلق رسول الله ألايرد طالب حاجة قط، على أنه كان مكافأة له على إعطائه العباس عم الرسول قميصه لما جيء به أسيرا يوم بدر «1» ، وكان من خلق رسول الله وال بيته رد الجميل بخير منه.
وقد استشكل بعض العلماء حديث عمر وابنه، واستبعدوا أن يفهم النبي من الاية التخيير لأن الظاهر أن «أو» للتسوية في عدم النفع، وأن يفهم من ذكر السبعين التحديد لأن ظاهر السياق أنها للتكثير، فقال بعضهم: إنه خبر احاد لا يعوّل عليه، وأنكر بعضهم صحته «2» ، وكل هذا وذاك غير سديد، فالحديث صحيح رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، وكفى بهم أئمة.
والذي ظهر لي- والله أعلم- بعد النظر والتأمل في الاية والأحاديث وما قاله الأئمة: أن الاية تحتمل التسوية، وهو الأظهر، وأن المراد بالسبعين التكثير لا التحديد وهو الأظهر أيضا، وفي رواية عمر السابقة ما يدل على أن النبي كان يرى ذلك فقد قال:«لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له، لزدت» وتحتمل أيضا التخيير في «أو» ، وتحتمل التحديد في لفظ السبعين وهما مرجوحان قطعا.
(1) تفسير الالوسي، ج 10 ص 154.
(2)
فتح الباري، ج 8 ص 272- 273.
والرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب، وأعرفهم بأساليب البيان- ما كان يخفى عليه ذلك، ولكنه رجّح أحد الاحتمالين وإن كان مرجوحا للحكم السياسية، والأغراض التي ذكرناها انفا، وقد أطلت النفس في هذا، وعرضت لما يعرض له المؤرخون غالبا، لأن دراستنا للسيرة من جوانبها التحليلية من القران والسنة، وهذا هو السر في عنايتي بالتشريعات وتواريخها، وحكم التشريع فيها، وإعطائي للقارىء صورة واضحة لكل تشريع، وعنايتي بتفسير الايات القرانية في كل موضوع، وهو المهيع الذي سلكه إمام أهل المغازي محمد بن إسحاق، وابن هشام، والدراسات على هذا المنهج هي أجدى الدراسات وأنفعها، والحمد لله الذي هدانا لهذا.