الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع في بيان مدة بقاء كل فرقة من فرق الروافض
اعلم أن كل فرقة من الفرق قد تقل في زمان وتكثر في زمان آخر. وقد كثرت الناؤسية في بغداد وغيرها من البلاد في حدود سنة خمسمائة ثم اخترمتهم المنية. وكان الفرق في بلاد الشام ومصر والعراقين وفارس وأذربيجان وخراسان منتشرين لا يظهرون أمرهم إلى أن خرج التتار مرة بعد أخرى وقتلوا المشركين إلا فئة قليلة هربت منهم. وخلت كثير من البلاد عن المسلمين كمصر والشام والعراقين وخراسان خوارزم وكاشغر وبلاد تركستان وما وراء النهر وبلخ وبدخشان وكابل وزابل وقندها وسجستان وطخارستان وفارس وكرمان وأذربيجان. ولما استقام الملك على التتار رجع إلى أوطانهم من هرب. ولم يبق من فرق الرافضة إلا شرذمة قليلة من الغلاة الزيدية والباطنية من الإسماعيلية والمهدوية والاثني عشرية. أما الغلاة فالقائلون منهم بأن عليا إله لم يبق منهم إلا السبائية والعلبائية.
أما السبائية فقد طالت مدتهم، فإنهم ظهروا في خلافة أمير المؤمنين وبقوا إلى هذا الزمان،
لكنهم شرذمة قليلة متفرقون في البلاد، وأكثرهم في بلد أردبيل وغيرها من بلاد أذربيجان -ولا عبادة لهم سوى أنهم يصومون في كل سنة ثلاثة أيام- وفي بلدة بغراج من بلاد الترك، وليس فيها غيرهم من أهل المذاهب. وملكهم يدعي أنه من نسل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب. ومن الغرائب أن أهل هذه البلدة كلهم جرد مرد إلا ملكهم فإنه ذو لحية طويلة ويوجد في قرى رابستان.
أما العلبائية فقليلة جدا، يأتلفون مع السبائية ولا يفارقونهم.
وأما القائلون بالحلول فلم يبق منهم إلا المفضلية والنصيرية.
أما المفضلية فقد طالت مدتهم أيضا وكثرت جماعتهم. فإن ابتداء ظهورهم سنة ستين تقريبا. وبقوا إلى هذا اليوم وأكثرهم في قرى قهستان وخراسان وبعض قرى بدخشان وفي بلاد الهند والسند وقرى كابل ولمغان، وهو موضع من كابلستان. وحكى بعض العدول أن في ناحية كابل أربع قرى قطانها كلها من غلاة الرافضة من فرق الحلولية إلا سكان ستة بيوت أو سبعة، وإمامهم رجل يدعي أنه من ولد علي أمير المؤمنين، يسكن قرية من قرى قهستان خراسان يقال لها الجنان، وله في كل بلد من البلاد المذكورة خليفة. وعينوا في كل بلد رجلا لإبلاغ أخبار الخليفة والأتباع إلى الإمام وأجناده. وكانوا يطلقون لفظ الإله على الإمام والرسول على الخليفة وجبريل على المخبر. ويبالغون في ترك العمل بأحكام الشرع ولو تقية، ويقولون إنه لا يجب عليهم شيء إلا أداء العشر من أموالهم إلى الإمام الذي حل فيه الإله، ويبالغون في أداء العشر حتى أنهم يؤدونه عن كل شيء ولو كان لقمة طعام أو شربة ماء، ويعطونه إلى الرسول وهو يرسله بيد جبريل إلى من اتخذوه إلها من دون الله تعالى. ومن خرافاتهم أنه يسأم الله تعالى في طول المكث في الأرض فيدعو السحاب
ويصنع سلما فيرقى إلى السماء ويسير في السماوات ما شاء ثم ينزل إلى الأرض. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
أما النصيرية فقد طالت مدتهم أيضا، فإن ظهورهم كان سنة عشرين ومائة، وبقي منهم إلى زماننا هذا، وأكثرهم في كثير من قرى دمشق.
أما الزيدية فكانوا جماعات متفرقة في بلاد العرب حتى استولى بعض الشرفاء الزيدية على بلاد اليمن، فاجتمعت الزيدية عنده، فكثرت هذه الطائفة هناك وبقيت إلى هذا الزمان.
وأما الباطنية فقد طالت مدتهم لأن بدء ظهورهم كان زمن الرشيد سنة بضع وثمانين ومائة. وبقي منهم إلى حد الآن [جماعة]، وأكثرهم في بلاد خراسان وبدخشان وبعض أراضي ما وراء النهر والهند.
وأما المهدوية من فرق الإسماعيلية فقد طالت مدتهم. فإن محمدا بن عبد الله الملقب بالمهدي خرج في بعض بلاد المغرب سنة ست وتسعين ومائتين على المقتدر العباسي وحارب من ولاه المقتدر بلاد المغرب وغلب عليه وفتح إفريقية وادعى الإمامة، فاستفحل أمره وأمر أولاده وفتح بعضهم مصر وأذاعوا مذهبهم في تلك البلاد. وأجاب دعوته أهل اليمن. وبقي الملك فيهم مائتين وستين سنة. وكانوا على طريقة
حتى سافر الحسن بن الصباح الحميري مع جمع من أصحابه وأسرته إلى بلاد قهستان، وكان يزعم أنه شيعي من فرقة الإسماعيلية وأن الإمام بعد المستنصر ولده نزار دون المستعلي، وكان يتنقل من قرية إلى قرية، فبنى خارج الحصن عريشا واشتغل بالرياضات الشاقة وأظهر للناس كمال الزهد والورع حتى انخدع به جماعة كثيرة من أهل الحصن وأحلوه محل الإمام وانقادوا لأمره ونهيه، ولم يدروا أنه ذئب تقمص بجلد شاة، وكان في غاية من الفقر واشتاقت نفسه للرئاسة والإمارة، فخدع حاكم الحصن فانخدع وأخرجه منه وانتزع ملكه من يده، وذلك سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. وابتدع النزارية فسير دعاته إلى الرساتيق والحصون الحصينة من قهستان وطبرية وقزوين ليدعوا الناس إلى مذهبه، فلبوا دعوته إلا فريقا من المؤمنين. فكثرت أشياع ابن صباح حتى سير دماعات من دهات أتباعه إلى القرى والأمصار ليردوا أعيان أهلها من العلماء والأمراء على أعقابهم، فدخل كل جماعة بلدة ولازم كل رجل منهم من يريد إعطائه، وكان يخدمه أحسن خدمة، فإذا انتهز فرصة قتله فيهرب أو يقتل. فقتلوا على هذه الكيفية جما غفير من أهل الحق وبعض الأمراء ومن خالفهم من المسلمين وعاندهم. ثم حاربوا الملوك فغلبوا واستولوا على كثير من القلاع والبلاد. وعاش ستين سنة ثم لما دنت وفاته واستيقن أنه يرتحل عن الدنيا عن قريب استخلف كيا من خلفائه وأحب أصحابه إليه، وكان صاحب سره وأعلق بقلبه من ولده. ثم إن كيا لم يمتد عمره بل لحق سلفه إلى بئس المصير. ثم استولى على ملكه بعده ولده محمد، ثم ابنه الحسن وادعى أنه من ولد نزار بن المستنصر كما سلف، فأظهر ما أخفاه أسلافه من الزندقة.
وبقي الملك فيهم مائة وإحدى وسبعين سنة، ثم أبادهم الله تعالى على يد التتار، فلم يبق منهم من يدعي الإمامة.
ثم المستعلية، فقد بقي الملك فيهم إلى خمسمائة وستين سنة، ولم يبق فيهم من يدعي الإمامة، إلا أن أهل مذهبه قد طالت مدتهم بعد ذلك زمنا طويلا في بعض بلاد اليمن وأقاصي الهند. وكانوا يظهرون مذهبه وكانوا يخطؤون الفرق الإسلامية ويرمون أهل السنة بالإلحاد.
وأما الاثنا عشرية فكانوا جماعات متفرقة في البلاد يختفون من أهل السنة والجماعة حتى استولى آل بويه الديلمي على البلاد، وكان أولهم عماد الدولة، سمت نفسه لطلب الملك فاستولى على مُلك مَلكه وحارب الملوك في خلافة المقتدر العباسي. وكان هو وابنا أخويه يصطادون الطيور والأسماك ويقتاتون بها وبثمنها، فأزمعوا الشخوص من جبال ديلم إلى عراق العجم. فلما قدموا البلد الذي ثوى فيه السلطان دخلوا على بعض الأمراء بما عليهم من الأسمال فأعجبه بسطة أجسامهم وعذوبة نطقهم، فذهب بهم إلى الملك فنظمهم في سلك جنوده.
ولما رأى حسن تدبير الأكبر وشجاعته ألبسه أردية الكرام، فاستفحل أمره شيئا فشيئا حتى صار أمير أمرائه. فلما مات الملك سمت نفسه لطلب الملك فاستولى على مُلك ملكه وحارب الملوك في خلافة المقتدر العباسي فغلبهم واستولى على عراق العجم وبلاد فارس وديلم وغيرها سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وبقي الملك فيهم سبعا وعشرين سنة، وكانوا من غلاة الاثني عشرية. فكثرت هذه الفرقة في بلاد العراق وأذربيجان وفارس وخراسان وجرجان وماندران وجيلان وجبال ديلم. وكثرت علماؤهم وصنفوا كتبا جمة في المذهب، لكنهم كانوا يخفونها لكثرة أهل السنة. وكان بعضهم يظهر مذهبه لبعض السفهاء، ويكثر أكثرهم التشيع بالاعتزال، حتى إن الصاحب بن عباد وزير الديالمة كان يستر مذهبه بالاعتزال أيضا، وإنه كان رافضيا غاليا في الرفض كما يظهر من شعره وسبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصره الأئمة في اثني عشر رجلا وغير ذلك. ولم يدع سلاطينهم أهل السنة إلى مذهبهم خوفا من الفتنة. فلما أبادهم الله تعالى ضعفت الرافضة وذهبت ريحهم. فإن للباطل جولة ثم يضمحل، ولريح الضلال عصفة ثم يسكن. فستروا مذهبهم وبالغوا في التقية، حتى خرج كفار التتار وقتلوا كل من وجدوه من هذه الأمة من بغداد إلى نهر السند وجازوا الحرمين الشريفين، فقتل من قتل وهرب من هرب، ثم رجعوا إلى بلادهم فرجع من هرب من المسلمين إلى وطنه.
ثم لما قام بعض ولده مقامه سيّر ابن أخيه هولاكو الخبيث مع جنود كثيرة إلى بلاد المسلمين، فاستولى على البلاد التي استولى عليها جده وعبر الشط وفتح دار السلام وقتل الخليفة وهو [المستعصم] العباسي وكثيرا من المسلمين. واستولى على بلاد العرب، سوى الحرمين زادهما الله تعالى شرفا وكرامة، وبلاد الشام. وقتل من المسلمين ما لا يحصي عددهم إلا الله تعالى. فحينئذ أظهرت الرافضة مذهبهم حتى رجع بعض ملوكهم إلى مذهب أهل الحق وعقيدتهم، وهو القان غازان بن أرغون بن بغا بن هولاكو بن طلوس بن جنكيزخان، وسماه من هداه إلى الصراط المستقيم بسلطان أحمد، ودعى أهله وجنوده إلى الإسلام وطريق الحق فلبوه جميعا. فانكسرت شوكة الرافضة وستروا مذهبهم حينئذ، وذلك سنة أربع وستين وتسعين وستمائة. فلما مات السلطان قام أخوه أولجاييق مقامه، وكان يحب العمران مشغوفا باللعب والملاهي غافلا عن
الأوامر والنواهي، وكان على مذهب أهل السنة، حتى اجتمع به تاج الدين، وكان من دعاة الرافضة، فدعاه إلى مذهبه وجدّ في إضلاله وجمع علماء الرافضة عنده، ومنهم ابن المطهر الحلي، وكان أخبثهم وأضلهم عن سواء السبيل. فذكروا عنده مطاعن الصحابة وأن الخلفاء غصبوا حق أهل البيت والصحابة خذلوهم وأضاعوا وصية نبيهم في وصيّه وأخيه وابن عمه وصهره وارتدوا على أعقابهم. وكان ابن المطهر الدجال والمبتدع الضال يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله حتى ملأ قلبه من الوسوسة والشبهة الواهية، فترفض بعد سنة من ولايته وترك ما كان عليه من الهداية في بدايته، ودعى أهله إلى الباطل فأطاعوه ورغبوا إليه رغبة عن الحق واتبعوه. فأضل الرجل قومه وما هدى وأوقعهم في غيابة جب الردى. ولم يعصم الله من هذه الوصمة إلا القليل ممن لا تحركه عواصف الأباطيل. وألّف ابن المطهر له نهج الحق ومنهج الكرامة في مطاعن الصحابة ومثالب أهل السنة وإبطال مذهبهم وأنهم عن الحق بمعزل. ثم دعى السلطان إليه قومه
وجنوده ورعاياه، فأطاعه كل منهم ولباه. ثم سيّر جمعا من أتباعه إلى البلاد ليدعوا المؤمنين إليه ويعولوا في أمر مذهبهم عليه. فأطاعه الأرجاس وأبى عما دعى إليه كثير من الناس.
وقاتلهم أهل أصبهان ومن حذا حذوهم فقتلوا كثيرا منهم. وكان بعض أعاظم أمرائه عاونهم ونصرهم حتى كف السلطان عن الإكراه. وكثرت الرافضة وأعلنوا مذهبهم. وصنف علماؤهم كتبا جمة في الأصول والفروع والتفسير والحديث. وألف ابن المطهر بعد أن فرغ من كتابيه السابق ذكرهما شرح التجريد والاستبصار والنهاية والخلاصة والمبادئ في الأصول وغيرها كتاب الألفين، وأورد فيه ألفي دليل لإثبات مذهبه وترويج خزعبلاته، وزعم أنه أبطل مذهب أهل الحق بما أورد من شبهاته. وقد ردها فحول علماء السنة أحسن الرد وألقموا ذلك النباح حجر النكد. فعادت هاتيك الخرافات والشبه الواهيات لا تروج ولو على ابن يوم ولا يخفى فسادها على أحد من القوم. ولم يزل ابن الحلي يجادل بباطله أهل الحق ولم يرتدع عن غيه بعد أن ظهر له الصواب أثناء المناظرة كالفلق حتى مات على التحير والوله. ومن يضلل الله فلا هادي له. والسلطان قبل موت هذا الخبيث عاد إلى مذهب أهل السنة بإرشاد بعض العلماء
الأجلة. وضربت على ابن الحلي وأتباعه المذلة بعد أن سكن في الحلة، فحينئذ ضعفت الرافضة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتفرقوا شذر مذر وفرت علماؤهم خوفا من أهل السنة كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة. ولم يزل مذهب أهل السنة يتقوى والحق يعلو، وذلك سنة عشر وسبعمائة، حتى استولى بعد مدة بعض التراكمة من فرقة الاثني عشرية على ديار بكر وما حولها من القرى والأمصار سنة ستين وثمانمائة ورجعت الرافضة إلى ديارهم وإلى ما كانوا عليه، وبقي الملك فيهم قريبا من خمسين سنة.
ولما أضلتهم الضالة وانتشبت فيهم أنياب المنون، وذلك سنة عشر وتسعمائة، تولى الملك أول سلاطين الحيدرية، وكانوا من غلاة الاثني عشرية. ولما شاع خبرهم في البلاد أتته الرافضة من كل فج عميق وأقبلوا إليه من كل مرمى سحيق. فاستفحل أمره شيئا فشيئا حتى استولى على عراق العجم وفارس وكرمان ومازندران وأذربيجان وخراسان. ووفد عليه رجل من علماء الفرقة الهالكة وكان يزعم أنه نائب صاحب الزمان، فسجد له وقربه ووقره، فحثه الرجل على أن يُكره المؤمنين على قبول مذهب الاثني عشرية ويقتل من أبى وينهى الناس عن الجمعة والجماعة ويحول القبلة إلى اليسار ويخرب المساجد ويأمر الخطباء والأرذال أن يلعنوا عائشة الصديقة وحفصة أمي المؤمنين وكبراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين على المنابر والطرق والأسواق. وصنف في وجوب لعنهم كتابا
اشتمل على دلائل أوهى من نسيج العنكبوت. فأذعن السلطان لقوله وأكره المؤمنين على الرفض وقال لهم أجيبوا إلى ما دعاكم إليه وإلا صببت عليكم العذاب صبا. فأجابت دعوته جماعو وأبت أخرى، وقتل الأرفاض جما غفيرا من علماء أهل السنة ومشائخهم ومن أبى عن إجابتهم والإذعان إليهم، ونهى المصلين عن الجماعة والجمعة، وخربت المساجد وحول القبلة إلى الجنوب. وأمر جنوده أن ينبشوا قبور كبراء أهل السنة ويحرقوا عظامهم، ففعلوا ما أمرهم، فنبشوا قبور جمع من العلماء الأعلام والمشائح العظام إلا قبر شيخ الإسلام أبي الحسن الجامي النامي النامقي والشيخ أبي يزيد البسطامي والشيخ أبي الحسن الخرقاني وشيخ الإسلام عبد الله بن أبي منصور الأنصاري الهروي وسائر مشايخ هراة وغيرهم. ولما فتح هراة دعى أهلها إلى ما دعى إليه غيرهم، فأبوا أن يجيبوا دعوته، فقتل منهم جما غفيرا من العلماء والشرفاء. وتبعه أخوه فوقع في أبي جاد وخطب بأمره في جامع هراة كما أمره به من ذكر الأئمة الاثني عشر ولعن من يوجبون لعنه من الصحابة. وخالفه ابنه فهرب إلى ما وراء النهر كما هرب كثير من علماء خراسان وبعض علماء
فارس وأصفها وغيرهما من البلاد. فعاش برهة من الدهر وله من السلطان مكان.
ولما استولى على جميع بلاد خراسان رجع إلى مستقره وولاها أمراءه، فغزاهم خاقان الترك فغلبوا واستولوا على خراسان وقتل من الرافضة ما لا يحصى عددا وهرب أكثرهم. ثم لما قضى نحبه رجعوا وقاتلوا الأتراك وغلبوا واستولوا على خراسان مرة أخرى. ثم جاهدهم من قام مقام الخاقان وفتح بلاد خراسان عنوة. ولما مات استولوا مرة أخرى واستقر لهم الملك، غير أن خواقين ما وراء النهر وأمراء بلخ لا يزالون يغزونهم ويقتلون فريقا منهم ويأسرون فريقا، ويجاهدهم قياصرة الروم وملوك الهند وخوارزم. وأسر ملك خوارزم في بعض غزواته [جمعا] من الأمراء وأبنائهم ونسائهم وعمة السلطان وبنات الأمراء والأعيان، وكانوا يسيرون مع الركب العراقي وقد أفاضوا من أصفهان يريدون زيارة مشهد طوس، ونهب أموالهم.
وبقي الملك فيهم مع المنازع مائتي سنة، ثم ضعفت شوكتهم ووهنت قوتهم، فاستولى عليهم أرذل الرعايا وأقلهم مالا وعددا من أهل السنة وقاتلوهم فانهزموا واستولوا على بلاد سجستان وقندهار وقرة، ثم حاصروا أصبهان وكان ملك الرافضة يسكن فيها، فسير أمراءه من حكام البلاد جنودهم رسلا ليدعوهم إلى محاربتهم فأتاه أكثر من مائة ألف فارس وجمع لا يكاد يحصى من الرجالة، وكان مع من خرج عليه اثنا عشر ألف فارس ولم يكن معهم من الرجالة إلا شرذمة قليلة، فغلبوهم بإذن الله وقتلوا من الرافضة جمعا لا يحصى عددهم وهرب من بقي منهم، فخلت ربوعهم وتفرقت جموعهم وتشتت شملهم وذوى فرعهم وأصلهم. وتحصن السلطان ومن معه من الأمراء والأهالي في البلد، فحاصرهم أهل السنة وضيقوا عليهم أنفاسهم فضاقت عليهم الأرض، حتى اضطروا إلى أكل أوراق الأشجار، بل إلى أكل الميتة ولحم الخنزير. فاضطر السلطان إلى أخذ العهد بأن لا يصل إليه ضرر، وسلم الملك إلى أمير الجيش وأهل السنة، فدخل البلد وجلس على سرير السلطنة وسجن السلطان مع ولده وأهله في دار من أحسن الدور، وعين له خدما ومؤنة وافية وأعزه غاية الإعزاز وتزوج بنته. ثم فتح سائر بلاد فارس والعراق وأذربيجان وغيره وولى الوزراة وزير السلطان وأقر كثيرا من الأمراء على ما كانوا عليه من المناصب. فاجتمع من كان في قلبه مرض في دار بعض الأمراء وشاوره على قتل الملك، فلما عزم الأمر تفرقوا، فأخبر الملك بما أسروا من المكر فقتلهم جميعا وقتل سلطانهم مع من كان معه من الرجال، وكتب إلى أمرائه وسائر البلاد أن يقتلوا كل من وجدوه من أولي الشوكة منهم فقتلوهم وقتلوا كثيرا من روافض فارس وقم وكاشان وهمدان وبعض بلاد خراسان وشروان. ونهض جمع كثير من رعايا هراة وأمروا عليهم بعض رؤسائهم وجاهدوا الروافض، فقتلوهم
قتلا ذريعا واستولوا على البلدة وما حولها من القرى والبلدان كجام وخاف وصاف وباخرز وغيرها. ثم بايعوه وتوجوه بتاج السلطنة. ولما استقر لهم الملك أمر بإحراق ما وجد من كتب الرافضة، وهرب جمع من الرافضة ومن اختفى من جندهم. وأورث الله تعالى ديارهم المؤمنين، فما بكت عليهم السماء والأرض إنهم كانوا قوم سوء فاسقين.
وكان مدة أهل السنة فيهم ما يزيد على عشرين سنة. هذا وقد كان لما جنح السلطان الذي قتل إلى السلم هرب شاب من البلد وادعى أنه من ولد السلطان، وأخذ يسير في الأرض هائما حتى وجد خفيرا فسار معه إلى طوس، فقطن ريثما مات ملك أصفهان واستولى على الملك ابن عمه، وكان فظا غليظ القلب فاسقا سفاحا، فانفض من حوله كثير من شجعان قومه فركدت ريحه. وكان في عراق العجم رجل من أهل نيسابور من الدعاة العارفين فنون الحرب، فقدم أصبهان والملك مشغول بالملاهي غافل عن تدبير الملك، وقد علم أن أبسال جنوده تفرقوا أيادي سبأ، فأزمع الشخوص إلى طوس. فلما قدمه دخل على الشاب الذي يدعي أنه ابن السلطان وأخبره بما رأى وشجعه وحثه على القتال وحشد له العساكر وجعل نفسه قائد جنوده وأميرا على أمرائه، فكان عندهم وجيها فنهضوا للقتال. فلما التقى الجمعان وقامت الحرب على ساق تغلبوا على ملك أصفهان فهرب، فاستولوا على أكثر البلاد وملك بعضا آخر منها أخو الفاتح لأصفهان عنوة من أهل السنة.
ثم إن الرافضة حبست سلطانهم لما رأوا منه الظلم والجور والاشتغال بالملاهي ونهب أموال الناس وغصب نسائهم واللواطة في أبنائهم وبناتهم. وأقام القائد ولده الرضيع ماقمه وحاربهم الروم وغلبوا عليهم وقهروهم وانتزعوا كثيرا من البلدان من
أيديهم، وحاصروا من هرب منهم في الحرب وتحصنوا بالقلاع وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب فهرب فريق وقتل فريق آخر على أيدي الروم، وهم جنود القيصر نيفا وخمسين ألفا وحرقوا كثيرا من حصونهم الحصينة بأيديهم حتى فتح الروم البلد عنوة وقتلوا من أهله ما قتلوا ونهبوا ما وجدوا من الأموال النفيسة. فوقع من بقي من الرافضة في ضيق عظيم. ثم فتحوا سائر بلاد أذربيجان ولم يألوا جهدا في القتل والأسر والنهب وتخريب العمارات حتى صرا كثير من قراها بلاقع.
ثم قصد قهرمان القيصر أصبهان فاستقبله قائد السلطان فقاتلهم فغلب وسالمهم. ورجع إلى أصبهان وسمت نفسه إلى الزعامة الكبرى، فجلس على سرير السلطنة ثم قال: أيها الناس اعلموا أني من أهل السنة والجماعة ولست من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، فايم الله ذي الجلال والإكرام إن من سب أحدا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لأجعلن الأغلال في عنقه ثم لأقطعن منه الوتين ثم لأصلبنه في جذوع النخل لما تفوه بهذا الكلام. وأمر بقتل من سب بعض الصحابة الكرام. فحسبت الفرقة الناجية أنه على الحق والرافضة زعمت أنه ليس منهم ولكن يؤلف قلوبهم بذلك، ولا غرو في ذلك فإنهم أهل الكذب والبهتان. فكثرت بذلك جنوده وأتباعه. ولم تزل الفرقة الاثنى عشرية إلى يومنا هذا ذليلين صاغرين. نسأله تعالى أن يخذلهم إلى يوم الدين.