الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني في بيان سبب افتراق الرافضة
اعلم أن ابن سبأ لما دعى الناس إلى ما دعاهم إليه من الرفض والضلال، وأجابه من أجابه من الحمقاء، صارت الرافضة فرقتين، وكانت دعاة كل فرقة يدعون الناس إلى مذهبهم. ولما دعى بعض دعاة الفرقة الغلاة إلى مذهبه طائفة من الفرقة السبئية وتبعه منهم من تبعه، وكان فيهم من له أدنى روية وعقلٍ أعرض عنه وشدد عليه النكير، وقال من يأكل ويشرب ويصحّ ويمرض ويجوع ويعرى ويلد ويولد كغيره من الحيوانات أنى يسوغ أن يدعى فيه الألوهية.
فلما أذعن طائفة منهم إلى هذا القول واستشكل عليه الأمر والتبس عليه طريقه، راجع من يعوّل عليه ويقبل قوله لديه، ففكر وقدر ثم قتل كيف قدر، ثم قال له مجيبا: إن الله روح حلّ في علي وهو ليس بإله، وإنما حلّ الإله فيه كما حلّ في عيسى بن مريم واتحد بناسوته. فاستحسنه جماعة من الحمقى وعقدوا قلوبهم عليه. فافترقت فرقة الغلاة إذ ذاك فرقتين: فرقة تقول إن عليا هو الإله، وأخرى تقول بحلول الإله فيه. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم زاد رؤساء كل فرقة ما دعته له أهواؤهم وأوحته إليهم شياطينهم. فكثرت فرقهم وتشعبت طرقهم. ولما استشهد ريحانة الرسول الإمام الحسين رضي الله تعالى عنه، ومضت برهة من الزمان، نهض كيسان مولى السبط الأكبر يدعو الناس إلى إمامة محمد بن علي بن أبي طالب، لأنه بعد أن جاء مولاه بنفسه لازم صحبة أخيه محمد وأخذ عنه
غرائب العلوم، فلبى دعوته جمع من الفرقة الأولى، منهم مختار بن أبي عبيدة الثقفي، وسمَت نفسه للسلطنة، فادعى أنه استخلفه محمد لطلب ثأر أخيه والجهاد مع أعدائه، إلا أنه قال بإمامة السبطين وكان كيسان ينكرها، ودعى جمعا كثيرا إلى مذهبه فاتبعوه، ولقب أصحابه بالمختارية. وحاربوا معه النواصب من المروانية فهزموهم بإذن الله، واستولى على العراق وديار بكر والأهواز وأذربيجان. ثم اختلفوا في الإمام بعد محمد:
فقال أبو كريب وكان من رؤسائهم: محمد خاتم الأئمة، وقد اختفى من خوف الأعداء وسيظهر بعد حين.
وقال إسحاق منهم: الإمام بعد محمد ابنه أبو هاشم بن حرب، وكان من
رؤساء الكيسانية.
وذهبت فئة من موالي آل جعفر بن أبي طالب إلى أن الإمام بعد أبي هاشم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وتبعهم جمع كثير.
وذهبت جماعة أخرى من الكيسانية إلى أن الإمام بعد ابي هاشم علي بن عبد الله بن عباس لما انتقلت الخلافة إلى آل عباس ثم إلى أولاد المنصور.
ولما خرج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم على ابن عبد الملك بن مروان الأموي، وتابعه جماعة من الشيعة المخلصين واثنا عشر ألفا من الفرقة الأولى من الرافضة، وحاربوا معه يوسف بن عمرو الثقفي أمير العراقين، ورفضه الرافضة واستشهد؛ قال لأصحابه: إن الإمام بعد الحسين زيد. ثم اختلفوا في تعيين الإمام بمقتضى ما عرض لأوهامهم.
ونهض بعض الفرقة الأولى لما سمَت نفسه للرئاسة يدعو الناس إلى إمامة الحسن المثنى بن الحسن السبط، وجمع [عددا] منهم إلى إمامة علي بن الحسين. وكان أفضل أهل زمانه في العلم والورع. فاتبعه جمع كثير ودعوا الشيعة إليه.
وكان من تلك الدعاة هشام بن الحكم الأحول وهشام بن
سالم الجواليقي وشيطان الطاق والميثمي وزرارة بن أعين.
وقالوا الإمام بعد علي بن الحسين ابنه محمد الباقر. واختلفوا فيه، فقال جمع إنه حي وقال آخرون إنه مات والإمام ابنه زكريا وهو حي. وقالت جماعة الإمام بعده ابنه الصادق، فتبعهم جمع كثير ولقبوا بالإمامية. وزاد كل
منهم في أصول المذهب أشياء ودعى الناس إليه فتبعه جمع كثير. فافترقت الإمامية ست فرق: الحسنية والحكمية والسالمية والشيطانية والميثمية والزرارية. ثم اختلفوا في الإمام بعد الصادق. فقالت جماعة هو حي لكنه اختفى وسيظهر بعد حين، وقال جمع إنه مات والإمام بعده ابنه موسى. ثم افترقوا وسبب ذلك اختلافهم في تعيين الإمام بعد الإمام السابق أو إنكار أو ادعاء رجوعه بعد الموت، ولذلك كثرت فرقهم.
وقالت جماعة أخرى الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل. وافترقوا فرقتين. منهم من قال إنه حي وهو خاتم الأئمة، ومنهم من قال إنه مات والإمام بعده ابنه محمد.
وافترقت الفرقة الثانية أيضا. وسبب افتراقهم أنه لما مات إسماعيل خلّف ابنا يدعى محمدا، فقدم مع جده إلى بغداد ومات هناك ودفن في مقابر قريش. وكان له عبد حجازي سماه المبارك، وكان مشهورا بجودة الخط والقرمطة، فلاقاه عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي بعد وفاة الصادق، فادعى أنه من شيعة هؤلاء، وكان ينادمه ويلازمه حتى حل
عنده محل الروح من الجسد وقال: قد ظهر لي من مولاك محمد ما ظهر من الأسرار المكتومة على غيري، فراج عليه كذب حتى ألحّ عليه أن يبين له ما باح له مولاه من أسراره، فقال له: بشرط أن يجعل ليلك ليل أنقد، وأعطاه مال عن ظهر يد. فذكر له شيئا من كلام الأئمة في المقطعات، ودس فيه شيئا من الفلسفة، وعلمه طرفا من الشعوذة والسحريات والطلاسم، وكان ماهرا في تلك العلوم. وقد ذكره محمد بن زكريا الرازي في كتاب المخاريق مع غيره من الحكماء. ثم بين له شيئا من عقائده الزائغة، فراج عليه زيفها وقبل ما ألقاه عليه. ثم افترقا. فخرج المبارك إلى الكوفة ودعا أهلها إلى مذهب الإسماعيلية، فأجاب دعوته جمع كثير ممن لا يفرق بين النقير والقطمير، ولقب شيعته بالمباركية والقرامطية أيضا. وخرج عبد الله بن ميمون إلى قهستان العراق ودعى جمعا إلى مذهبه، فاتبعه فريق من الضالين ورهط من المفسدين، ولقب شيعته بالميمونية. ثم استخلف رجلا اسمه خلف
سيّره إلى خراسان وقم وقاشان، فأضل من ابتع هواه وأطاع الشيطان وعصى الإله. وارتحل ميمون إلى البصرة فدعى جمعا من أهلها إلى مذهبه فأبى أكثرهم. ولم يزل يروق لهم كلماته ويموه عليهم غلطاته حتى أجابه الغفير الجمّ منهم. وقدم خلف طبرستان ودعى الشيعة إلى مذهب القداح، وقال هو مذهب أهل البيت، وإذا خرج قائمهم أذاع ذلك وسيخرج عن قريب. ثم قدم الكوفة فأضل من أضل. ثم توجه إلى نيسابور فأقام في قراها يدعو الناس إلى مذهبه الباطل، فأجابه من الجهلة من أجابه. وقد انتشر أمره بين أهل السنة فقصدوه، فلما أحس بذلك هرب منهم وشرع يجول في الفلوات، إلى أن قصم الله عمره.
ثم أقام مقام الخلف بعده أحمد واستخلف رجلا من علماء السوء اسمه غياث وسيره إلى العراق وحثه على استمالة الناس إلى مذهبه.
وكان غياث أديبا ماهرا في النحو واللغة شاعرا مجيدا، فصنف في أصول مذهب الباطنية كتابا سماه بالبيان، وقد رصعه بأمثال العرب وأشعارهم، واستدل على مذهبه بالآيات والأخبار، وذكر معنى الوضوء والصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من الأحكام لغةً، وقال هو مراد الشارع دون ما فهمته العامة. وكان كثير الجدل والمناظرة مع مخالفيه، فأتاه ذوو الضلال من كل فج عميق وأسرعوا له من كل بلد سحيق، ليأخذوا عنه مذهبه الباطل ظنا منهم أنه الحق، ولم يدروا أنه بعيد
عنه بمنازل. ولقب تابعيه بالخليفية، وكان ذلك سنة اثنين ومائتين. فينما هو راكب متن ضلاله سائر في أودية سوء أفعاله إذ أخبره رجل بأن الملأ يريدون قتلك. فخرج حينئذ منها إلى مرو الشاهجان. فأقام هناك مدة وأضل فيه من أضل بتقدير الله عز وجل. ثم رجع إلى الري فأُخبر أن أهل السنة يطلبونه، فهرب منهم هو وأتباعه الفجرة، فاختارته المنية في الطريق، ومات في البصرة ودفن هناك.
واستخلف بعده ولده أحمد. وكان يتلو تلو أبيه من البصرة إلى الشام ولم ينل هناك شيئا من بغيته، فارتحل إلى المغرب وثوى في بلد كان أكثر أهله كالأنعام. ودعاهم إلى مذهب الإسماعيلية فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين. ثم رجع إلى الشام فلم ينل مراده أيضا، فقدم البصرة ولقي هناك هند الأخاسس، وخلّف ابنه محمدا، فخرج إلى المغرب فعلا قدره
ثمّة، وادعى أنه هو المهدي الموعود به. فاستولى على الإفريقية وغيرها من بلاد المغرب. ولقب أتباعه بالمهدوية. ثم افترقت المهدوية بعد مدة فرقتين. وسبب ذلك أن المستنصر من ولد المهدي نصّ على إمامة ولده نزار ثم على إمامة ولده المستعلي، فأخذ جمع بالنص الأول وآخرون بالثاني.
ثم خرج من هؤلاء القوم محمد بن علي البرقعي في الأهواز سنة خمس وخمسين ومائتين. وادعى أنه من العلوية ولم يكن منهم، إلا أن بعض العلوية تزوج بأمه فعزا نفسه إليه. واستولى على خوزستان بصرة وأهواز. وأضل خلقا كثيرا من الناس. ولقب أتباعه بالبرقعية.
وأرسل إليهم المعتضد العباسي غير مرة جنودا كثيرة، فغلبوا عليهم في كل مرة
بتقدير الله تعالى. وبقي خمس عشرة سنة في أرغد عيش حتى أتى أمر الله، فسيّر المعتضد جنودا لا قبل لهم بها، وذلك سنة سبعين ومائتين، فقاتلوا جنوده أشد القتال، فهزموهم بإذن الله وأسروا البرقعي وذهبوا به إلى بغداد. فأمر المعتضد أمير العسكر أن يقتله ويصلبه في جذع نخلة، ففعل كما أمر، فاضمحل الباطل حينئذ وانقشعت غيوم الضلال وتفرقت أتباعه أيادي سبأ.
ثم خرج سنة ثمان وسبعين ومائتين رئيس القرامطة واستولى على قطيف. وخرج هذه السنة فيما وراء النهر رجل منهم يقال له حكيم بن هشام الملقب بالمقنع، وكان بليغا ماهرا في علوم الشعوذة والحيل والنجوم والسحريات والطلمسات وكثير من علوم الفلاسفة، وكان يظهر للناس أمورا غريبة من السحر والشعوذة. فتبعه جمع كثير من الجهلة، حتى عمل قليبا في بلدة نسف يخرج منه بعد المغرب قمر منير يضيء خمس فراسخ ثم يأفل فيه قبل طلوع الفجر. فكثرت أتباعه إذ ذاك. ولقب تابعيه بالمقنعية. وادعى الخبيث أنه رابع أربعة آلهة فصدقته شيعته.
فأرسل إليه الخليفة وملوك ما وراء النهر جنودا تترى يقاتلونهم ثم يغلبون، حتى
جاء أمر الله، فأرسل الخليفة والملوك وأمراء خراسان جنودا متتابعة، فحاربهم فضاقت عليه الأرض، فتحصن هو وأصحابه حصنا حصينا قد بناه على بعض التلال وهرب الآخرون منهم، وقاتل المسلمون أهل الحصن من وراء الجدر. فلما نفد ما عندهم من الزاد أمر أصحابه أن يوقدوا نارا عظيمة فأوقدوها، ثم سقاهم سما مع الخمر فماتوا جميعا، فألقى أجسادهم في النار، فلما صارت رمادا نسفها نسفا، ثم دخل الخبيث في جب من المياه الحارة التي لا يقع فيها شيء إلا صار ماءً، وكانت في زاوية من زوايا الحصن جارية مريضة قد أغمي عليها، فأفاقت بعد يومين ولم تر أحدا في الحصن، فزحفت إلى الباب فنادت أن ليس في الحصن أحد غيري، فستور جمع منهم الحصن فلم يروا منهم أحدا، فنزلوا وفتحوا الباب ودخل فيه المسلمون فلم يروا منهم أثر فتعجبوا. وزعم أتباعه الذين تفرقوا في البلاد أنه عرج هو وأصحابه إلى السماء.
وخرج أيضا رجل منهم في عهد المعتضد، وهو أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، في البحرين على أبحر والحسا والقطيف وسائر بلاد البحرين. ودعى الناس إلى مذهب الباطنية من الرافضة. ولقب تابعيه بالجنابية. وكانوا يغيرون على القرى ويقطعون السبل ويقتلون المسلمين. فقتله خادم له في الحمام سنة إحدى وثلاثمائة. وقام مقامه ولده طاهر، وكان هو وأبوه على عقيدة واحدة، وهوه الذي قتل الحجاج في الموسم سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وقيل قتلهم أبوه. وأذاع مذهب الباطنية. وكان يسعى غاية السعي في الإضلال حتى صاحت به وبأكثر أتباعه حوادث الدهر.
ونهض حمدان منهم، وكان من قرمط يدعو الناس إلى إمامة محمد بن إسماعيل وأنه حي لم يمت وهو المهدي. ولقب أتباعه بالقرمطية، وغلب عليهم بهذا اللقب، ولا يلقب به المباركية بعده.
ثم نهض ابن أبي الشمط وخالف حمدان وقال الإمام بعد إسماعيل أخوه محمد ثم أخوه موسى الكاظم ثم أخوه عبد الله ثم أخوه إسحاق. ولم ينكر إمامة محمد بن إسماعيل لكن أنكر حياته. ودعى الناس إليه. ولقب أصحابه بالشمطية. وعاش أعواما في إضلال الناس حتى ورد حياض غتيم.
والميمونية والخلفية والبرقعية والمقنعية والجنابية والقرمطية كلهم من الباطنية. ولا خلاف بينهم في العقائد إلا في بعض المسائل. وكلهم يوجبون العمل ببواطن النصوص لا بظواهرها، ولذا لقبوا بالباطنية. لكن لقبت كل قوم منهم بلقب ليتعارفوا، إلا أن المقنع في أواخر ايامه ادعى الألوهية.
والباطنية كلهم من الإباحية وغلاة الرافضة. وكان بين البرقعي والمقنع والقرمطي عيبة مكفوفة، وكان بينهم مكاتبات، وهم على وتيرة واحدة. وأول من دعى الناس إلى مذهب الباطنية القداح. وأول من جهر به البرقعي ثم المقنع والجنابي ثم الحسن من
النزارية ثم غير واحد من ولده. والمهدوية منهم يبالغون في إجراء الأحكام الشرعية خشية أن ينفر عنهم الناس.
وتقول أئمتهم لكل من شيعتهم سبح يغتروا.