الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول في بيان مبدأ ظهور الرافضة
اعلم أن الله تعالى لما فتح بلاد الكفار من اليهود والنصارى والمجوس وعباد الوثن والنار على أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيدي من اتبعهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم وشرفهم وعظمهم وكرمهم، وهلكت أعداء الله بسيوفهم القاطعة وأسنتهم اللامعة وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ذلك بما قدمت أيديهم من معصية خالقهم عز اسمه وجل علاه؛ تستر من تستر منهم بإظهار الإسلام وجعله جنة لرشق مصيب السهام، فأظهروا الانقياد والإيمان وأبطنوا الضلال والكفران، ومع ذلك فهم لم يألوا جهدا في إعداد ما يطفئ نور الله الذي أراد ظهوره، وأنى لهم ذلك ويأبى الله إلا أن يتم نوره. فكان الدين المحمدي إذ ذاك في ترقٍ واستظهار، وكلمة المسلمين غير مختلفة ويدهم واحدة على الكفار، فلم يحصل مراد المنافقين من تشتيت شمل الموحدين، ولم يتيسر لأولئك الأشقياء إلقاء العداوة بينهم والبغضاء، حتى خرج أهل مصر بتقدير العزيز العليم على ثالث الخلفاء ذي النورين عثمان بن عفان المبشر على بلوى تصيبه بجنات النعيم. فانتهز المنافقون إذ ذاك فرصة الظفر بمقاصدهم ونيل أوطارهم ومرادهم فاتبعوا أولئك المارقين، واتفقوا مع الخارجين وحملوا حينئذ على قتل عثمان وسقيه كأس المنون، فقتلوه قاتلهم الله أنى يؤفكون.
فحل بالمسلمين من البلاء ما حل، والأمر كله لله عز وجل. وبعد أن استشهد رضي الله تعالى عنه بويع لعلي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة، وكان أهلا لذلك، فقد اختاره للإمامة من اختار أسلافه. وقد خرج عليه من خرج وبغى عليه من بغى ممن أخطأ في ذلك المنهج، فسمي حينئذ من تابع الأمير بشيعة علي ذي القدر الخطير، وكانوا على اعتقاد أهل الحق، ثم تابعهم المنافقون ومن خرج على عثمان واختلطوا جميعا وقيل للكل شيعة علي. وكان من جملة المنافقين عبد الله بن سبأ اليماني الصنعاني. وكان أول أمره
يهوديا خبيث النفس، فأظهر للشيعة الذين كانوا على نهج الحق كمال المحبة لعلي وسائر أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وحث المسلمين على ذلك ورغبهم فيما هنالك، وهو يستبطن إضلالهم وتفريق شملهم، حتى تأكد لديهم أنه من المخلصين ومن أجلة المسلمين، وأنه حل عندهم أعلى محل.
ولما تيقن أن قوله لديهم يسمع وأمره مقبول ومطاع وأن خزعبلاته تروج عليهم، ذكر لهم أن أمير المؤمنين أفضل البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أخوه وابن عمه ووصيه وصهره وأولى الناس به، وتلا لهم الآيات الواردة في فضائله وروى الأحاديث الصحيحة والموضوعة في مناقبه. فلما صدقوه بذلك وانطوت عقائدهم على ما هنالك، ألقى على طائفة من هؤلاء الشيعة دسائس أخرى، وهي أن أمير المؤمنين كان وصي النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته من بعده، وقد نصّ على خلافته وأمر أصحابه باتباعه والاعتراف بإمامته وأوصاهم بإطاعته وأنزل الله تعالى فيه لما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة راكعا:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} ،
ولكن الصحابة أضاعوا وصيته في وصيّه، ولم يطيعوا الله ورسوله فيما أمروا به، ونبذوا أمر الرسول وراء ظهورهم وارتدوا على أعقابهم إلا أربعة منهم، وعصب أبو بكر وصاحباه حقه وظلموه. فاعتقدوا ذلك حقا وحسبوا هنالك صدقا، فصدق إبليس عليهم ظنه فاتبعوه من دون الله، لا يلتفتون في ذلك لعذل عاذل ولا يصغون لقول قائل ولا يفيدهم الوعظ والزجر ولا ينفعهم الدعاء والذكر. والذكرى تنفع المؤمنين وتفيد الموحدين.
ثم إن ابن سبأ لما رأى من طاعة قومه له ما رأى وحصل له بعض الأماني، قصد أن يظهر مطلوبه ويطلب منهم مراده ومقصوده، فاختلى بطائفة منهم ممن لا يفرق بين القشر واللب ولا يميز بين الغث والسمين، وناجاهم بأنكم قد شاهدتم من خوارق الأمير ما شاهدتم وعلمتم أن ذلك مما لا يمكن صدوره عن بشر، كقلب الأعيان وإحياء الموتى والإخبار عن الغيوب وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، فما تقولون فيه؟ قالوا أنت أعلم به منا وأبصر بحاله. قال هلموا إلي في الليل أبين لكم رأيي فيه. فلما جاءوه عشاءً قال: يا معشر الأحباب وذوي الألباب، إنكم لتعلمون أنه لا يمكن صدور مثل تلك الأمور إلا من الله، فاعلموا أن عليا هو الإله لا إله إلا هو، وقد سمعت منه أنه يناجي: أنا حي لا يموت، أنا باعث من في القبور، أنا أقيم القيامة! فجذبهم بعنان كذبه وافترائه إلى الكذب والضلال لأنهم كانوا مستعدين لمثل هذا، {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} ، وكل ميسر لما خلق له، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} .