المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مطلب الأدلة العقلية - السيوف المشرقة ومختصر الصواقع المحرقة

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌المقصد الأول في بيان سبب ظهور الرافضة وسبب افتراقهم وعدد فرقهم

- ‌الفصل الأول في بيان مبدأ ظهور الرافضة

- ‌وافترقت الشيعة حينئذ إلى أربع فرق

- ‌الفصل الثاني في بيان سبب افتراق الرافضة

- ‌الفصل الثالث في بيان فرق الشيعة

- ‌وأما الغلاة فأربع وعشرون فرقة

- ‌(فرق الزيدية)

- ‌(فرق الإمامية)

- ‌(فرق الإسماعيلية)

- ‌خاتمة لهذا الفصل

- ‌الفصل الرابع في بيان مدة بقاء كل فرقة من فرق الروافض

- ‌الفصل الخامس في بيان دعاة الرافضة وفرقهم

- ‌الفصل السادس في بيان مكائد الرافضة لإضلال الناس وميلهم عن الحق

- ‌الفصل السابع في بيان أسلاف الرافضة

- ‌الفصل الثامن في بيان أنه لا يمكن إثبات الدين المحمدي على أصول الرافضة

- ‌(الأدلة عند الشيعة)

- ‌الفصل التاسع في بيان من يدعي كل فرقة من الرافضة أخذ المذهب عنه وإبطاله

- ‌الفصل العاشر في بيان اختلاف الرافضة في الإمامة وتعيين الأئمة

- ‌الفصل الحادي عشر في بيان كثرة اختلاف الشيعة في أعداد الأئمة وشروط الإمامة

- ‌الفصل الثاني عشر في بيان اختلاف الشيعة فيما رووه عن أهل البيت

- ‌الفصل الثالث عشر في أقسام أخبار الشيعة

- ‌الفصل الرابع عشر في بيان احتجاج الرافضة بالأخبار التي لا يجوز الاحتجاج بها

- ‌الفصل الخامس عشر في بيان روايات الشيعة إلا الحميرية عن أهل البيت

- ‌الفصل السادس عشر في ذكر علماء كل فرقة من فرق الشيعة

- ‌الفصل السابع عشر في بيان كتب الشيعة

- ‌الفصل الثامن عشر في بيان أحوال كتب أحاديث الشيعة

- ‌الفصل التاسع عشر في أن معتقدات الرافضة وهميات

- ‌الفصل العشرون في بيان غلو الرافضة في مذاهبهم الباطلة

- ‌الفصل الحادي والعشرون في بيان من لقب هذه الفرقة بالرافضة

- ‌المقصد الثاني في الإلهيات

- ‌المطلب الأول في بيان أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعا

- ‌المطلب الثاني في أن الله تعالى موجود حي عالم سميع بصير قادر

- ‌المطلب الثالث في بيان أن الإله واحد

- ‌المطلب الرابع في بيان أن الله تعالى متفرد بالقدم

- ‌المطلب الخامس في أن الله تعالى أبدي لا يصح عليه الفناء لا يشارك في ذلك

- ‌المطلب السادس في أن لله تعالى صفات ثبوتية أزلية

- ‌المطلب السابع في أن صفات الله تعالى قديمة

- ‌المطلب الثامن أن الله تعالى فاعل بالاختيار

- ‌المطلب التاسع في أن الله تعالى قادر على كل مقدور

- ‌المطلب العاشر في أنه تعالى عالم بما كان وما يكون

- ‌المطلب الحادي عشر في أنه تعالى يتكلم والكلام صفة من صفاته

- ‌المطلب الثاني عشر أن القرآن كلام الله تعالى ليس فيه تحريف ولا نقصان

- ‌المطلب الثالث عشر أن الله تعالى مريد

- ‌المطلب الرابع عشر أن إرادة الله تعالى متعلقة بكل كائن

- ‌المطلب الخامس عشر في أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد

- ‌المطلب السادس عشر في بيان أنه لا يجوز البداء على الله

- ‌المطلب السابع عشر في أنه لا يجب على الله تعالى شيء

- ‌المطلب الثامن عشر في بيان أن التكليف لا يجب على الله تعالى

- ‌المطلب التاسع عشر في أن اللطف لا يجب على الله تعالى

- ‌المطلب العشرون في بيان أن الأصلح لا يجب عليه تعالى

- ‌المطلب الحادي والعشرون في بيان أن العوض لا يجب على الله تعالى

- ‌المطلب الثاني والعشرون في أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى

- ‌المطلب الثالث والعشرون في أن الله لم يفوض خلق الدنيا إلى أحد

- ‌المطلب الرابع والعشرون في أن الله تعالى خالق الخير والشر

- ‌المطلب الخامس والعشرون في أن جميع الكائنات بقضاء الله تعالى وقدره

- ‌المطلب السادس والعشرون في أن قرب العبد إلى ربه ليس بقرب مكان

- ‌المقصد الثالث في مباحث النبوة

- ‌الفصل الأول في أن البعثة لطف من الله تعالى

- ‌الفصل الثاني في جواز خلو الزمان عن نبي ووصي

- ‌الفصل الثالث في أن الرسول أفضل الخلق ولا يكون غيره أفضل منه

- ‌الفصل الرابع في أن النبي لا يحتاج إلى غير النبي لا يوم القيامة ولا في الدنيا

- ‌الفصل الخامس في أن الأنبياء عليهم السلام كانوا عارفين بما يجب من اعتقادات

- ‌الفصل السادس في أن الأنبياء لم يصدر عنهم ذنب كان الموت عليه هلاكا

- ‌الفصل السابع في أن الأنبياء عليهم السلام كانوا منزهين عن الخصال الذميمة

- ‌الفصل الثامن في أن الأنبياء عليهم السلام أقروا جميعا يوم الميثاق بما خاطبهم الله تعالى

- ‌الفصل التاسع في أن نبيا من الأنبياء لم يعتذر عن الرسالة ولم يستعف منها

- ‌الفصل العاشر في أن المبعوث هو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه

- ‌الفصل الحادي عشر في أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

- ‌الفصل الثاني عشر في أن الله تعالى لم يفوض أمر الدين إلى أحد من الرسل والأئمة

- ‌الفصل الثالث عشر في أن المعراج لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق

- ‌الفصل الرابع عشر في أن ما ورد من النصوص محمولة على ظواهرها

- ‌الفصل الخامس عشر في أنه تعالى لم يرسل بعد خاتم الأنبياء ملكا إلى أحد بالوحي

- ‌الفصل السادس عشر في أن النسخ من وظائف الشارع

- ‌المقصد الرابع في الإمامة

- ‌المطلب الأول في أن نصب الإمام ليس بواجب عليه تعالى

- ‌تتمة

- ‌المطلب الثاني في أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق

- ‌(الأدلة القرآنية على خلافة الثلاثة)

- ‌(أخبار عترية في خلافة الخلفاء)

- ‌تتمة في ذكر بعض الأدلة المأخوذة من الكتاب وأقوال العترة الأنجاب مما يوصل إلى المطلوب بأدنى تأمل

- ‌المطلب الثالث في إبطال ما استدل به الرافضة على كون الخلافة للأمير بلا فصل

- ‌(الأدلة القرآنية)

- ‌(الأدلة الحديثية)

- ‌مطلب الأدلة العقلية

- ‌المطلب الرابع في بيان صاحب الزمان

- ‌المطلب الخامس في أن العدالة شرط في الإمامة لا العصمة

- ‌المطلب السادس في أن الإمامة لا تنحصر في عدد معين

- ‌المقصد الخامس في رد مطاعن الخلفاء الثلاثة وأم المؤمنين وسائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم

- ‌المطاعن الأولى في الصديق الأجل رضي الله تعالى عنه

- ‌المطاعن الثانية في حق الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه

- ‌المطاعن الثالثة في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه

- ‌المطاعن الرابعة في أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها

- ‌المطاعن الخامسة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين

- ‌المقصد السادس في المعاد

- ‌المطلب الأول في أن المعاد واقع

- ‌المطلب الثاني في أنه لا يجب على الله تعالى أن يبعث الخلق

- ‌المطلب الثالث في أن عذاب القبر حق

- ‌المطلب الرابع في أن الجنة والنار حق

- ‌المطلب الخامس لا رجعة إلى الدنيا بعد الموت

- ‌المطلب السادس في أن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء

- ‌المطلب السابع أن غير الفرقة الناجية من الفرق لا تخلد في النار

- ‌المقصد السابع في بيان ما يدل على بطلان مذهب الشيعة

- ‌(الأدلة القرآنية)

- ‌(الأحاديث النبوية)

- ‌(الآثار المروية عن أهل البيت)

- ‌(الدلائل العقلية)

- ‌(تشريع فرق الشيعة ما لم يأذن به الله)

- ‌(مسائل الأعياد)

- ‌(مسائل الطهارة)

- ‌صفة الوضوء والغسل والتيمم

- ‌مسائل الصلاة

- ‌مسائل الصوم والاعتكاف

- ‌مسائل الزكاة

- ‌مسائل الحج

- ‌مسائل الجهاد

- ‌مسائل النكاح والبيع

- ‌مسائل التجارة

- ‌مسائل الرهن والدين

- ‌مسائل الغصب والوديعة

- ‌مسائل العارية

- ‌مسائل اللقيطة

- ‌مسائل الإجارة والهبة والصدقة والوقف

- ‌مسائل النكاح

- ‌مسائل المتعة

- ‌مسائل الرضاع والطلاق

- ‌مسائل الإعتاق والأيمان

- ‌مسائل القضاء

- ‌مسائل الدعوى

- ‌مسائل الشهادة والصيد والطعام

- ‌مسائل الفرائض والوصايا

- ‌مسائل الحدود والجنايات

- ‌المقصد الثامن في ذكر شيء من تعصباتهم ونبذ من هفواتهم

- ‌المطلب الأول في ذكر شيء من تعصباتهم

- ‌المطلب الثاني في ذكر شيء من هفواتهم

- ‌(التقية)

- ‌(التفسير)

- ‌(الكذب)

- ‌(ثواب المتعة)

- ‌(الرقاع والتوقيعات)

- ‌الخاتمة

- ‌قف على حال الإمامية من الشيعة

الفصل: ‌مطلب الأدلة العقلية

باطل لا سيما إمامة عبد الله بن عباس وابن الحنفية وزيد بن علي وإسحاق بن جعفر الصادق وأمثالهم من أهل البيت، فتدبر.

‌مطلب الأدلة العقلية

أما الأدلة العقلية فهي حبائل خيالية ووسوسة شيطانية.

منها أن الأمام يجب أن يكون معصوما، وغير الأمير من الصحابة لم يكن معصوما، فكان هو إماما لا غيره.

وفي هذا الترتيب نظر يظهر لذي نظر، وفيه بعدُ منع. أما الصغرى فلأن الأمير نص بقوله:«إنما الشورى للمهاجرين والأنصار» على أن الشورى لهم فقط، وبديهي عدم العصمة فيهم. ولمّا سمع قول الخوارج:«لا إمرة» قال: «لا بد للناس من أمير بر أو فاجر» كذا في نهج اليلاغة.

وأيضا طريق العلم بالعصمة لغير النبي صلى الله عليه وسلم مسدود، إذ أسباب العلم ثلاثة: الحواس السليمة، والعقل، وخبر الصادق. ولا سبيل لأحد منها إلى تحصيله. أما الأول فظاهر إذ العصمة ملكة نفسانية تمنع من صدور القبائح وهي غير محسوسة. وأما الثاني فلأن العقل لا يدرك الملكة إلا بطريق الاستدلال بالآثار والأفعال، وأين الاستقراء التام في المقام، سيما مكنونات الضمائر من العقائد الفاسدة والحسد والبغض والعجب والرياء ونحوها. ولو فرضنا الاطلاع على عدم الصدور فأين عدم إمكانه وهو المقصود. وأما الثالث فلأن خبر الصادق إما متواتر أو خبر الله ورسوله. وظاهر أن التواتر لا دخل له هنا، إذ يشترط انتهاؤه إلى المحسوس في إفادة العلم ولا انتهاء إذ لا محسوس. وخبر الله والرسول لا يكون موجبا للعلم هنا على أصول الشيعة لإمكان البداء عندهم.

ص: 498

وأيضا وصول الخبر إلى المكلفين إما بواسطة معصوم أو بواسطة تواتر، ففي الأول يلزم الدور، وفي الثاني يلزم خلاف الواقع، لأن كل تواتر ليس مفيدا للعلم القطعي عند الشيعة، كتواتر المسح على الخف، وغسل الرجلين في الوضوء، و {أمة هي أربى من أمة} ، وصيغة التحيات ونحو ذلك. فلا بد من التعيين، وذلك غير مفيد، إذ حصول العلم القطعي من التواتر يكون بناء على كثرة الناقلين وبلوغهم ذلك المبلغ، ولما كذب الناقلون في مادة أو مادتين ارتفع الاعتماد عن اقسامه. ولا يرد هذا في الأنبياء للمعجزة وبتميزهم على غيرهم. وفرق بين التابع والمتبوع فافهم.

وأما الكبرى فلأن الأمير قال لأصحابه: «لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإنني لست بفوق أن أخطئ ولا آمن من ذلك في فِعلي» كذا في النهج. وهذا لا يصدر من معصوم، لا سيما وبعده:«إلا أن يلقي الله في نفسي ما هو أملك به مني» والمعصوم يملكه الله تعالى نفسه. وأيضا روي في دعاء الأمير: «اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك ثم خالفه قلبي» كذا في النهج أيضا، فليتدبر حق التدبر.

ومنها أن الإمام لا بد من أن لا يرتكب الكفر قط، لقوله تعالى:{لا ينال عهدي الظالمين} والكافر ظالم لقوله تعالى: {والكافرون هو الظالمون} ، وغير الأمير من الصحابة عبدوا الأصنام في الجاهلية، فيكون هو إماما دون غيره.

وفيه ما في الأول. والنقض بابن عباس. لا يقال اشتراط العصمة تدفعه لأنا نقول بعد التسليم، فالدليل ذاك لا هذا كما لا يخفى. وأيضا من تاب وآمن وعمل صالحا لا يصدق عليه الظلم، إذ تقرر أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفي غيره بشرط الاطراد

ص: 499

والتعارف مجاز، فلا يقال للشيخ صبي وللنائم مستيقظ وللحي ميت. وأيضا قد روى الزاهدي من الحنفية في معالي العشر في حديث طويل أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم بمحضر من المهاجرين والأنصار:«وعيشك يا رسول الله إني لم أسجد للصنم قط، فنزل جبريل عليه السلام وقال: صدق أبو بكر» وكذا نقل أهل السير والتواريخ، فصحت إمامته بملاحظة هذا الشرط، ولله تعالى الحمد.

ومنها أنه ادعى الإمامة وأظهر المعجزة كدحي باب خيبر والقصة معلومة وحمل الصخرة في صفين إذ عطش القوم وحفروا بئرا فصادفوا صخرة عظيمة في الأثناء وعجزوا عن قلعها فقلعها الإمام، ومحاربة الجن في غزوة بني المصطلق ورد الشمس وهي مشهورة، فيكون إماما.

وفيه أما أولا فلأن إظهار المعجزة خاص بالأنبياء عند دعوى النبوة، إذ لا سبيل للعلم بها إلا به، وفي الغير لا تثبت دعوى رجل على آخر بإثبات خارق على آخر بإثبات خارق دون شهود. [ولما كانت] الإمامة متعلقة بتعيين النبي صلى الله عليه وسلم أو أمته من يصلح لذلك، فلا تكون معجزة دليلا هنا.

ص: 500

وأما ثانيا فلأن الإظهار لم يكن من عند الدعوى، ودعوى ذلك محض كذب، فالرد والدحي والمحاربة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دعوى بالإجماع. على أن ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم لا من معجزاته رضي الله تعالى عنه. وحمل الصخرة على تقدير تسليمه لم ينقل مقارنته للدعوى، وعلى تقدير النقل فالإمامة إذ ذلك حق له دون غيره عندنا أيضا وليس محل النزاع. ومحاربة الجن لا أثر لها في كتب أهل السنة أيضا.

ومنها أن الأمير كان متظلما ومتشكيا من الخلفاء الثلاثة دائما في حياته، وبيّن أنه مظلوم ومقهور، وما ذاك إلا لغصب الإمامة منه، فتكون الإمامة حقه دون غيره، إذ الأمير صادق بالإجماع.

وأنت تعلم أن هذا الدليل غير مذكور بتمامه، فإن كبراه مطوية وهي «وكل من كان كذلك فهو إمام» فيلزم من بعد تسليمه أن يكون كل من أوذي منهم بحد أو قصاص ونحو ذلك إماما، وهو باطل. واعتبار القيود الأخر يبطل التعدد ويجعله حشوا.

وأجيب عن هذا الدليل بمنع صحة تلك الروايات، لأن أهل السنة لم يثبت عندهم إلا روايات الموافقة والمناصحة والثناء والذكر الجميل ونحو ذلك. وأكثر روايات الإمامية في هذا الباب موافقة لروايات أهل السنة كما تقدم نقله عن الأمير في نهج البلاغة في قصة عمر، ومن ثنائه عليهم وذكرهم بالخير في حياتهم وبعد مماتهم. وروايات أهل السنة في هذا الباب أكثر من أن تحصى.

ولنذكر منها رواية واحدة رواها الحافظ أبو سعيد بن السمان في كتابه الموافقة وغيره من المحدثين عن محمد بن عقيل بن أبي طالب: أنه لما قبض أبو بكر الصديق وسجي عليه ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء علي باكيا مسترجعا وهو يقول:«اليوم انقطعت خلافة النبوة» فوقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر مسجى فقال: «رحمك الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله وأنيسه ومستروحه وثقته وموضع سره ومشاورته، كنت أول قومه

ص: 501

إسلاما وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل، وأحوطهم على رسول الله وأشفقهم عليه، وأحدبهم على الإسلام، وأمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديا وسمتا ورحمة وفضلا وخلقا، وأشرفهم عنده منزلة وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده. فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا. كنت عنده بمنزلة السمع والبصر، صدّقت رسول الله حين كذبه الناس فسماك الله في تنزيله صديقا فقال عز وجل {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} فالذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر. وآسيته حين بخلوا، وقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا وصحبته في الشدة أحسن الصحبة، ثاني اثنين وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة ورفيقه في الهجرة وخليفته في دين الله عز وجل. أحسنت الخلافة حين ارتد الناس وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي. نهضت حين وهن أصحابك وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ كنت خليفته حقا، ولم تنازع ولم تدفع برغم المنافقين وكيد الكافرين وكره الحاسدين وضغن الفاسقين وزيغ الباغين. قمت بالأمر حين فشلوا ونطقت حين تعتعوا ومضيت نفوذا إذ وقفوا فاتبعوك فهدوا، وكنت أخفضهم صوتا وأعلاهم قوة وأقلهم كلاما وأصوبهم منطقا وأطولهم صمتا وأبلغهم قولا وأكبرهم رأيا وأشجعهم نفسا وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملا. كنت والله للدين يعسوبا حين نفر الناس عنه وآخرا حين فشلوا.

كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا، تحملت أثقال ما ضعفوا عنه ورعيت ما أهملوا وحفظت ما أضاعوا وعلوت إذ هلعوا وصبرت إذ جزعوا وأدركت أوطار ما طلبوا ورجوا. أرشدتهم برأيك فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا وجليت عنهم فأبصروا. كنت على

ص: 502

الكافرين عذابا صبا وللمؤمنين رحمة وأنسا وحصنا، فطرت والله بعبابها وفزت بجنابها وذهت بفضائلها وأدركت سوابقها، لم تقلل حجتك ولم تضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك ولم يزغ قلبك، كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن الناس عليه في صحبتك وذات بلدك، وكما قال ضعيفا في بدنك قويا في أمر الله متواضعا في نفسك عظيما عند الله جليلا في أعين المؤمنين كبيرا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز ولا لأحد فيك مطمع. الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، والقوي العزيز عندك ضعيف حتى تأخذ منه الحق. والقريب والبعيد عندك سواء. أقرب الناس إليك أطوعهم لله وأتقاهم له. شأنك الحق والصدق والرفق وقولك حكم وجزم وأمرك حلم وحزم ورأيك علم وعزم، فبلغت والله بهم نهج السبيل وسهلت العسير وأطفأت النيران واعتدل بك الدين وقوي الإيمان وثبت الإسلام والمسلمون وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، فسبقت والله سبقا بعيدا وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا وفزت بالخير فوزا مبينا، فجللت عن البكاء وعظمت رزيتك وهدت مصيبتك الأنام. فإنا لله وإنا إليه راجعون».

ص: 503