الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الحادي والعشرون في بيان أن العوض لا يجب على الله تعالى
ذهبت الكيسانية والفرق الثمانية من الزيدية والإمامية إلى أنه يجب على الله تعالى العوض، وهو نفع مستحق خال من تعظيم الإله، في مقابلة ما أصاب العبد من الآلام. وهو باطل.
والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من الفرق الإسلامية من أنه لا يجب على الله تعالى شيء، لا عوض ولا غيره كما سبق؛ ولأن العوض إنما يجب على من تصرف في ملك الغير، فإنه ظلم، ولا ملك لغيره تعالى.
وقول من زعم إنه لو اعتبر هذا لكان خيرات العباد أيضا ظلما باطل، فإن الفرق بين التصرف في ملك الغير بأمره ورضاه ظاهر لكل أحد. ولأنه لو وجب لوجب لمن ليس عليه حق لله تعالى، وله سبحانه على خلقه نعم لا تعد ولا تحصى، قال تعالى:{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} . ولو عبد الله شخص من أول عمره إلى آخره بأنواع العبادات لم يؤد شكر أقل نعمة. روى ابن بابويه القمي في الأمالي من طريق صحيح عن علي بن الحسين أنه كان يدعو بهذا الدعاء: "إلهي، وعزتك وجلالك وعظمتك لو أني منذ بدعت فطرتي من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك بكل شعرة في كل طرفة عين سرمد الأبد بتحميد الخلائق وشكرهم أجمعين لكنت مقصرا في بلوغ أداء شكر أخفى نعمة من نعمك، ولو أني كربت معادن حديد الدنيا بأنيابي وحرشت أرضها بأشفار عيني وبكيت من
خشيتك مثل بحور السماوات والأرضين دما وصديدا لكان ذلك قليلا من كثير ما يجب من وفي حقك علي، ولو أنك إلهي عذبتني بعد ذلك بعذاب الخلائق أجمعين وعظمت للنار خلقي وجسمي وملأت جهنم وأطباقها مني حتى لا يكون في النار معذب غيري ولا يكون لجهنم حطب سواي لكان هذا لك علي قليلا من كثير ما استوجب من عقوبتك". وفي نهج البلاغة:"لا يأمن خير هذه الأمة من عذاب الله".
واحتج من خالف أهل الحق بأن ترك العوض قبيح، لأنه ظلم، فيجب فعله.
والجواب أن كون ترك العوض ظلما ممنوع، لأن الظلم لا يمكن صدوره منه تعالى؛ لأنه وضع الشيء في غير محله، بالتصرف في ملك الغير بغير رضاه، أو مجاوزة الحد، وكلاهما في حقه تعالى محال، إذ لا مالك سواه، وليس لأحد عليه حق. بل هو الذي خلق الخلق، وتفضل على عباده بما تفضل، وحد عليهم الحدود، وحلل الحلال وحرم الحرام، ولا يسأل عما يفعل. ويؤيده ما روي عن السجاد من الدعاء الذي ذكر قريبا، وكذا ما في النهج. ولأنه لو وجب العوض لوجب عليه تعالى إنزال الآلام على البهائم عوضا، ولم يقل به أحد. ولأنه لا قبح منه تعالى لما تقدم، ولا يمكن وقوع الظلم منه سبحانه. والاستدلال على إمكان وقوعه بأنه سبحانه قد تمدح بنفي الظلم عنه فقال:{ولا يظلم ربك أحدا} وقال: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} والتمدح بما لا يصح من الممدوح لغو، كقول من يمدح الأعمى: بأنه لا ينظر إلى المحرمات، والعنين: بأنه لا يزني؛ فاسد؛ لأن المراد من الظلم في الآيات والأخبار نقص أجر العمل الصالح للعبد على ما قدره الله تعالى له ووعده، أو تركه رأسا، وتعذيب العبد من غير جرم، أو زيادة تعذيبه على القدر الذي قدره الله تعالى له، فتفضل سبحانه على عباده فجعل الأجر حقهم، وملكا ملكهم، فسمى التصرف فيه ظلما، وإن كان ذلك ليس بظلم في الحقيقة.
وأيضا لا نسلم أن نفي الظلم في الآيات للتمدح، بل هو رد على من زعم ذلك، أو إخبار لمن يعلم أنه لا يصح منه الظلم، كقوله تعالى:{إن الله لا يخلف الميعاد} وقوله: {ما يبدل القول لدي} فإنه إخبار منه تعالى بأنه لا يبدل القول لديه سبحانه لمن يعلم ذلك. ولو سلم أن النفي للتمدح فالمعنى لو أمكن منه الظلم فهو لا يظلم، وليس المقصود نفي إمكانه، بل زجر عباده عن الظلم، فهو على حد قوله تعالى:{لئن أشركت ليحبطن عملك} وقوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين} ، وهذا أسلوب من أساليب البلاغة، وشتان ما بينه وما بين الأعمى والعنين بذلك.