المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطاعن الأولى في الصديق الأجل رضي الله تعالى عنه - السيوف المشرقة ومختصر الصواقع المحرقة

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌المقصد الأول في بيان سبب ظهور الرافضة وسبب افتراقهم وعدد فرقهم

- ‌الفصل الأول في بيان مبدأ ظهور الرافضة

- ‌وافترقت الشيعة حينئذ إلى أربع فرق

- ‌الفصل الثاني في بيان سبب افتراق الرافضة

- ‌الفصل الثالث في بيان فرق الشيعة

- ‌وأما الغلاة فأربع وعشرون فرقة

- ‌(فرق الزيدية)

- ‌(فرق الإمامية)

- ‌(فرق الإسماعيلية)

- ‌خاتمة لهذا الفصل

- ‌الفصل الرابع في بيان مدة بقاء كل فرقة من فرق الروافض

- ‌الفصل الخامس في بيان دعاة الرافضة وفرقهم

- ‌الفصل السادس في بيان مكائد الرافضة لإضلال الناس وميلهم عن الحق

- ‌الفصل السابع في بيان أسلاف الرافضة

- ‌الفصل الثامن في بيان أنه لا يمكن إثبات الدين المحمدي على أصول الرافضة

- ‌(الأدلة عند الشيعة)

- ‌الفصل التاسع في بيان من يدعي كل فرقة من الرافضة أخذ المذهب عنه وإبطاله

- ‌الفصل العاشر في بيان اختلاف الرافضة في الإمامة وتعيين الأئمة

- ‌الفصل الحادي عشر في بيان كثرة اختلاف الشيعة في أعداد الأئمة وشروط الإمامة

- ‌الفصل الثاني عشر في بيان اختلاف الشيعة فيما رووه عن أهل البيت

- ‌الفصل الثالث عشر في أقسام أخبار الشيعة

- ‌الفصل الرابع عشر في بيان احتجاج الرافضة بالأخبار التي لا يجوز الاحتجاج بها

- ‌الفصل الخامس عشر في بيان روايات الشيعة إلا الحميرية عن أهل البيت

- ‌الفصل السادس عشر في ذكر علماء كل فرقة من فرق الشيعة

- ‌الفصل السابع عشر في بيان كتب الشيعة

- ‌الفصل الثامن عشر في بيان أحوال كتب أحاديث الشيعة

- ‌الفصل التاسع عشر في أن معتقدات الرافضة وهميات

- ‌الفصل العشرون في بيان غلو الرافضة في مذاهبهم الباطلة

- ‌الفصل الحادي والعشرون في بيان من لقب هذه الفرقة بالرافضة

- ‌المقصد الثاني في الإلهيات

- ‌المطلب الأول في بيان أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعا

- ‌المطلب الثاني في أن الله تعالى موجود حي عالم سميع بصير قادر

- ‌المطلب الثالث في بيان أن الإله واحد

- ‌المطلب الرابع في بيان أن الله تعالى متفرد بالقدم

- ‌المطلب الخامس في أن الله تعالى أبدي لا يصح عليه الفناء لا يشارك في ذلك

- ‌المطلب السادس في أن لله تعالى صفات ثبوتية أزلية

- ‌المطلب السابع في أن صفات الله تعالى قديمة

- ‌المطلب الثامن أن الله تعالى فاعل بالاختيار

- ‌المطلب التاسع في أن الله تعالى قادر على كل مقدور

- ‌المطلب العاشر في أنه تعالى عالم بما كان وما يكون

- ‌المطلب الحادي عشر في أنه تعالى يتكلم والكلام صفة من صفاته

- ‌المطلب الثاني عشر أن القرآن كلام الله تعالى ليس فيه تحريف ولا نقصان

- ‌المطلب الثالث عشر أن الله تعالى مريد

- ‌المطلب الرابع عشر أن إرادة الله تعالى متعلقة بكل كائن

- ‌المطلب الخامس عشر في أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد

- ‌المطلب السادس عشر في بيان أنه لا يجوز البداء على الله

- ‌المطلب السابع عشر في أنه لا يجب على الله تعالى شيء

- ‌المطلب الثامن عشر في بيان أن التكليف لا يجب على الله تعالى

- ‌المطلب التاسع عشر في أن اللطف لا يجب على الله تعالى

- ‌المطلب العشرون في بيان أن الأصلح لا يجب عليه تعالى

- ‌المطلب الحادي والعشرون في بيان أن العوض لا يجب على الله تعالى

- ‌المطلب الثاني والعشرون في أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى

- ‌المطلب الثالث والعشرون في أن الله لم يفوض خلق الدنيا إلى أحد

- ‌المطلب الرابع والعشرون في أن الله تعالى خالق الخير والشر

- ‌المطلب الخامس والعشرون في أن جميع الكائنات بقضاء الله تعالى وقدره

- ‌المطلب السادس والعشرون في أن قرب العبد إلى ربه ليس بقرب مكان

- ‌المقصد الثالث في مباحث النبوة

- ‌الفصل الأول في أن البعثة لطف من الله تعالى

- ‌الفصل الثاني في جواز خلو الزمان عن نبي ووصي

- ‌الفصل الثالث في أن الرسول أفضل الخلق ولا يكون غيره أفضل منه

- ‌الفصل الرابع في أن النبي لا يحتاج إلى غير النبي لا يوم القيامة ولا في الدنيا

- ‌الفصل الخامس في أن الأنبياء عليهم السلام كانوا عارفين بما يجب من اعتقادات

- ‌الفصل السادس في أن الأنبياء لم يصدر عنهم ذنب كان الموت عليه هلاكا

- ‌الفصل السابع في أن الأنبياء عليهم السلام كانوا منزهين عن الخصال الذميمة

- ‌الفصل الثامن في أن الأنبياء عليهم السلام أقروا جميعا يوم الميثاق بما خاطبهم الله تعالى

- ‌الفصل التاسع في أن نبيا من الأنبياء لم يعتذر عن الرسالة ولم يستعف منها

- ‌الفصل العاشر في أن المبعوث هو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه

- ‌الفصل الحادي عشر في أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

- ‌الفصل الثاني عشر في أن الله تعالى لم يفوض أمر الدين إلى أحد من الرسل والأئمة

- ‌الفصل الثالث عشر في أن المعراج لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق

- ‌الفصل الرابع عشر في أن ما ورد من النصوص محمولة على ظواهرها

- ‌الفصل الخامس عشر في أنه تعالى لم يرسل بعد خاتم الأنبياء ملكا إلى أحد بالوحي

- ‌الفصل السادس عشر في أن النسخ من وظائف الشارع

- ‌المقصد الرابع في الإمامة

- ‌المطلب الأول في أن نصب الإمام ليس بواجب عليه تعالى

- ‌تتمة

- ‌المطلب الثاني في أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق

- ‌(الأدلة القرآنية على خلافة الثلاثة)

- ‌(أخبار عترية في خلافة الخلفاء)

- ‌تتمة في ذكر بعض الأدلة المأخوذة من الكتاب وأقوال العترة الأنجاب مما يوصل إلى المطلوب بأدنى تأمل

- ‌المطلب الثالث في إبطال ما استدل به الرافضة على كون الخلافة للأمير بلا فصل

- ‌(الأدلة القرآنية)

- ‌(الأدلة الحديثية)

- ‌مطلب الأدلة العقلية

- ‌المطلب الرابع في بيان صاحب الزمان

- ‌المطلب الخامس في أن العدالة شرط في الإمامة لا العصمة

- ‌المطلب السادس في أن الإمامة لا تنحصر في عدد معين

- ‌المقصد الخامس في رد مطاعن الخلفاء الثلاثة وأم المؤمنين وسائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم

- ‌المطاعن الأولى في الصديق الأجل رضي الله تعالى عنه

- ‌المطاعن الثانية في حق الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه

- ‌المطاعن الثالثة في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه

- ‌المطاعن الرابعة في أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها

- ‌المطاعن الخامسة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين

- ‌المقصد السادس في المعاد

- ‌المطلب الأول في أن المعاد واقع

- ‌المطلب الثاني في أنه لا يجب على الله تعالى أن يبعث الخلق

- ‌المطلب الثالث في أن عذاب القبر حق

- ‌المطلب الرابع في أن الجنة والنار حق

- ‌المطلب الخامس لا رجعة إلى الدنيا بعد الموت

- ‌المطلب السادس في أن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء

- ‌المطلب السابع أن غير الفرقة الناجية من الفرق لا تخلد في النار

- ‌المقصد السابع في بيان ما يدل على بطلان مذهب الشيعة

- ‌(الأدلة القرآنية)

- ‌(الأحاديث النبوية)

- ‌(الآثار المروية عن أهل البيت)

- ‌(الدلائل العقلية)

- ‌(تشريع فرق الشيعة ما لم يأذن به الله)

- ‌(مسائل الأعياد)

- ‌(مسائل الطهارة)

- ‌صفة الوضوء والغسل والتيمم

- ‌مسائل الصلاة

- ‌مسائل الصوم والاعتكاف

- ‌مسائل الزكاة

- ‌مسائل الحج

- ‌مسائل الجهاد

- ‌مسائل النكاح والبيع

- ‌مسائل التجارة

- ‌مسائل الرهن والدين

- ‌مسائل الغصب والوديعة

- ‌مسائل العارية

- ‌مسائل اللقيطة

- ‌مسائل الإجارة والهبة والصدقة والوقف

- ‌مسائل النكاح

- ‌مسائل المتعة

- ‌مسائل الرضاع والطلاق

- ‌مسائل الإعتاق والأيمان

- ‌مسائل القضاء

- ‌مسائل الدعوى

- ‌مسائل الشهادة والصيد والطعام

- ‌مسائل الفرائض والوصايا

- ‌مسائل الحدود والجنايات

- ‌المقصد الثامن في ذكر شيء من تعصباتهم ونبذ من هفواتهم

- ‌المطلب الأول في ذكر شيء من تعصباتهم

- ‌المطلب الثاني في ذكر شيء من هفواتهم

- ‌(التقية)

- ‌(التفسير)

- ‌(الكذب)

- ‌(ثواب المتعة)

- ‌(الرقاع والتوقيعات)

- ‌الخاتمة

- ‌قف على حال الإمامية من الشيعة

الفصل: ‌المطاعن الأولى في الصديق الأجل رضي الله تعالى عنه

‌المطاعن الأولى في الصديق الأجل رضي الله تعالى عنه

منها أنه صعد يوما على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخطب فقال له السبطان: انزل عن منبر جدنا. فعلم أن ليس له لياقة الإمامة.

والجواب بعد التسليم أن السبطين كانا إذ ذاك صغيرين، فإن الحسن ولد في الثالثة من الهجرة في رمضان والحسين في الرابعة منها في شعبان، والخلافة في أول الحادية عشرة، فأفعالهما إن اعتبرت بحيث يترتب عليها الأحكام لزم ترك التقية الواجبة، وإلا فلا نقص ولا عيب، فمن دأب الأطفال أنهم إذا رأوا أحدا في مقام محبوبهم ولو برضائه يزاحمونه ويقولون قم عن هذا المقام. فلا يعتبر في العقلاء هذا الكلام. وهم وإن ميزوا عن غيرهم لكن للصبي أحكام. ولهذا اشترط في الاقتداء البلوغ إلى حد الكمال. ألا ترى أن الأنبياء لم يبعثوا إلا على رأس الأربعين إلا نادرا كعيسى، والنادر كالمعدوم.

ومنها أنه درأ الحد عن خالد بن الوليد أمير الأمراء عنده ولم يقتص منه أيضا. ولهذا أنكر عليه عمر لأنه قتل مالك بن نويرة مع إسلامه ونكح امرأته في تلك الليلة ولم تمض عدة الوفاة.

ص: 516

وجوابه أن في قتله شبهة، إذ قد شهد عنده أن مالك وأهله أظهروا السرور فضربوا بالدف وشتموا أهل الإسلام عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وقد قال في حضور خالد في حق النبي صلى الله عليه وسلم قال: رجلكم أو صاحبكم، وهذا التعبير إذ ذاك من شعار الكفار المرتدين. وثبت عنه أيضا أنه قال لما سمع بالوفاة فردّ صدقات قومه عليهم:"قد نجوتم من مؤنة هذا الرجل". فلما حكي هذا للصديق لم يوجب عليه القصاص ولا الحد إذ لا موجب لهما. فليتدبر. هذا ثم إن الصديق حكم في درء القصاص حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قد ثبت في التواريخ أن خالدا هذا أغار على قوم مسلمين فجرى على لسانهم:"صبأنا صبأنا" أي صرنا بلا دين، وكان مرادهم أنا تبنا عن ديننا القديم ودخلنا في الصراط المستقيم، فقتلهم خالد حتى غضب عبد الله بن عمر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأسف وقال:"اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، ولم يقتص منه ولم يودهم. فالفعل هو الفعل، على أن الصديق أودى.

ص: 517

ويجاب أيضا أنه لو كان توقف الصديق في القصاص طعنا لكان توقف الأمير في قتلة عثمان أطعن، وليس فليس. وأيضا استيفاء القصاص إنما يكون واجبا لو طلبه الورثة، وليس فليس. بل ثبت أن أخاه متمم بن نويرة اعترف بارتداده في حضور عمر مع عشقه له، ومحبته فيه تضرب بها الأمثال، وكان يقول:

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

ثم إن عمر ندم على ما كان من إنكاره زمن الصديق، فلذا لم يقتص من خالد. والله ولي التوفيق.

ومنها أنه تخلف عن جيش أسامة المجهز للروم مع أنه صلى الله عليه وسلم أكد التأكيد الشديد حتى قال: "جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف".

وجوابه إن كان الطعن من جهة عدم التجهز فهذا افتراء صريح، لأنه جهز وهيأ؛ وإن كان من جهة التخلف فله عدة أجوبة. الأول أن الرئيس إذا عين رجلا مع جيش ثم أمره بخدمة من خدمات حضوره فقد استثناه وعزله، والصديق لأمره بالصلاة كذلك، فالذهاب إما ترك الأمر أو ترك الأهم وهو محافظة المدينة المنورة من الأعراب. الثاني أن الصديق قد انقلب له المنصب، لأنه كان آحاد المؤمنين فصار خليفة

ص: 518

النبي صلى الله عليه وسلم فانقلبت الأحكام. ألا ترى كيف انقلبت أحكام الصبي إذا بلغ والمجنون إذا عقل والمسافر إذا أقام والمقيم إذا سافر إلى غير ذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب فالخليفة لكونه قائما مقامه يكون كذلك. الثالث أن الأمر عند الشيعة ليس مختصا بالوجوب، كما نص عليه المرتضى في الدرر والغرر، فلا ضرر في المخالفة. وجملة "لعن الله من تخلف" لم تثبت في كتب أهل السنة. الرابع أن مخالفة آدم ويونس لحكم الله تعالى بلا واسطة عند الشيعة، فالإمام لو خالف أمرا واحدا فلا ضير، فتدبر. الخامس أن الأمر عام يشمل جميع الصحابة، وكان علي منهم، والجواب هو الجواب.

ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمّر أبا بكر قط على أمر مما يتعلق بالدين، فلم يكن حريا بالإمامة.

الجواب أن هذا كذب محض. يشهد على ذلك كتب السير والتواريخ. فقد ثبت تأميره لمقاتلة أبي سفيان بعد أحد، وتأميره أيضا في غزوة بني فزارة كما رواه الحاكم عن سلمة بن الأكوع، وتأميره في العام التاسع ليحج بالناس أيضا ويعلمهم الأحكام من الحلال

ص: 519

والحرام، وتأميره أيضا بالصلاة قبل الوفاة، إلى غير ذلك مما يطول. ويجاب أيضا على تقدير التسليم بأن عدم الجعل ليس لعدم اللياقة، بل لكونه وزيرا ومشيرا على ما هو العادة. روى الحاكم عن حذيفة بن اليمان أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إني أريد أن أرسل الناس إلى الأقطار البعيدة الممتدة لتعليم الدين والفرائض كما كان عيسى أرسل الحواريين" قال من الحضار: يا رسول الله مثل هؤلاء الناس موجودون فينا كأبي بكر وعمر، قال:"لا غنى لي عنهما إنهما من الدين كالسمع والبصر". وأيضا قال صلى الله عليه وسلم: "أعطاني الله أربعة وزراء، وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر". وأيضا لو كان عدم

ص: 520

الإرسال موجبا لسلب اللياقة يلزم عدم لياقة الحسنين، معاذ الله من ذلك.

ومنها أن أبا بكر ولّى عمر أمور المسلمين مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ولاه على أخذ الصدقات سنة ثم عزله، فالتولية مخالفة.

ويجاب بأن هذا محض جهالة. أفيقال لانقطاع العمل عزل؟ وعلى تقدير العزل فأين النهي عن توليته كي يلزم المخالفة بالتولية؟ فافهم.

ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله وعمر تابعين لعمرو بن العاص وأسامة أيضا، ولو كانا لائقين لأمّرهما.

ويجاب بأن ذلك لا يدل على الأفضلية ونفي اللياقة، إذ المصلحة ربما اقتضت ذلك. فإن عمرا ذا خديعة ومكر وحيل عارفا بمكائد الأعداء، ولم يكن غيره فيها كذلك، كما يولّى مثل هذا لأخذ السارقين وعسس الليل ونحوهما مما لا يولى عليه الأكابر. وأسامة استشهد أبوه على أيدي كفار الشام والروم، فكان ذلك تسلية له وتشفية. وأيضا مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك إطلاعهما على حال التابع والمتبوع كما هو شأن تربية الحكيم خادمه، فلا تغفل.

ومنها أن أبا بكر استخلف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، فقد خالف.

ويجاب بأنه صلى الله عليه وسلم أشار بالاستخلاف، والإشارة إذ ذاك كالعبارة. وفي زمن الصديق كثر المسلمون من العرب والعجم وهم حديثو عهد بالإسلام وأهله، فلا معرفة لهم بالرموز والإشارات، فلا بد من التنصيص والعبارات حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات. وفي كل زمان رجال، ولكل مقام مقال. وأيضا عدم استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لعلمه بالوحي بخلافة الصديق كما ثبت في صحيح مسلم، ولا كذلك الصديق إذ لا يوحى إليه ولم تساعده قرائن فعمل بالأصلح للأمة. ونعم ما عمل فقد فتح البلاد ورفع ذوي الرشاد وأباد الكفار وأعاذ الأبرار.

ومنها أن أبا بكر كان يقول: "إن لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني وإن

ص: 521

زغت فقوموني"، ومن هذا حاله لا يليق بالإمامة.

ويجاب بأن هذا غير ثابت عندنا. بل الثابت أنه أوصى عمر قبل الوفاة وقال: "والله ما نمت فحلمت وما شبهت فتوهمت، وإني لعلى السبيل ما زغت ولم آل جهدا، وإني أوصيك بتقوى الله تعالى" الخ. نعم أول خطبة خطبها على ما في مسند الإمام أحمد: "يا أصحاب الرسول، أنا خليفة الرسول، فلا تطلبوا الأمرين الخاصين بالنبي صلى الله عليه وسلم الوحي والعصمة من الشيطان" وفي آخرها: "إني لست معصوما، فإطاعتي فرض عليكم فيما وافق سنة الرسول وشريعة الله تعالى من أمور الدين، ولو أمرتكم فرضا بخلافها لا تقبلوه مني ونبهوني". وهذا عين الإنصاف. ولما كان الناس معتادين عند المشكلات الرجوع إلى وحي إلهي وإطاعة النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم كان لازما على الخليفة التنبيه على الاختصاص بالجناب الكريم. وأيضا روى الكليني في رواية صحيحة عن جعفر الصادق: "إن لكل مؤمن شيطانا يقصد إغواءه". وفي الحديث ما يؤيد هذا أيضا، ومن جملته:"حتى أنت يا رسول الله؟ قال: نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم". فأين الطعن فيما ذكروه. والمؤمن يعتريه الشيطان بالوسوسة فينتبه. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} . نعم النقصان

ص: 522

الاتباع، وهو بمعزل عنه.

ومنها ما روي عن عمر أنه كان يقول: "كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المؤمنين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"، وهو صريح في أن خلافته لم تبن على أصل.

والجواب أن هذا لا يدل على طعن في خلافة الصديق، فإن هذا الكلام من عمر ليس محمولا على الذم. وكيف يتصور منه ذلك وقد كانت إمامته بعهد أبي بكر إليه، والقدح في إمامة أبي بكر قدح في إمامته. بل هذا الكلام صدر من عمر في زجر رجل كان يقول في زمانه:"إن مات عمر أبايع فلانا وأجعله خليفة"، لأن واحدا أو اثنين كانا بايعا أبا بكر أولا فلتة وقد صارت بيعة في آخر الأمر متمكنة حتى تبعه المهاجرون والأنصار كلهم. فمعنى كلام عمر أنها بيعة واحد أو اثنين وإن كانت بلا تأمل ومراجعة، ولكن وصل الحق إلى أهله ولم يقع في غيره موقعه لأجل ما تبين من أدلة خلافته من إمامة الصلاة والقرائن الحالية والمقالية الواقعة من النبي صلى الله عليه وسلم في حقه فقط، وقد سبق شيء منها.

ص: 523

وفي صحيح البخاري من فضائل الصديق قال: أتت [امرأة] النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول الموت، قال صلى الله عليه وسلم:"إن لم تجديني فأتي أبا بكر". وغير ذلك. ولتحقق أفضليته على سائر الصحابة فلا يقاس عليه غيره. بل إن بايع أحد غيره كذلك فاقتلوه، فإنه ترك ما وجب عليه من التأمل والاجتهاد واجتماع أهل الحل والعقد وصار باعثا للفتنة والفساد بين أهل الإسلام. ويصرح بذلك ما ذكره عمر في آخر كلامه هذا:"وأيكم مثل أبي بكر" في الأفضلية والخيرية وعدم الاحتياج إلى المشورة والتأمل في حقه؟ فعلى هذا يكون معنى قول عمر: "وقى الله شرها" أن خلافة أبي بكر وإن وقعت عاجلة في سقيفة بني ساعدة لكن بفضل الله تعالى الحق استقر مركزه لما ذكرنا. وليس مراد عمر أن بيعة أبي بكر ما كانت صحيحة، لأن عمر وأبا عبيدة بايعاه أولا ثم الآخرون، وقال كل منهما في حقه:"أنت خيرنا وأفضلنا"، فلم ينكر عليهما أحد من المهاجرين والأنصار بل سلموه، فثبت أن كون أبي بكر أفضل عند جميع الصحابة مسلّم الثبوت، ولم يناقش الأنصار في ذلك بل ناقشوه في أن يكون خليفة منهم.

وقد بايعه سعد بن عبادة بعد هذه المناقشة كما ثبت في الروايات الصحيحة. وبايعه بعد ذلك علي بن أبي طالب والزبير بن العوام واعتذرا عن التخلف بما اعتذرا.

ومنها أنه كان يقول: "أقيلوني أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم"، فإن ذلك

ص: 524

منافٍ لإمامته مع صدقه، وكذا مع كذبه لقبح الكذب من سائر العباد، فكيف من الأئمة المطلوب منهم الهداية إلى جادة السداد والرشاد.

والجواب أن هذا الكلام ليس بثابت عن أبي بكر عند أهل السنة بل هو من مفتريات الرافضة. وعلى تقدير صحته فليس بوارد على أهل السنة أصلا، لأنه لا يلزم تفضيل علي عليه، لأنه إنما نفى خيريته على جميع الصحابة وعلي فيهم، ولا يلزم من نفي ذلك نفي المساواة، فاللازم من كلامه مساواته لهم وعلي فيهم، ولا يلزم من مساواته للجميع مساواته لكل فرد فرد منهم، بل اللازم خيريته على كل فرد فرد بطريق الانفراد ومساواته لجميعهم بطريق الاجتماع. ولو سلمنا أن اللازم من كلامه مساواته لعلي يكون ذلك من تواضعه وهضم نفسه لقيام الأدلة على تفضيله على علي، فيكون هذا الكلام منه على قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تفضلوني" وفي رواية: "لا تخيروني على الأنبياء" وقوله: "من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب"، مع أنه صلى الله عليه وسلم أفضل المخلوقين كلهم الأنبياء وغيرهم بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد الناس يوم القيامة" رواه البخاري، وقوله:

ص: 525

"أنا سيد العالمين" رواه البيهقي، وغير ذلك من الأحاديث.

وإن أرادوا الطعن بقوله: "أقيلوني" الخ فإنه استعفاء عن الإمامة وهو يدل على عدم اللياقة فعجيب ذلك منهم، لأن الاستعفاء عند الرافضة لا بأس به حتى جوزوه على الأنبياء على ما سبق في مقصد النبوة. وأيضا قد ورد عن علي بن أبي طالب مثل ذلك. فقد ذكر في نهج البلاغة أنه قال للناس بعد قتل عثمان:"دعوني والتمسوا غيري فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا"، وقال لهم:"اتركوني فأنا كأحدكم بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم"، فأبوا عليه وبايعوه. وأيضا روي في الصحيفة الكاملة عن السجاد أنه كان يقول في دعائه:"أنا الذي أفنيت في الذنوب عمري"، فإنه إن كان صادقا لا يليق بالإمامة وإن كان كذبا فكذلك لكذبه.

ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله لأداء سورة براءة للناس بمكة ثم عزله عن ذلك ونصب عليا مكانه، ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها كيف يصلح للإمامة المتضمنة أداء الأحكام لجميع الناس.

والجواب أن هذا الكلام كذب وافتراء لإجماع المحدثين أن النبي صلى الله عليه وسلم ولّى أبا بكر إمارة الحج وأن عليا تولى أمر القراءة فقط وأنهما ذهبا جميعا إلى مكة، وكان علي يقتدي بأبي بكر في ذلك السفر ويصلي خلفه ويتابعه في مناسك الحج. وقد صح في كتب الأحاديث والسير أن عليا لما خرج من المدينة مسرعا ووصل قرب أبي بكر وسمع أبو بكر حفيف ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 526

اضطرب وظن أن الرسول جاء بنفسه لأداء الحج فأمر الجيش كلهم بالوقوف، فإذا علي طلع عليهم فاستفسر منه بعد ما لاقاه:"أمير أنت أم مأمور؟ " فقال علي: "بل أنا مأمور"، فذهب أبو بكر مع عسكره وخطب قبل التروية وأخذ يبين مناسك الحج على طبق طريق الإسلام. وتولية علي رضي الله تعالى عنه على القراءة يدل على اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بالصديق رضي الله تعالى عنه لأن قراءة سورة براءة في هذا الجم الغفير وتبليغها لكل منهم تحتاج إلى التردد الكثير والكلفة الشديدة وإلى رفع الصوت، ولا يمكن لأمير الحج لشغله بتفحص أعمال الحج وحفظ الناس من الفتنة والفساد وما يفسد الإحرام وغير ذلك، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي هذا الأمر معه رجل عظيم القدر. ولأن عادة العرب في أخذ العهد ونبذه أن يتولاه الرجل بنفسه أو رجل من خاصة أهله، فأرسل عليا أميرا على القراءة وأبا بكر أميرا على الحج. وأيضا في ذلك مصلحة أخرى، وهي أن يتبين للناس أن العهد والميثاق معتنى بشأنه أشد اعتناء، لذا عيّن له شخصا ولم يجعله من توابع الحج. ولو سلمنا أنه عزل فعزله لم يكن لعدم أهليته لذلك لأنهم أجمعوا على عدم عزله عن إمارة الحج وكفى بها فضيلة، وإذا لم ينعزل عنها ثبت له اللياقة المتضمنة لإصلاح عبادات ألوف مؤلفة من المسلمين المستلزمة لأداء أحكام كثيرة وتعليم مسائل لا تحصى، فكيف لا يكون أهلا لقراءة آيات معدودة بصوت؟ على أن عليا لم ينفرد بذلك.

فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: "بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد هذا العام

ص: 527

مشرك ولا يطوف بالبيت عريان"، قال [حميد] بن عبد الرحمن: "ولى صلى الله عليه وسلم أبا بكر الحج ثم أردف علي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان". وأيضا عزل عدلٍ يصلح للإمامة قد يكون لمصلحة فلا طعن فيها. وقد عزل الأمير كرم الله تعالى وجهه عمر بن أبي سلمة المخزومي عن ولاية البحرين وكان من خيار شيعته وكتب له: "إني استعملت النعمان بن عجلان [الزرقي] على البحرين ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك فقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فأقبل غير ضنين ولا ملوم ولا متهم ولا [مأثوم] " الخ، مع أن عمر كان أفضل من [الزرقي] حسبا ونسبا.

ومنها أنه منع فاطمة رضي الله تعالى عنه إرثها فقالت له: "يا ابن أبي قحافة ترث أباك ولا أرث أبي"، واحتج بخبر واحد تفرد به وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 528

قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة"، مع أنه يخالف قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فإنه عام يشمل النبي وغيره، وقال تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} فإنه نص على أن الأنبياء يرثون ويورثون.

والجواب أن أبا بكر إنما منع ورثة النبي صلى الله عليه وسلم عن الميراث للنص ولم ينفرد هو برواية الحديث. فإن حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة أيضا رووه. وأخرج البخاري في صحيحه عن مالك بن أوس البصري أن عمر بن الخطاب قال بمحضر من الصحابة وفيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص: "أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة، يريد بذلك نفسه؟ قالوا: نعم، ثم أقبل على علي والعباس فقال: أنشدكما بالله

ص: 529

هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: نعم". فهذا الخبر مساوٍ للآية القطعية، ولا يخالفها لأنها من العموميات، وتخصيص الكتاب بالسنة جائز من غير نكير. ولأن الإمامية قد روت حديث الميراث في صحاحهم. فقد روى محمد بن يعقوب الرازي في الكافي عن أبي البحتري عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه قال: "إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر". وآخره ينص على ذلك أيضا لأن كلمة "إنما" موضوعة للحصر عند الفريقين. ولأن تخصيص الكتاب بخبر الآحاد جائز عند الفريقين. ولأن الآية عام مخصوص البعض كالقاتل والكافر، ودلالته ظنية فهي في الدلالة كخبر الآحاد. ولأن الخطاب للأمة والخبر مبين له. والآية الثانية لا تدل على التعميم فلا تنافي في التخصيص لأن المراد ورثة العلم والنبوة دون المال لما روى الكليني عن أبي عبد الله: "أن سليمان قد ورث داود وأن محمدا ورث سليمان". وأيضا لو كان المراد ميراث المال لم يخصّ سليمان بالإرث فإنه كان له عدة أولاد كما رواه الكليني عنه. وأيضا ما بعد هذه الآية وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ

ص: 530

الطَّيْرِ} يدل على ذلك. وقد وقعت هذه الوراثة بهذا المعنى في غير آية من القرآن.

قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} ، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} ، وقال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فإنه لما خاف بني عمه وكانوا أشرار بني إسرائيل أن يغيروا الدين طلب من الله وليا من صلبه يخلفه في إحياء الدين كما يدل عليه قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} . وأيضا منصب النبوة يأبى طلب ولد يرث ماله، فإن القصد بقاء ذكر الوالد والدعاء له وتكثير سواد الأمة، فمن رامه لغيرها كان معلوما مذموما. وإقرار أمهات المؤمنين في الحجرات لأنها كانت في ملكهن لأنه صلى الله عليه وسلم ملكهنّ في حياته. وقوله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} دال على اختصاصهن بها. وإنما دفع سيفه وبغلته عليه الصلاة والسلام لعلي لأنه صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك، ولم يكن علي وراثه. فلا منافاة بين قول أبي بكر وفعله كما زعموه.

ومنها أنه منع فاطمة فدكا، وقد ادعت أنه صلى الله عليه وسلم وهبها إياها فلم يصدقها مع عصمتها، فجاءت بعلي وأم أيمن فرد شهادتهما فغضبت عند ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:

ص: 531

"فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني".

والجواب أن الموهوب لا يصير ملكا للموهوب له إلا بعد التصرف، وكان في يده عليه الصلاة والسلام يتصرف فيه كما يشاء إلى أن قضى نحبه. ولم يرد أبو بكر شهادة علي وأم أيمن بل طلب امرأة أخرى ليتم نصاب الشهادة، فلو حكم لكان مخالفا للنص. وعصمة المدعي لا توجب الحكم على وفق دعواه من غير بينة لعموم النص. ولا يقدح فيه غضبها، فإن الوعيد في إغضابها، والضابط في الإغضاب أن يقول الإنسان قولا أو فعلا يقصد بذلك أذى شخص فيغضب به. ولم يقصد أبو بكر أذاها، حاشاه ثم حاشاه عن ذلك، ولكنه حكم حكما شرعيا فغضبت منه. وفاطمة رضي الله تعالى عنها مع نزاهة باطنها وطهارة قلبها كانت من البشر وكان لها نفس، وللنفس صفات تظهرها. وقد غضب موسى غضبا شديدا على أخيه حتى أخذ برأسه يجره إليه وألقى الألواح التي فيها كلام الله، وكان رسولا من أولي العزم وكان هارون أكبر منه. قال تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} وقال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} . والقول بأنه لم يغضب ولكنه أظهر الغضب رجم بالغيب ودعوى بلا دليل.

ولأنه قد وقع منها الغضب مرارا على علي بن أبي طالب كما هو مشهور بين الفريقين. فمن ذلك أنها غضبت عليه لما أراد أن يخطب بنت أبي جهل وجاءت بين يدي أبيها صلى الله عليه وسلم باكية وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لذلك: "ألا إن

ص: 532

فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويريبني ما أرابها، فمن أغضبها أغضبني". ومنها أن عليا ناقشها يوما وخرج من البيت ونام على أرض المسجد بلا فراش، فاطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فجاء فاطمة فسأل: أين ابن عمك؟ قالت: غاضبني فخرج.

ولأنه قد روى البيهقي في كتاب الاعتقاد أن أبا بكر دخل على فاطمة في مرض موتها وترضاها حتى رضيت عنه. وروى بسنده عن الشعبي أنه قال: لما مرضت فاطمة أتاه أبو بكر الصديق فاستأذن عليا فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت. والحمد لله.

وروى صاحب محجاج السالكين وغيره من علماء الشيعة أن هذا الأمر شق

ص: 533

على أبي بكر فحضر على باب بيتها واستشفع من علي حتى رضيت فاطمة عنه. وروى عنه أيضا أن أبا بكر لما رأى فاطمة غضبت وهجرته ولم تتكلم بعد في أمر فذلك ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال لها: "يا ابنة رسول الله أنت محقة فيما ادعيت لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يعطي منها قوتكم، فقالت: افعل فيها كما كان يفعل أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ولك الله علي أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك، فقالت: والله لتفعلن ذلك؟ فقال: اللهم اشهد، فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه، وكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل". ولأن ابن المطهر الحلي ذكر في كتابه منهاج الكرامة أنه لما وعظت فاطمة أبا بكر في فدك كتب لها كتابا وردها عليها. فلا طعن بعدما ثبت عندهم هذا المقال، ولا قيل ولا قال.

ومنها أنه قطع يد السارق ولم يعلم أن القطع لليمنى.

والجواب أنه قطع يسار السارق للسرقة الثالثة، كما أخرج النسائي عن الحارث بن حاطب اللخمي والطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وقطع مرة يسرى سارق أقطع اليد والرجل كما أخرج مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن

ص: 534

أبيه. ولم يثبت عند أهل السنة أنها قطعت للسرقة الأولى. ولو سلمنا ذلك فأبو بكر من أهل الاجتهاد، فيحتمل أنه كان يرى بقاء الآية على إطلاقها، فإن الآية شاملة لكلا الأمرين، وأن قطعه عليه السلام يمين السارق في السرقة الأولى ليس على الحتم بل الإمام مخير في ذلك. وإنما وقع الإجماع على قطع الرجل في السرقة الثانية بعد أبي بكر.

ومنها أنه أحرق من أتى رجلا في دبره، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بالنار.

والجواب أن هذا الخبر لم يثبت بإسناد يحتج به، وإنما رواه البعض عن أبي ذر بإسناد ضعيف. وعلى فرض صحته لا يدل على أنه أحرقه حيا. وقد روى سويد بن غفلة أنه أمر به فضربت عنقه ثم أمر به فأحرق. واعترف به المرتضى. ولأن ترك العمل بخبر الواحد لا يوجب الطعن لأنه يحتمل أن يكون ذلك لما عنده من مخصص أو ناسخ أو ما يحمل الأمر به على الندب والنهي على التنزيه أو لم يثبت الخبر عنده. ولأنه ذكر المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة أن عليا أحرق رجلا أتى غلاما في

ص: 535

دبره، وهو بظاهره يدل على أنه أحرقه حيا. ولأنه لو ثبت أنه أحرقه حيا فإنما فعل ذلك بأمر علي، فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن أبي الدنيا بإسناد جيد عن محمد بن المنكدر والواقدي في كتاب الردة في آخر ردة بني سليم أن أبا بكر لما استشار الصحابة في عذاب اللوطي قال علي: أرى أن يحرق بالنار، واجتمع رأي الصحابة على ذلك، فأمر به أبو بكر فأحرق بالنار. وما ذكره بعضهم أن الفجاءة وهو رجل من بين سليم كان يقطع الطريق في خلافة أبي بكر فأتوا به مع رجل من بني أسد يقال له شجاع بن زرقاء ينكح في دبره نكاح المرأة، فتقدم أبو بكر فأمر أن يؤجج لهما نار عظيمة ثم زج الفجاءة فذهب فيها مشدودا فكلما مسته النار سال فيها وصار فحمة ثم زج شجاعا فيها غير مشدود فلما اشتعلت النار في بدنه خرج منها وأحرق بعد زمان فقال الناس في المدينة:"أوحى من عقوبة الفجاءة" فذهبت مثلا؛ فلم يصح. والصحيح إحراق ابن الزرقاء. وعلى فرض صحته فلا مطعن فيه لموافقة علي في ذلك. والمثل لا يدل على أن تلك العقوبة كانت بالإحراق.

ومنها أنه لم يعرف ميراث الجدة وحكم الكلالة.

والجواب أن عدم العلم ببعض المسائل لا يقدح في الإمامة. روى عبد الله بن بشر

ص: 536

أن علي بن أبي طالب سئل عن مسألة فقال: "لا علم لي بها" ثم قال: "وأبردها على كبدي إن سئلت عما لا أعلم فأقول: لا علم لي بها" رواه سعدان بن نصير. ولأن داود عليه السلام لم يعرف ما هو الحق من الحكم {فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} ، ولأن يونس عليه السلام لم يعلم أن الله لا يخلف الميعاد كما زعمت الشيعة على ما سبق. وروى صاحب قرب الإسناد من الإمامية عن إسماعيل بن جابر أنه قال: قلت لأبي عبد الله في طعام أهل الكتاب فقال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله ولا تتركه تنزها، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير"، فإن نهيه عن أكل الطعام ثم سكوته ثم أمره آخرا بالتنزه يدل على تردده فيه. ولأن صاحب الزعامة لا يلزم أن يكون عالما بجميع المسائل، فإن طالوت قد آتاه الله الملك مع أنه كان لا يعرف كثيرا من الأحكام الشرعية، وقوله تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} المراد منه علم الحروب، مع أنه لا يدل على أنه عالم بجميع الأحكام بحيث لا يشذ عن علمه حكم، وإنه لم يكن أعلم من نبي زمانه، بل كان داود عليه السلام أعلم منه. والله الموفق للسداد وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.

ص: 537