الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطاعن الخامسة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين
منها أنهم فروا عن الزحف مرتين، مرة يوم أحد وأخرى يوم حنين، والفرار عن الزحف كبيرة.
والجواب أن الفرار عن الزحف يوم أحد كان قبل النهي عنه، ولأنه تعالى قد عفى عنهم لقوله سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} . وأما الفرار يوم حنين فبعد تسليم أنه كان فرارا في الحقيقة معاتبا عليه لم يصر عليه المخلصون بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} . ولأن الإمامية رووا عن الرسل ما هو أعظم من ذلك على ما مر غير مرة.
ومنها ما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} .
والجواب أن تلك القصة إنما كانت في أول زمان الهجرة قبل التأدب بآداب الشريعة، فما وقع حينئذ كانوا معذورين فيه، ولهذا لم يتوعدهم عليه ولم يعاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم به. والآية خارجة مخرج العتاب بطريق الوعظ والنصيحة. على أنه قد أعقب ذلك الفعل أنواع من الطاعات والاستغفار، و {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} .
ومنها أنه ورد فيهم ما روي عن أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان مرفوعا: "ليردن علي أناس من أصحابي حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". وفي رواية: "فأقول: سحقا سحقا".
والجواب عنه أولا بأنا لا نسلم بأن المراد بأصحابي الصحابة بالمعنى المتعارف، بل المراد بهم مطلق المؤمنين به صلى الله عليه وسلم المتبعين له. وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة أصحاب أبي حنيفة ولمقلدي الشافعي [أصحاب الشافعي] وهكذا، وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكما يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا، مع
بينه وبينهم عدة سنين. وعبارات الفقهاء ملأى من ذلك كما لا يخفى على المتتبع. وأيده بعضهم بأنه وقع في بعض الروايات: "أمتي"، وعلى هذا فالمراد من هؤلاء الأناس عصاة من المؤمنين. ومعرفته صلى الله عليه وسلم أنهم من أمته من أمارات تلوح عليهم، فقد جاء في الخبر أن عصاة هذه الأمة يمتازون يوم القيامة عن عصاة غيرهم، كما أن طائعيهم يمتازون عن طائعي غيرهم. وجذبهم وردهم عن الحوض كان تأديبا لهم وعقابا على معاصيهم. ويلحق بذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم بقوله:"سحقا سحقا"، وجعله بعضهم من قبيل قوله عليه الصلاة والسلام لصفية رضي الله تعالى عنها:"عقرى حلقى"، وليس بشيء.
وثانيا بأنا سلمنا أن المراد بالأصحاب الصحابة بالمعنى المتعارف، إلا أن المراد من أولئك الأناس الذين يختلجون ويؤخذون قهرا ويردون عن ورود الحوض الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق رضي الله تعالى عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم:"أصحابي" لظن أنهم لم يرتدوا كما يؤذن عنه ما قيل في جوابه من أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وهذا الجواب أولى من الجواب المنعي كما لا يخفى. ولا يفيد ذلك الشيعة شيئا، لأنا لا ننكر ارتداد أحد من الصحابة وإنما ننكر ارتداد الخلفاء الثلاثة ومن تابعهم وارتداد من حضر وقعتي الجمل وصفين منهم كما هو زعم الشيعة؛ والحديث لا يدل على ذلك أصلا.
فإن قيل إن أناسا في الحديث كما يحتمل أن يراد منه من ذكر من مرتدي الأعراب يحتمل أن يراد منه ما زعمته الشيعة، فما الدليل على ما أردت؟
أجيب بأن ما جاء عن الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم من مدحهم والثناء عليهم وكذا ما جاء عن الأئمة المعصومين عند الشيعة مما علمت ومما ستعلم إن شاء الله تعالى مانع من إرادة ما زعمته الشيعة. وحينئذ يتعين ما أردنا حذرا من إلغاء الحديث.
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: كما أمرنا الله تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا بل تتنافسون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض» فإن هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة. وذلك ينافي العدالة.
والجواب أن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو
لا يستدعي أن يكون منهم. ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون أو أنصار، والحديث صريح في أن أولئك الفرقة ليسوا مهاجرين، والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب، فتعين أنهم من التابعين، وقد وقع ذلك منهم، فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك الأشتر وأضرابه، ولا كلام لنا فيهم.
ومنها ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين من مسند عائشة من عدة طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا عائشة، لولا قومك حديثو عهد بالجاهلية -وفي رواية: بالشرك- وأخاف أن تنكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين شرقيا وغربيا فبلغت به أساس إبراهيم". وقوم عائشة قريش، وهذا يدل على فساد بواطنهم في قبول قوله.
والجواب أن هذا الحديث ليس فيه مطعن أصلا، لأنه إن كان المراد بقوم عائشة قريشا كما زعموا فهم إما جميعهم أو بعضهم؛ فإن أريد الأول يلزم منه دخول علي بن أبي طالب وغيره من بني هاشم أيضا فيهم لأنهم من قريش؛ وإن أريد الثاني فلا يكون مفيدا للمدعى، إذ يجوز أن يكون الخوف من المؤلفة قلوبهم وحديثي الإسلام بعد الفتح الذين لم يتأدبوا بعد بآداب الشريعة ولم يكمل إيمانهم، والمهاجرون ومن تبعهم بإحسان ليسوا منهم. على أن الواقع في الحديث هو الخوف من وقوع أمر بسبب لا يستلزم وقوعه. فتبين أن إيراد هذا الخبر في مطاعن الصحابة دليل على جهل الرافضة وعدم فهمهم لنصوص الشرع.
ومنها أنهم خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد طلب صلى الله عليه وسلم في مرض موته إداوة وقرطاسا ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده فأبوا أن يأتوه بذلك حتى قال عمر ما قال وكثر اللغط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اخرجوا عني"، والله
تعالى يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
والجواب أن الأمر منه عليه الصلاة والسلام لم يكن إلا من باب الاستحباب وهو أمر إرشاد وإصلاح ولم يكن لأمر ضروري وإلا لفعله صلى الله عليه وسلم بعد مع خاصة أهل بيته كالأمير كرم الله تعالى وجهه، فإنه بقي عليه الصلاة والسلام حيا بعد ذلك خمسة أيام. ويؤيد ذلك كما قال غير واحد قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهو ظاهر. والتخلف عن الامتثال ناشئ عن محض المحبة والوداد دون الشقاق والعناد لما رأوا من شدة مرضه عليه الصلاة والسلام، ومثل هذه المخالفة لا تعد فسقا وإلا لزم فسق جميع الحاضرين ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه، ولا قال به بالإجماع. وقد وقع للأمير رضي الله تعالى عنه مثل هذه المخالفة عام الحديبية، فإنه كتب الصلح:"هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله"، فلم يرض المشركون بهذا العنوان وقالوا: لو كنا نعلم أنه رسول الله ما حاربناه، فأمر عليه الصلاة والسلام عليا أن يمحو ذلك وبالغ فيه فلم يفعل حتى محاه عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة. بل وقع منه كرم الله تعالى وجهه ما يرى أنه أشد من ذلك، فقد صح من طرق متعددة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت الأمير والبتول رضي الله تعالى عنهما ليلة وأيقظهما لصلاة التهجد وأمرهما بها، فقال الأمير:"والله لا نصلي إلا ما كتب الله لنا، وإنما أنفسنا بيد الله لو وفقنا لصلينا"، فرجع عليه الصلاة والسلام وهو يضرب فخذيه ويقول:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} . وقد رواه البخاري أيضا في صحيحه. وأمره صلى الله عليه وسلم بالخروج لمن في الحجرة لم يكن إلا لما فيه من المرض.
وكلام عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن إلا لغلبة الحال عليه الناشئة من كمال المحبة. وقد سبق الكلام على هذا الحديث في رد مطاعن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه.
ومنها ما رواه البخاري بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي [بأخذ القرون قبلها] شبرا بشبر وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك". وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ".
والجواب أنا لا نسلم أن المراد الصحابة، وكيف يصح حصر جميع الأمة بالصحابة؟ ومن تدبر ألفاظ الحديث يهزأ بعقل الرافضة ويحكم بجهلهم، إذ الواقع في الحديث لفظ الأمة لا لفظ الصحابة. وإن أكثر أمته صلى الله عليه وسلم شبها الروافض، فإنهم هم الذين شابهوا كفار فارس والروم في أكثر العقائد والأعمال والأخلاق والأعياد والرسوم، فإن الروم زعموا تعدد الآلهة وكذلك الغلاة من الشيعة زعموا أن الآلهة خمسة، وإنهم قالوا بحشر الأرواح دون الأجساد وكذلك جمع من الشيعة على ما سبق، وإنهم أثبتوا لله ابنا وكذلك قال بعض الفرق زعموا أن الأئمة أبناء الله، وإنهم يصلون مع نجاسة ثيابهم وكذلك الإمامية، وإنهم افتروا على الله ورسوله الكذب وكذلك الرافضة، وإنهم يكفرون أهل الحق وكذلك الرافضة. وأما الفرس فيزعمون أن الخالق غير واحد وكذلك بعض فرق الروافض، وإنهم ينكرون القدر وكذلك الروافض، وإنهم يزعمون أنه قد يقع مراد غير الله ولا يقع مراد الله تعالى وكذلك يزعم بعض فرق الرافضة، وإنهم لا غيرة لهم في النساء وكذلك الرافضة. إلى غير ذلك مما
هو مشاهد في العيان لا يحتاج إلى دليل أو برهان. وسيجيء إن شاء الله تعالى وجه شبههم بجميع الكفار.
ومنها أنهم آذوا عليا وحاربوه وقاتلوه وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره وربيبه، فكيف ساغ لهم ذلك والسلوك في هاتيك المسالك، مع أن من صدر منه دون ذلك ينتفي عنه اسم العدالة.
والجواب أن ذلك محض كذب وافتراء، فإن الصحابة كلهم كانوا يعظمون عليا ويحبونه. قال عبد الرحمن بن أبزى:"شهدنا صفين مع علي في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قتل منهم ثلاث وستون منهم عمار بن ياسر". واستشهد أيضا خمسة عشر من المهاجرين والأنصار. وكتبه تشهد بذلك، وله عبارات كثيرة في النهج تؤيد ما هنالك. وكان الصديق رضي الله تعالى عنه يحبه ويمدحه ويذكر فضائله ويحث الناس على حبه. روى الدارقطني عن الشعبي أنه قال:"بينا أبو بكر الصديق جالس إذ طلع علي، فلما رآه قال: من سره أن ينظر إلى أعظم الناس منزلة وأقربهم قرابة وأفضلهم تبعا له وأكثرهم غنى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذا الطالع". وكان عمر يعظمه ويوقره ويفتخر به ويقبل قوله. وروى الدارقطني عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: "اعلموا أنه لا يتم شرف إلا بولاية علي". ولما اختلف الصحابة في الموؤدة وقال لهم علي: إنها لا تكون موؤدة حتى يأتي عليها التارات السبع، قال له عمر: صدقت أطال الله بقاءك. قال
أبو القاسم الحريري في درة الغواص في أوهام الخواص: كان عمر أول من نطق بهذا الدعاء. وكان ابنه عبد الله يتأسف في تخلفه عن حروبه.
وأخرج الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد حسن عن ابن عمر أنه: "لما بلغه توجه الحسين إلى العراق لحقه مسيرة ثلاثة أيام فقال له: أين تريد؟ فقال: العراق، فإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال: لا تنظر إلى كتبهم ولا تأتهم، فأبى، فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا، إن جبريل أتى النبي فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنك بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يليها أحد منكم أبدا وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل". وروى البزار نحوه بإسناد حسن.
وأكثر ما ذكر المؤرخون من الوقائع والحروب لا يوثق به إذ ليس له إسناد. والحق أن ما وقع من الحروب لم يكن عن عداوة، قال الله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ، وإنما هاجت الفتن بسبب آخر؛ وهو أنه لما بويع لعلي بالخلافة لم يتعرض لقتلة عثمان لما سيجيء إن شاء الله تعالى، وكانوا يزعمون أنهم على الحق وعثمان على الباطل وأنهم مصيبون في قتله ويفتخرون بذلك. وكانت جماعة من كبار الصحابة كطلحة والزبير بن العوام ونعمان بن بشير ومحمد بن مسلمة وكعب بن عجرة وغيرهم يتلهفون على عثمان ويقولون إنه كان على الحق ومقاتلوه على الباطل وإنه قتل مظلوما. وسمع ذلك قتلة عثمان فغضبوا وأردوا بهم كيدا،
فلما أحسوا بذلك هرب كل منهم إلى ناحية، فهرب طلحة والزبير إلى مكة، فلما قدما إليها وجدا فيها أم المؤمنين، وكانت حاجّة في السنة التي قتل فيها عثمان، فقالت: ما وراؤكما؟ فقالا: إنا تحملنا هربا من المدينة من غوغاء الأعراب، ثم قالا مع جمع آخر لها عسى أن تخرجي رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم وهي تمتنع عليهم ويحتجون عليها بقوله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ، فأجابتهم عائشة. وأرادوا موضعا يأمنون به من شر البغاة فإنهم علموا أن قتلة عثمان يقصدونهم فاستقام رأيهم على التوجه إلى البصرة. ولما سمع أمير المؤمنين أنهم خرجوا إلى البصرة سار متوجها إليها، فلما بلغتها أرسل الأمير إلى طلحة والزبير قعقاعا وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ادعهما إلى الإلفة والجماعة وعظّم عليهما الفرقة والمباينة، فخرج قعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة وسلم عليها فقال: يا أم ما أشخصك وأقدمك هذا البلد؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس، ثم بعث إلى طلحة والزبير فحضرا فقال القعقاع: أخبراني ما وجه الإصلاح؟ قالا: قتلة عثمان، قال: هذا لا يكون إلا بعد اتفاق كلمة المسلمين وتسكين الفتنة في هذه الساعة والمسالمة، فقالا: قد أصبت وأحسنت.
فرجع القعقاع إلى علي وأخبره بذلك فسر به وأعجب، وأشرف القوم على الصلح وأقاموا ثلاثة أيام لا يشكون في الصلح. وأرسل الأمير كرم الله تعالى وجهه عشية اليوم الثالث إلى طلحة والزبير بالسلام وأرسلا إليه بالسلام وترددت الرسل بينهما بالصلح. وفرح الناس بذلك، وحزن قتلة عثمان وباتوا يتشاورون طول ليلهم، فقال رئيسهم عبد الله بن سبأ: يا قوم إن عزكم في مخالطة القوم فالزموا عليا ولا تتركوه، فإذا كان الغد والتقى الناس
للمصالحة فأفشوا القتال، فاجتمع رأيهم على ذلك. فلما غشي الليل أنشبوا نار الحرب ووقع ما وقع. فهذا الحرب لم يكن عن عزيمة من الفريقين كما ذكر القرطبي وجماهير من أهل العلم. وهذا هو الصحيح المشهور.
وكان معاوية يومئذ بالشام ولا يريد المحاربة مع الأمير، غير أنه التمس منه أن يسلمه قتلة عثمان أو يخرجهم من عنده، وكان الأمير يأبى ذلك. ولما فرغ من حرب الجمل استقر رأي الناس إلى المسير إلى معاوية فبلغه ذلك فاضطر إلى الخروج إلى الشام. ولما تهيأ كل منهم إلى القتال أرسل الأمير كرم الله تعالى وجهه جمعا من أصحابه إلى معاوية، منهم بشر بن عمرو بن محصن الأنصاري، ليدعوه إلى الطاعة، فقال بشر: إني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن لا تسفك دماءها، فقال معاوية: ما يطلب من علي إلا قتلة عثمان فإنهم شرار الخلق، فانصرفوا وأخبروه بذلك. وامتنع الأمير أن يسلمهم وأبى معاوية إلا تسليم القتلة، ورأى القتال معهم واجبا لأنهم كانوا بغاة وكذلك من يعاونهم، وأخطأ هو ومن معه من الصحابة وهم رجال معدودون وقد رجع أكثرهم عن ذلك، ولكنهم صاحبوا معاوية خوفا من قتلة عثمان وحضر بعضهم ولم يقاتل. ومع ذلك لم يبدأ معاوية بالقتال وإنما بدأ الأمير كرم الله تعالى وجهه لعدم طاعة معاوية للخليفة، فكان هو ومن معه من البغاة، ويجب على الأمير أن يحاربهم حتى يرجعوا عما هم عليه من البغي. وقد صح عن الأمير أنه قال:"أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل" كذا في نهج البلاغة. وإنما امتنع الأمير من تسليم القتلة لشوكتهم وشدة شكيمتهم وكثرتهم واختلاطهم مع العسكر، فرأى تأخير التسليم أصوب إلى أن يرسخ القدم في الخلافة وتتفق كلمة المسلمين
[فتعود] قوتهم، فإن المبادرة بالتسليم حينئذ تؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة وتفاقم الفتنة. وقد قال له بعض أصحابه: لو عاقبت قوما أجلبوا على عثمان؟ فقال: "يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي [بقوة والقوم] المجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا". كذا في نهج البلاغة.
والحاصل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منزهون عما يشينهم من ذميم الأخلاق مبرؤون عن وصمة الفسق على الإطلاق، ولم يتوف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماز الله الخبيث من الطيب. والآيات التي يوردها الشيعة بعد تسليم أن معانيها كما زعموا ليس مورادها كما فهموا، بل هي واردة في حق إخوانهم المنافقين لا في حق الصحابة الصادقين، بل أولئك الذين اختارهم الله لصحبة نبيهم صلى الله عليه وسلم ومات وهو راض عنهم؛ هم الذين فتحوا البلاد بالسيوف وسقوا الأعاجم سم الحتوف ومهدوا قواعد الدين وهدموا أساس المشركين. وهيهات أن يصدر من أولئك الأكابر كبيرة أو يصر أحدهم على صغيرة، وإن وقع منهم حيث لا عصمة ما يقتضي التفسيق فيأبى الله تعالى أن يموتوا عليه وأن يقوموا يوم القيامة من غير توبة بين يديه، حيث أشرقت أنوار النبوة على صفائح قوالب قوابل قلوبهم وكرّه الله إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فحاشا أن يكون من مرغوبهم.
وماذا علينا إذا قلنا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وماذا يلزمنا إذا حملنا أمر أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وصدقوه وجاهدوا معه ونصروه على الصلاح، وأي ضرر يعترينا لو قلنا:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .