الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول في بيان أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعا
ذهبت الإمامية إلى أن النظر في معرفة الله تعالى واجب بحكم العقل، بناء على أنه لا حاكم بالحسن والقبح سوى العقل، ولا حكم لله تعالى فيهما، بل إن الله تعالى تابع في أفعاله لحكم العقل، ولا يجوز أن يخالفه.
وهذا القول باطل، لأن مبناه على تحكيم العقل، وامتناع العرفان بغيره، وكلاهما ممنوع، وما هو إلا من بعض الظن، ودون إثباته خرط القتاد.
والحق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعا لقوله تعالى: {فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها} ، وقوله تعالى:{قل انظروا ماذا في السموات والأرض} ، وقوله تعالى:{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} ، ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها"،
وقوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} وأن الحاكم في الحسن والقبح هو الله تعالى، قال تعالى:{يفعل ما يشاء} و {يحكم ما يريد} وقال تعالى: {لا معقب لحكمه} وقال تعالى: {له الحكم} فإن اللام للاستغراق، وتقديم الخبر يدل على الحصر. وقال تعالى:{إن الحكم إلا لله} وقال تعالى: {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} وقال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} نفى الوجوب قبل البعثة لنفي لازمه.
ولما رواه محمد بن يعقوب الكليني في الكافي عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه قال: "ليس لله على خلقه أن يعرفوه، وللخلق على الله أن يعرفهم"، فإنه لو كان العقل حاكما لزم أن يكون الله تعالى في أفعاله محكوما لبعض مخلوقاته بحيث لا يجوز له أن يخالفه قط، وكفى به نقصا.
واحتجت الشيعة على مدعاهم بأن شكر الله تعالى ودفع الخوف واجبان عقلا: أما الأول فلأن من ترك شكر النعم ذمته العقول واستحسنت سلبها عنه. وأما الثاني فلاحتمال أن المنعم قد أراد الشكر من المنعم عليه على النعمة، وأنه إذا لم يشكر سلبها عنه
وعاقبه، فيحصل له خوف العقاب وزوال النعمة عنه، وهو قادر على دفعه، ومن لم يدفعه ذمه العقلاء، وهما متوقفان على المعرفة، وهي متوقفة على النظر لا تتم إلا به، وما لا يتم الواجب المطلق المقدور عقلا إلا به فهو واجب عقلا.
وهو باطل؛ لأن الوجوب المتنازع فيه هو ما ترك عليه الثواب والعقاب عند الله تعالى، لا المدح والذم عند العقلاء، ولأن وجوب شكر المنعم عقلا ممنوع، ولأنه لو وجب لوجب لفائدة وإلا كان عبثا، وهو قبيح، ولا فائدة فيه لله تعالى لاستغنائه عنها، ولا للعبد في الدنيا، لأنه متعب ولا حظ للنفس فيه، ولا في الآخرة إذ لا مجال للعقل في الأمور الآخرة.
وما يقال: إن الفائدة هي الأمن من احتمال العقاب في الترك الذي هو لازم الحضور على قلب كل ذي لب أو استحقاق الزيادة فباطل؛ لأن اللزوم ممنوع، بل عدمه معلوم في الأكثر، ولو سلم فمعارض باحتمال العقاب على الشكر، واستحقاق المدح معارض لاستحقاق الذم بارتكاب ما يحتمل خوف العقاب، وجلبه للزيادة لا يعلم بالعقل، ولأن الشكر قد يتضمن خوف العقاب؛ لاحتمال أن لا يقع لائقا. ودعوى القطع بعدم العقاب على شكر النعمة مكابرة، أو أنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وادعاء كون هذا التصرف حسنا ممنوع، فإن من بنى مسجدا من مال الغير أو أعطاه مسكينا ذمته العقول، أو لأنه كالاستهزاء كصعلوك شكر ملكا عظيما على كسرة خبز ولقمة طعام قد أخذها بيده بمحضر من أولي الألباب، فإن هذا الشكر يعد استهزاء منه على الملك، فإن ما أعطاه إياه حقير لدى الفقير وغيره، وما أعطاء الله تعالى العبد أحقر عنده من الكسرة واللقمة عند الملك، وكذلك الشكر على نعمة كانت عظيمة لدى المنعم عليه حقيرة لدى المنعم. والعرفان لا يدفع الخوف لقيام احتمال الخطأ، ولا يدفعه اعتقاد أنه مصيب، لأن كل من يأتي بالنظر لا يقطع بعدم احتمال فساده، وربما لعبت به الشكوك.
واحتجت الشيعة أيضا بأنه لو وجب النظر شرعا لزم إفحام الرسل، لأن المكلف يقول: لا يجب علي حتى يثبت الشرع، ولا يثبت حتى أنظر، وأنا لا أنظر. وهو أيضا باطل،
لأن الإفحام مشترك، فإنه غير ضروري والمدعى مكابر، فللمكلف أن يقول ذلك بعينه، ولأن النبي يقول له: قد أخبرتك بما إن أذعنت أجداك، وإلا ضرك، وإن كنت في ريب مما أخبرتك به فالتفت إلى معجزتي فإنك إن التفت إليها عرفت صدقي، وإلا هلكت، ولا ضرر علي إن هلكت وهلك سائر الناس أجمعين، وإنما علي البلاغ المبين.
وهذا القول يضاهي قول من قال للواقف في واد من الأودية: إن وراءك يا من هو في غفلة أسد، فإن لم تتزحزح عن هذا الموضع افترسك، وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي، فقال: لا يثبت صدقك ما لم التفت، ولا أنظر ورائي ما لم يثبت صدقك. فإنه يدل على فرط جهالة الواقف وأنه استهدف نفسه للبلاء والردى. كذا قاله حجة الإسلام الغزالي في الإحياء.
واحتجت أيضا بأنه لو وجب النظر شرعا لزم تكليف العاقل. وهو أيضا باطل، لأنه ليس منه في شيء؛ لأنه يفهم الخطاب، ويتصور التكليف، وإن لم يصدق به.