الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني والعشرون في أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
ذهبت الكيسانية والفرق الثمانية من الزيدية والإمامية إلى أن العبد خالق لأفعاله بقدرته، حتى البهائم والطيور وغيرها من الحيوانات وما ليس له شعور من الأعضاء وغيرها. روى المرتضى في الدرر والغرر عن التوزي عن أبي عبيدة قال: اختصم رؤبة وذو الرمة عند بلال بن أبي بردة، فقال رؤبة: والله ما فحص طائر فحوصا ولا تقرمص سبع قرموصا (أي اتخذ قرموصا وهو الموضع الذي يأوي إليه) إلا بقضاء من الله وقدره، فقال له ذو الرمة: والله ما قدر الله على الذئب أن يأكل حلوبة عيائل (جمع عيل، وهو ذو العيال) ضرائك (جمع ضريك، وهو الفقير)، فقال رؤبة: أفبقدرته أكلها؟ هذا كذب على الذئب ثان، قال ذو الرمة: الكذب على الذئب خير من الكذب على رب الذئب. قال المرتضى: هذا الخبر صريح في قوله بالعدل واحتجاجه عليه وبصيرته فيه. هذا كلامه، ولا
يتفوه به من له مسكة من العقل.
قل للذي يدعي في العلم فلسفة
…
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
ثم روى عن الأصمعي عن إسحاق بن سويد قال: أنشدني ذو الرمة:
وعينان قال الله كونا فكانتا
…
فعولان بالألباب ما يفعل الخمر
فقلت له: فعولين خبر لكونا، فقال لي: لو سبحت لربحت، وإنما قلت: وعينان فعولان فوصفتهما بذلك، قال المرتضى:"وإنما تحرز ذو الرمة بهذا الكلام من القول بخلاف العدل". اهـ.
وهو باطل؛ لأنه وصفهما بذلك للمبالغة، إذ لا يقول ذو لب أن الخمر تخلق الإسكار، ولو أراد ما ذكره المرتضى لم يفد سوى أنه ما لا علم له ولا إرادة ولا قدرة، كالعين والخمر، شريك الله من خلقه، وهذا قول بطلانه أظهر من الشمس. وقد تبع هؤلاء الضلال المعتزلة، وكلا الفريقين وافقوا المجوسز وزعموا أن القول بخلاف ذلك يستلزم الظلم، وسموا هذا القول عدلا، وسموا أنفسهم عدلية، وأرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه عن سلطانه، وأثبتوا له شركاء من خلقه. وقد ظنوا أن أمر الخلق هين حتى زعموا أن مثل الذرة وما دونها خالق لأفعاله.
والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى مكسوبة للعبد. وما زعمه المخالفون باطل، لأنه يستلزم أن يكون الكافر الذي علم الله تعالى أنه يختار الكفر ويموت عليه قادرا على أن يخلق فيه الإيمان، وليس كذلك، وإلا لزم أن ينقلب العلم جهلا، هذا خلف. ولأن العبد حال الفعل إن لم يتمكن من الترك كان مجبورا لا مختارا، وإن تمكن فلا بد له من مرجح لوجوب الفعل، ولم يمكن منه، وإلا لزم
الترجيح من غير مرجح. ولأنه لو ناقض مراد الله مراد العبد: فإما أن يقع مرادهما جميعا، أو لا يقع، وكلاهما محال، أو يقع مراد أحدهما، فيلزم الترجيح بلا مرجح. ولأنه أجمعت الأمة على وجوب شكر الله تعالى على نعمته الآن، فلو كان بإيجاد العبد لزم شكر الغير على فعل نفسه، ولا معنى له، وأما الشكر على المقدمات فأمر آخر. ولأن المليين أجمعوا على صحة تضرع العبد إلى الله تعالى بطلب ما ينفعه ودفع ما يضره، فلو كان بخلق العبد دون خلق الله تعالى لما صح ذلك.
ولنصوص الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {لا إله إلا هو خالق كل شيء} ،
{ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله} ، {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن} مع أن وقوف الطير فعل اختياري من الحيوان.
وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله صانع كل صانع وصنعه"، أخرجه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد والبيهقي فيه والحاكم في المستدرك عن حذيفة بن اليمان مرفوعا.
وروت الإمامية عن الأئمة أيضا: أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، كما ذكره شارح العدة وغيره؛ وفسروا الخلق بالتقدير، والتقدير بالتدبير، وهو أن يفعل ما يفعل المتحري للصواب الناظر في عواقب الأمور. ولا حجة لهم في ذلك لا من اللغة، ولا من كلام الأئمة. ولا يجوز أن يكون الخلق بمعنى التقدير لقوله تعالى:{وخلق كل شيء فقدره تقديرا} . وما ذهب إليه أهل الحق هو مذهب المتقدمين من المليين والحكماء الإلهيين ومن بعدهم من الفلاسفة، فإنهم قالوا: المبدأ الأول فاعل الحوادث كلها، وإنه هو المؤثر في الحقيقة، ولا مؤثر سواه، فإن الوسائط بمنزلة الشرائط والآلات. نص عليه الشيخ في الشفاء وتلميذه في التحصيل، وصنف صاحبه الحكيم عمر بن الخيام في ذلك رسالة مفردة، وصرح بذلك صاحب التجريد من الإمامية في شرح الإشارات.
واحتج من خالف أهل الحق بأنه لو كان الله تعالى موجدا لأفعال العباد لكان فاعلا، والفاعل يتصف بالفعل، إذ لا معنى للعاصي إلا فاعل العصيان، فيلزم أن يكون سبحانه كافرا، تعالى الله.
والجواب أن الفاعل يطلق على من قام به الفعل، لا على من أوجده.
واحتجوا أيضا بأنه لو كان خالقا لأفعال العباد لكان أظلم الظالمين، حيث خلق في العبد المعصية ثم عذبه عليها.
والجواب أن الله تعالى أوجد في العبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك، وصفةً من شأنها ترجيح أحد المقدورين بالوقوع، وهي الإرادة، وأخرى من شأنها الميل إلى الشهوات الموجبة لهلاكها والنفور عن التكاليف الموجبة لسعادتها، وهي النفس، ولما تعلقت الإرادة بالفعل تعلقت القدرة به بسبب تعلقها به، وهو ليس بمخلوق لله تعالى لما مر آنفا، وتعلق إرادة العبد بالفعل الكسب، والترجيح مع ميل النفس في المعصية، وبدونه في الطاعة الاختيار، فالعذاب بسبب سوء الاختيار والكسب. ولأن الله تعالى يعلم ما كانوا يفعلون لو فوض إليهم الأمر، فيخلق فيهم ذلك، فيعذب منهم الفجار، كما علم من أطفال الكفار ما كانوا يعملون، فيدخلهم مدخل آبائهم.
روى محمد بن بابويه عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عن أطفال المشركين يموتون قبيل أن يبلغوا الحنث، قال:"الله أعلم بما كانوا عاملين، يدخلون مداخل آبائهم". وروى عن وهب بن وهب عنه عن أبيه أنه قال: "أولاد الكفار في النار". وروى الكليني وابن بابويه وآخرون عن الأئمة: أن الله تعالى خلق بعض عباده سعيدا وبعض عباده شقيا.
وروى الكليني عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله أنه قال: "إن الله تعالى خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه، فمن خلقه سعيدا لم يبغضه أبدا وإن عمل سوءا أبغض عمله ولم يبغضه، وإن خلق شقيا لم يحبه أبدا وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه، فإذا أحب الله شيئا لم يبغضه أبدا، وإذا أبغضه لم يحبه أبدا". وروى الكليني وغيره من الإمامية عن أبي نصير أنه قال: كنت بين يدي أبي عبد الله جالسا وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا ابن رسول الله، من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم لهم في علمه بالعذاب على عملهم؟ فقال أبو عبدا لله: أيها السائل، علم الله عز وجل لا يقوم له أحد من خلقه بحقه، فلما حكم بذلك وهب لأهل محبته القوة على طاعته ووضع ثقل العمل تحقيقا لما هم أهله، ووضع لأهل المعصية القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم، ومنعهم إطاقة القبول، فوافقوا ما سبق لهم في علمه، ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم من عذابه".
واحتجوا أيضا بأنه لو كان الله تعالى خالقا لفعل العبد لزم إفحام الأنبياء؛ لأنه إذا قال النبي للكافر: آمن بي، يقول الكافر: قل للذي بعثك يخلق في الإيمان حتى أؤمن، وقد خلق في الكفر، وأنا لا أتمكن من مقابلته، فيفحم النبي ولا يتمكن من جوابه.
والجواب أن النبي يقول له: إن الله تعالى أمرني بالتبليغ، وبيده الرد والقبول، وليس لي من الأمر شيء. أو يقول: دعوتي قد تكون داعية لك إلى الفعل واختياره، فيخلق الله تعالى فعل القبول عقبها. ولأن هذا يرد أيضا على تقدير كون العبد خالقا لأفعاله، لأن العبد إذا قال للنبي: إن الله تعالى أجرى بيدي، وأنا لا أتمكن من مقابلته وقهره، أو قال: إنه منعني من إطاقة القبول ووهب لي قوة على خلق المعصية دون الطاعة، فكيف يكلفني بالإطاقة؟، أو قال: إن الله تعالى أراد لي السوء ونكت في قلبي نكتة سوداء وسد مسامع قلبي ووكل بي شيطانا يضلني، فقل له: يريد بي الخير وينكت في قلبي نكتة من نور ويفتح مسامع قلبي ويوكل بي ملكا يسددني حتى أؤمن بك، فيفحم النبي أيضا.
واحتجوا أيضا بكثير من الآيات الدالة على استناد الفعل لفاعله، نحو:{يؤمنون به} ، {يكفرون بآيات الله} وبكثير من الآيات الدالة على المدح نحو:{وإبراهيم الذي وفى} وفي الذم نحو: {وكيف تكفرون بالله وأنتم تتلى عليكم آيات الله} والوعد نحو: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} والوعيد نحو: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} وبالآيات الدالة على أن فعل العبد بمشيئته، نحو:{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} .
والجواب أن الفعل يستند حقيقة إلى من قام به، لا إلى من أوجده، فإن الأحمر مثلا الجسم، وإن كانت الحمرة بخلقه تعالى، وكذلك الأكل والشرب والنوم واليقظة وغيرها. وأما المدح والذم والوعد والوعيد فلاختيار العبد وكسبه إياه. وأما المشيئة فلأن أفعال العباد بإرادة الله تعالى، لكنها على وفق إرادة العبد، فإنه سبحانه لما كان عالما بما يريده العبد أراده، فإن الكتاب والسنة وآثار الأئمة ناصة على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى:{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} لا يفيد الخصم شيئا، فإنه تعالى لم يذم الكفرة على قولهم: إن الكفر بمشيئة الله تعالى، وإنما ذمهم لأنهم قصدوا بمقالتهم تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذمهم على تفويض الكائنات إلى مشيئة الله تعالى. وقوله تعالى فيما بعد:{فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} يصرم دجى هذا الوهم. وجميع شبههم في هذا الباب أوهى من بيت العنكبوت.