الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِنْ شَرَطَ الطَّائِرَ مُصَوِّتًا، أَوْ أَنَّهُ يَجِئُ مِنْ مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، صَحَّ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَا يَصِحُّ.
ــ
1592 - مسألة: (وَإِنْ شَرَطَ الطَّائِرَ مُصَوِّتًا، أَوْ أَنَّهُ يَجِئُ مِنْ مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، صَحَّ. وَقَالَ الْقَاضِى: لَا يَصِحُّ)
إذا شَرَطَ في الهَزَارِ والقُمْرِىِّ ونحوِهما أنَّه مُصَوِّتٌ، فقال بعضُ أصْحابِنا: لا يَصِحُّ. وبه قال أبو حَنِيفَةَ؛ لأنَّ صِياحَ الطَّيْرِ يَجُوزُ أن يُوجَدَ وأن لا يُوجَدَ، ولأنَّه لا يُمْكِنُه إكْرَاهُه على التَّصْوِيتِ. والأَوْلَى جَوازُه؛ لأنَّ فيه قَصْدًا صَحِيحًا، وهو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عادَةٌ له وخِلْقَةٌ فيه، فأَشْبَهَ الهَمْلَجَةَ في الدَّابَّةِ، والصَّيْدَ في الفَهْدِ. وإنْ شَرَطَ في الحمامِ أنَّه يَجِئُ مِن مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، صَحَّ أيضًا. اخْتَارَهُ أبو الخَطّابِ؛ لأنَّ هذه عادَةٌ مُسْتَمِرَّة، وفيها قَصْدٌ صحِيحٌ؛ لتَبْلِيغِ الأخْبَارِ، وحَمْلِ الكُتُبِ، فجَرَى مَجْرى الصَّيْدِ والهَمْلَجَةِ. وقال القاضِى: لا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَصِحُّ. وهو قولُ أبى حَنِيفَةَ؛ لأنَّ فيه تَعْذِيبًا للحَيَوانِ، أَشْبَهَ ما لو شَرَطَ الكَبْشَ مُناطِحًا. وإنْ شَرَطَ الغِناءَ في الجارِيَةِ، لم يَصِحَّ؛ لأنَّ الغِناءَ مَذْمُومٌ في الشَّرْعِ، فلم يَصِحَّ اشْتِراطُه، كالزِّنَى. وإنْ شَرَطَ في الكَبْشِ النِّطَاحَ، أو في الدِّيكِ كونَه مُناقِرًا، لم تصِحَّ، لأنَّه مَنْهِىٌّ عنه في الشَّرْعِ، فجَرَى مَجْرَى الغِناءِ في الجارِيَةِ. وإنْ شَرَطَ أنَّ الدِّيكَ يُوقِظُه للصَّلَاةِ، لم يَصِحَّ، لأَنَّه لا يُمْكِنُ الوَفاءُ به، وإنْ شَرَطَ أنَّه يَصِيحُ في أوقاتٍ مَعْلُومَةٍ، جرَى مَجْرَى التَّصْوِيتِ في القُمْرِىِّ، على ما ذَكَرْنا.
الثَّالِثُ، أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ نَفْعًا مَعْلُومًا في الْمَبِيعِ؛ كَسُكْنَى الدَّارِ شَهْرًا، وحُمْلَانِ الْبَعِيرِ إِلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ، أَوْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِى نَفْعَ الْبَائِعِ في الْمَبِيعِ؛ كَحَمْلِ الْحَطَبِ، وَتَكْسِيرِهِ، وَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ، وَتَفْصِيلهِ، فَيَصِحُّ.
ــ
و (الثَّالِثُ، أَنْ يَشْتَرِطَ نَفْعًا مَعْلُومًا في الْمَبِيعِ؛ كَسُكْنَى الدَّارِ شَهْرًا، وحُمْلَانِ الْبَعِيرِ إِلَى مَوْضِعٍ مَعْلُوم، أَوْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِى نَفْعَ الْبَائِعِ في الْمَبِيعِ؛ كَحَمْلِ الْحَطَبِ، أَوْ تَكْسِيرِهِ، أَوْ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ، أَوْ وَتَفْصِيلهِ). ويَصِحّ أَنْ يَشْتَرِطَ البائِعُ نَفْعَ المَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، مثلَ أَنْ يَبِيعَ دارًا ويَسْتَثْنِىَ سُكْنَاها سَنَةً، أو دابَّةً ويَشْتَرِطَ ظَهْرَهُ إلى مكانٍ مَعْلُومٍ، أو عَبْدًا ويَسْتَثْنِىَ خِدْمَتَه مُدَّةً مَعْلُومَةً. نصَّ عليه أحمدُ. وهو قولُ الأوْزَاعِىِّ، وأبى ثَوْرٍ، وإسْحاقَ، وابنِ المُنْذِرِ. وقال الشَّافِعِىُّ، وأصحاب الرَّأْى: لا يَصِحُّ؛ لأنَّه يُرْوَى أنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بَيْعٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وشَرْطٍ (1). ولأنَّه يُنَافِى مُقْتَضَى البَيْعِ، فأشْبَهَ ما لو شَرَطَ أَنْ لا يُسَلِّمَه؛ [وذلك](2)، لأنَّه شرطَ تَأْخِيرِ تَسْلِيمِ المَبِيعِ إلى أَنْ يَسْتَوْفِىَ البائِعُ مَنْفَعَتَه. وقال ابنُ عَقِيلٍ: فيه رِوَايَةٌ أُخرَى، أنَّه يَبْطُلُ البَيْعُ والشَّرْطُ، نَقَلَها عبدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ (3) في الرَّجُلِ يَشْتَرِى مِن الرَّجُلِ الجارِيَةَ ويَشْتَرِطُ أَنْ تَخْدِمَه، فالبَيْعُ باطِل. قال شَيْخُنا (4): وهذه الرِّوَايَةُ لا تَدُلُّ على محَلِّ النِّزَاعِ في هذه المسألةِ، فإنَّ اشْتِراطَ خِدْمَةِ الجارِيَةِ باطِلٌ؛ لوَجْهَيْنِ؛ أحَدُهما، أنَّها مَجْهُولَةٌ، فإطْلَاقُه يَقْتَضِى خِدْمَتَها أَبَدًا، وهذا لا خِلافَ في بُطْلانِه، إنَّما الخِلافُ في اشْتِراطِ مَنْفعَةٍ مَعْلُومَةٍ. الثانى، أَنْ يَشْتَرِطَ خِدْمَتَها بعدَ زَوالِ مِلْكِه عنها، وذلك يُفْضِى إلى الخَلْوَةِ بها، والخَطَرِ برُؤْيَتها، وصُحْبَتِها، وهذا لا يُوجَدُ في غَيْرِها، ولذلك مُنِعَ إعارَةُ الأَمَةِ الشَّابَّةِ لغيرِ مَحْرَمِها. وقال مالِكٌ: إنِ اشْتَرَطَ رُكُوبًا إلى مكانٍ قرِيبٍ، جازَ، وإنْ كان إلى مكانٍ بَعِيدٍ، كُرِهَ؛ لأنَّ اليَسِيرَ تَدْخلُه المُسَامَحَةُ. ولَنا، ما رَوَى جابِرٌ، أنَّه باعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم جَمَلًا، واشْتَرَطَ ظَهْرَه إلى
(1) أخرجه ابن حزم، في: المحلى 9/ 409. والحاكم، في: معرفة علوم الحديث 128. والخطابى، في: معالم السنن 3/ 145. وانظر: نصب الراية 4/ 17. وتلخيص الحبير 3/ 12.
(2)
في م: «ذلك» .
(3)
لعله عبد اللَّه بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان، ابن بنت أحمد بن منيع، روى عن الإمام أحمد، وصنف المعجمين الكبير والصغير، توفى سنة سبع عشرة وثلاثمائة. طبقات الحنابلة 1/ 190 - 192.
(4)
في: المغنى 6/ 167.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المَدِينَةِ. وفى لَفْظٍ، قال: فَبِعْتُه بأُوقِيَّةٍ، واسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إلى أهْلِى. مُتَّفَقٌ عليه (1). وفى لَفْظٍ: فبِعْتُه بخَمْسِ أوَاقٍ، قال: قُلْتُ: على أنَّ لى ظَهْرَه إلى المَدِينَةِ. قال: «وَلَكَ ظَهْرُه إلى المَدِينَةِ» . رواهُ مُسْلِمٌ (2). ولأنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الثُّنْيَا، إلَّا أَنْ تُعْلَمَ (3). وهذه مَعْلُومَةٌ، ولأنَّ المَنْفَعَةَ قد تَقَعُ مُسْتَثْناةً بِالشَّرْعِ على المُشْتَرِى، فيما إذا اشْتَرَى نَخْلًا مُؤَبَّرَةً، أو أرْضًا مَزْرُوعَةً، أو دَارًا مُؤْجَرَةً، أو أَمَةً مُزَوَّجَةً، فجازَ أَنْ يَسْتَثْنِيَها، كما لو اشْتَرَطَ البائِعُ الثَّمرَةَ قبل التَّأْبِيرِ، ولم يَصِحَّ نَهْىُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عن بَيْعٍ وشَرْطٍ (4). وإنَّما نهَى عن شَرْطَيْنِ في بَيْعٍ (5). فمَفْهُومُه إباحَةُ الشَّرْطِ الواحِدُ. وقِياسُهُم مَنْقُوضٌ بشَرْطِ الخيارِ والتَّأْجِيلِ في الثَّمَنِ.
(1) أخرجه البخارى، في: باب شراء الدواب والحمير، من كتاب البيوع، وفى: باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، من كتاب الشروط، وفى: باب من ضرب دابة غيره في الغزو، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 3/ 81، 248، 4/ 36. ومسلم، في: باب استحباب نكاح البكر، من كتاب الرضاع، وفى: باب بيع البعير واستثناء ركوبه، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 2/ 1089، 3/ 1221 - 1223.
كما أخرجه النسائى، في: باب البيع يكون فيه الشرط فيصح البيع والشرط، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 261 - 263. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 299.
(2)
في: باب بيع البعير واستثناء ركوبه، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1223.
(3)
تقدم تخريجه في صفحة 115.
(4)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(5)
أخرجه أبو داود، في: باب في الر جل يبيع ما ليس عنده، من كتاب البيوع. سنن أبى داود 2/ 254. والترمذى، في: باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 243. والنسائى، في: باب سلف وبيع وهو أن يبيع السلعة على أن يسلفه سلفا، وباب شرطان في بيع. . .، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 259. وابن ماجه، في: باب النهى عن بيع ما ليس عندك، وعن زرع ما لم يضمن، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وإنْ باعَ أمَةً، واسْتَثْنَى وَطْأَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً، لم يَصِحَّ؛ لأَنَّ الوَطْءَ لا يُباحُ في غيرِ مِلْكٍ أو نِكاحٍ، لقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (1). وفارَقَ اشْتِرَاطَ وَطْءِ المُكاتَبَةِ، حيثُ نُبِيحُه؛ لأنَّها مَمْلُوكَةٌ، فيُسْتَبَاحُ وَطْؤُها بالشَّرْطِ في المَحَلِّ المَمْلُوكِ. واخْتارَ ابنُ عَقِيلٍ عَدَمَ الإِباحَةِ أَيْضًا. وهو قولُ أَكثرِ الفُقَهاءِ.
فصل: وإن باعَ المُشْتَرِى العَيْنَ المُسْتَثْناةَ مَنْفَعَتُها، صَحَّ البَيْعُ، وتكونُ في يَدِ المُشْتَرِى الثَّانِى مُسْتَثْنَاةً أيضًا. فإنْ كان عالِمًا بذلك، فلا خِيارَ له؛ لأنَّه دَخَلَ على بَصِيرَةٍ، فلم يَثْبُتْ له خِيارٌ، كما لو اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ، وإنْ لم يَعْلَمْ، فله خِيارُ الفَسْخِ، كمَن اشْتَرَى أمَةً مُزَوَّجَةً، أو دارًا مُؤْجَرَةً. وإنْ أتْلَفَ المُشْتَرِى العينَ، فعليه أُجْرَةُ المِثْلِ؛ لتَفْوِيتِ المَنْفَعَةِ المُسْتَحَقَّةِ لغيرِه، وثَمَنُ المَبِيعِ (2)، وإن تَلِفَتِ العَيْنُ بتَفْرِيطِه،
= من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 737، 738. والدارمى، في: باب في النهى عن شرطين في بيع، من كتاب البيوع. سنن الدارمى 2/ 253. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 179.
(1)
سورة المؤمنون 5 - 7 المعارج 29 - 31.
(2)
في م: «والبيع» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فهو كَتَلَفِها بفِعْلِه. نَصَّ عليه أحمدُ. وقال: يَرْجِعُ البائِع على المُبْتاعِ بأُجْرَةِ المِثْلِ. قال القاضِى: مَعْناهُ عِنْدِى، القَدْرُ الَّذى نَقَصَه البائِعُ لأَجْلِ الشَّرْطِ. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ خِلافُ هذا؛ لأنَّه يَضْمَنُ ما فات بتَفْرِيطِه، فضَمِنَه بعِوَضِه، وهو أُجْرَةُ المِثْلِ. فأمَّا إنْ تَلِفَتْ بغَيْرِ فِعْلِه وتَفْرِيطِه، لم يَضْمَنْ. قال الأَثْرَمُ: قُلْتُ لأبِى عبدِ اللَّهِ: فَعَلَى المُشْتَرِى أَنْ يَحْمِلَه على غَيْرِه؛ لأنَّه كان له حمْلان؟ قال: لا، إنَّما شرطَ عليه هذا بعَيْنِه. لأنَّه لم يَمْلِكْها البائِعُ مِن جِهَتِه، فلم يَلْزَمْه عِوَضُها، كما لو تَلِفَتِ النَّخْلَةُ المُؤَبَّرَةُ بثَمَرَتِها، أو غيرُ المُؤَبَّرَةِ إذا اشْتَرَط البائِعُ ثَمَرَتَها، وكما لو باعَ حائِطًا واسْتَثْنَى منه شَجَرَةً بعَيْنِها، فتَلِفَتْ. وقال القاضِى: عليه ضَمانُها، أخْذًا من عُمومِ كلامِ أحمدَ. وإذا تَلِفَتِ العَيْنُ، رَجَعَ البائِعُ على المُبْتاعِ بأُجْرَةِ المِثْلِ. وكَلامُه مَحْمُولٌ على حالَةِ التَّفْرِيطِ، على ما ذَكَرناه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: إذا اشْتَرَطَ البائِعُ مَنْفَعَةَ المَبِيعِ، فأرادَ المُشْتَرِى أَنْ يُعْطِيَه ما يَقُومُ مَقامَ المَبِيعِ في المَنْفَعَةِ، أو يُعَوِّضَه عنها، لم يَلْزَمْه قَبُولُه، وله اسْتِيفَاءُ المَنْفَعَةِ مِن غيرِ المَبِيعِ. نَصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ حَقَّه تَعَلَّقَ بعَيْنِها، أَشْبَهَ ما لو اسْتَأْجَرَ عَيْنًا، فبَذَلَ له الآخَرُ مِثْلَها، ولأنَّ البائِعَ قد يكونُ له غَرَضٌ في اسْتِيفَاءِ مَنافِعِ تلك العَيْنِ، فلا يُجْبَرُ على قَبُولِ عِوَضِها. فإنْ تَرَاضَيَا على ذلك، جازَ؛ لأنَّ الحَقَّ لهما. وإنْ أرادَ البائِعُ إعارَةَ العَيْنِ أو إجارَتَها لمَن يقومُ مَقامَه، فله ذلك، في قياسِ المَذهَبِ؛ لأنَّها مَنافِعُ مُسْتَحَقَّةٌ له، فملَكَ ذلك فيها، كمنافِعِ الدَّارِ المُسْتَأْجَرَةِ المُوصَى بمَنَافِعِها، ولا تَجُوزُ إجَارَتُها إلَّا لمِثْلِه في الانْتِفاعِ، فإنْ أرادَ إجارَتَها أو إعارَتَها لمَن يَضُرُّ بالعَيْنِ بانْتِفاعِه، لم يجُزْ ذلك، كما لا يَجُوزُ له إجَارَةُ العَيْنِ المُسْتَأْجَرَةِ لمَن لا يقومُ مَقامَه. ذَكَرَ ذلك ابنُ عَقِيلٍ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: ولو قال: بِعْتُكَ هذه الدّارَ، وأَجَرْتُكَهَا شَهْرًا. لم يَصِحَّ؛ لأنَّه إذا باعَه فقد مَلَك المُشْتَرِى المنافِعَ، فإذا أَجرَهُ إيَّاهَا، فقد شرَطَ أَنْ يكونَ له بَدَلٌ، في مُقابَلَةِ ما مَلَكَه المُشْتَرِى، فلم يَصِحَّ. قال ابنُ عَقِيلٍ: وقد نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عن قَفِيزِ الطَّحَّانٍ (1). ومَعْناهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ طَحّانًا لِيَطْحَنَ له كُرًّا (2) بقَفِيزٍ منه، فيَصِيرُ كَأَنَّه شَرَط له [عَمَلَه في](3) القَفِيزِ عِوَضًا عن عَمَلِه في باقِى الكُرِّ المَطْحُونِ. ويَحْتَمِلُ الجوازَ، بناءً على اشْتِراطِ مَنْفَعَةِ البائِعِ في المَبِيعِ، على ما نَذْكُرُه، إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
فصل: ويَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ المُشْتَرِى نَفْعَ البائِعِ في المَبِيعِ، مثلَ أَنْ يَشْتَرِىَ ثَوْبًا ويَشْتَرِطَ على بائِعِه خِياطَتَه قَمِيصًا، أو بَغْلَةً ويَشْتَرِطَ حَذْوَها نَعْلًا، أو جُرْزَةَ (4) حَطَبٍ ويَشْتَرِطَ حَمْلَها إلى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ. نَصَّ عليه أحمدُ في رِوَايَةِ مُهَنّا، وغيرِه. واحْتَجَّ أحمدُ بما رُوِى أنَّ محمدَ بنَ مَسْلَمَةَ اشْتَرَى مِن نَبَطِىٍّ جُرْزَةَ (4) حَطَب، وشارَطَهُ على حَمْلِها. وبه قال إسحاقُ، وأبو عُبَيْدٍ (5). وقال أبو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَشتَرِىَ بَغْلَةً،
(1) أخرجه البيهقى، في: باب النهى عن عسب الفحل، من كتاب البيوع. السنن الكبرى 5/ 339. والدارقطنى، في: كتاب البيوع. سنن الدارقطنى 3/ 47.
(2)
في م: «كذا» . والكُرُّ: ستون قفيزًا أو أربعون إردبا.
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: «حزمة» . والجرزة: الحُزْمة.
(5)
في م: «عبيدة» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ويَشْتَرِطَ على البائِعِ حَذْوَها. وحُكِىَ عن أبى ثَوْرٍ، والثَّوْرِىِّ، أنَّهُما أَبْطلا العَقْدَ بهذا الشَّرْطِ؛ لأنَّه شَرْطٌ فاسِدٌ، أشْبَهَ الشُّرُوطَ الفاسِدَةَ، ورُوِىَ عن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نَهَى عن بَيْعٍ وشَرْطٍ (1). ولَنا، ما تَقَدَّمَ في قَضِيَّةِ محمدِ ابنِ مَسْلَمَةَ، ولأنَّه بَيْع وإجارَة؛ لأنَّه باعَهُ الثَّوْبَ وأجَرَه نَفْسَه على خِياطَتِه، وكُلُّ واحِدٍ منهما يَصِحُّ إفْرادُه بالعَقْدِ، فإذا جَمَعَهُما، جازَ، كالعَيْنَيْنِ. ولم يَصِحَّ أنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بَيْعٍ وشَرْطٍ. قال أحمدُ: إنَّما نَهَى من شَرْطَيْنِ في بَيْعٍ (2). وهو يَدُلّ بمَفْهُومِه على جَوازِ الشَّرْطِ الواحِدِ. ولابدَّ مِن العِلْمِ بالمَنْفَعَةِ لهما؛ ليَصِحَّ اشْتِراطُهما، لأنَّنا نَزَّلْنا ذلك مَنْزِلَةَ الإِجارَةِ. فلو اشْتَرَطَ حملَ الحَطَبِ إلى مَنْزِلِه، والبائِعُ لا يَعْرِفُ مَنْزِلَه، لم يَصِحَّ. وإنْ شرَطَ حَذْوَها نَعْلًا، فلا بُدَّ مِن مَعْرِفَةِ صِفَتِها، كما لو اسْتَأْجَرَه على ذلك ابْتَداءً. قال أحمدُ، في الرَّجُلِ يَشْتَرِى البَغْلَةَ على أَنْ يحذُوَها: جائِزٌ، إذا أرادَ الشِّراكَ. فإنْ تَعَذَّرَ العَمَلُ بتَلَفِ المَبِيعِ قبلَه، أو بمَوْتِ
(1) تقدم تخريجه في صفحة 215.
(2)
تقدم تخريجه في صفحة 216.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
البائِعِ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ، ورَجَعَ المُشْتَرِى عليه بعِوَضِ ذلك. وإن تَعَذَّرَ بمرَض، أُقِيمَ مُقَامَه مَن يَعْمَلُ العَمَلَ، والأُجْرَةُ عليه، كقَوْلِنا في الإِجَارَةِ.
فصل: وإذا اشْتَرَطَ المُشْتَرِى مَنْفَعَةَ البائِعِ في المَبِيعِ، فأَقامَ البائِعُ مُقامَه مَن يَعْمَلُ العَمَلَ، فله ذلك؛ لأنَّه (1) بمَنْزِلَةِ الأجِيرِ المُشْتَرَكِ، يجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ العَمَلَ بنَفْسِه، وبمَنْ يقومُ مَقامَه. وإنْ أَرادَ بَذْلَ العِوَضِ عن ذلك، لم يَلْزَمِ المُشْتَرِى قَبُولُه، وإنْ أرادَ المُشْتَرِى أخْذَ العِوَضِ عنه، لم يَلْزَمِ البائِعَ بَذْلُه؛ لأنَّ المُعَاوَضَةَ عَقْدُ تَراضٍ، فلا يُجْبَرُ عليه أحَدٌ. وإن تَرَاضَيَا علَيه، احْتَمَلَ الجوازَ؛ لأَنَّها مَنْفَعَةٌ يجوزُ أخْذُ العِوَضِ عنها لو لم يَشْتَرِطْها، فإذا مَلَكَها المُشْتَرِى، جازَ له أخْذُ العِوَضِ عنها، كما لو اسْتَأْجَرَها، وكما يَجُوزُ أَنْ تُؤْجَرَ المنافِعُ المُوصَى بها مِن ورَثَةِ المُوصِى. ويَحْتَمِلُ أن لا يَجُوزَ؛ لأنَّه مُشْتَرَطٌ بحُكْمِ العادَةِ والاسْتِحْسَانِ لأَجْلِ الحاجَةِ، فلم يَجُزْ أخْذُ العِوَضِ عنه، كالقَرْضِ، فإنَّه يَجُوزُ أن يُرَدَّ في الخُبزِ والخَمِيرِ، أقَلَّ أو أكْثَرَ. ولو أرادَ أن يَأْخُذَ بقَدْرِ خُبْزِه وكَسْرِه بقَدْرِ
(1) سقط من: الأصل، م.