الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز
الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي، شيخنا الإمام حافظ الشام.
كان في حفظه لا يجارى، وفي لفظه لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، عرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس، مع ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصح إلى الذهب نسبه وانتماؤه.
جمع الكثير، ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف، ووفر بالاختصار مونة التطويل في التأليف، وكتب بخطه ما لا يحصى، ولا يوقف له على حد يستقصر ولا يستقصى.
ومنذ انتشا لم يضع له زمان، ولا ظفر الفراغ منه بأمان، أخذنا من فوائده الجليلة وفرائده الجميله، وأضحت دمشق بعده من فنه دمنةً والعيون كليله:
أطل على الأخبار من كل وجهة
…
وشارفها من كل شرق ومغرب
وأضر قبل موته بسنوات، وحصل للناس بذلك في تلك الحال هفوات.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الذهبي وقد ذهب، ونهب الأجل من عمره ما وهب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب النصر.
ومولده سألته عنه فقال: في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وقلت أنا أرثيه:
لما قضى شيخنا وعالمنا
…
ومات فن التاريخ والنسب
قلت عجيب وحق ذا عجب
…
كيف تخطى البلى إلى الذهب
وقلت فيه أيضاً:
أشمس الدين غبت وكل شمس
…
تغيب وزال عنا ظل فضلك
وكم ورخت أنت وفاة شخص
…
وما ورخت قط وفاة مثلك
وارتحل وسمع بدمشق وبعلبك وحمص وحماة وطرابلس ونابلس والرملة وبلبيس والقاهرة والإسكندرية والحجاز والقدس وغيرها.
سمع بدمشق من عمر بن القواس وغيره، وببعلبك من عبد الخالق بن علوان وغيره. وبالقاهرة من الحافظين ابن الظاهري والشيخ شرف الدين الدمياطي، ومن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ومن أبي المعالي الأبرقوهي. وسمع بالإسكندرية من الغرافي وغيره.
وسمع بمكة من التوزري وغيره، وسمع بنابلس من العماد بن بدران، وباشر تدريس الحديث بالتربة الصالحية بدمشق عوضاً عن الشيخ كمال الدين بن الشريشي.
أخبرني شيخنا العلامة تقي الدين قاضي القضاة قال: عدته ليلة مات، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: في السياق.
وكان قد أضر قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، وكان يتأذى ويغضب إذا قيل له: لو قدحت هذا لرجع إليك بصرك، ويقول: ليس هذا بماء، وأنا أعرف بنفسي، لأن بصري لا زال ينقص قليلاً قليلاً إلى أن تكامل عدمه.
اجتمعت بع غير مرة، وقرأت عليه كثيراً من تصانيفه. ولم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة النقلة، بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس، ومذاهب الأئمة والسلف وأرباب المقالات.
وأعجبني ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثاً يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد أو طعن في رواية وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده.
ومن تصانيفه " تاريخ الإسلام "، وقد قرأت عليه منه المغازي والسيرة النبوية إلى آخر أيام الحسن، وجميع الحوادث إلى آخر سنة سبع مئة. وكانت القراءة في أصله بخطه، و" تاريخ النبلاء "، ونقل عني فيه أشياء، و" الدول الإسلامية " و" طبقات القراء " سماه:" معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار "، تناولته منه، وأجازني روايته عنه، وكتبت أنا عليه:
عليك بهذه الطبقات فاصعد
…
إليها بالثنا إن كنت راقي
تجدها سبعةً من بعد عشر
…
كنظم الدر في حسن اتساقي
تجلي عنك ظلمة كل جهل
…
به أضحى مقالك في وثاق
فنور الشمس أحسن ما تراه
…
إذا ما لاح في السبع الطباق
و" طبقات الحفاظ " مجلدان، " ميزان الاعتدال في الرجال " في ثلاث أسفار، كتاب " المشتبه في الأسماء والأنساب "، " نبأ الدجال " مجلد، " تذهيب التهذيب "، " اختصار تهذيب الكمال " للحافظ شيخنا المزي، اختصار كتاب " الأطراف " أيضاً للمزي، " الكاشف "، " اختصار التذهيب "، " اختصار السنن الكبير " للبيهقي، تنقيح أحاديث " التعليق " لابن الجوزي، " المستحلى في اختصار المحلى "، المقتنى في الكنى "، " المغني في الضعفاء "، " العبر في خبر من غبر "، مجلدان، " اختصار المستدرك " للحاكم، " اختصار ابن عساكر " في عشرة أسفار، " اختصار تاريخ الخطيب " مجلدان، وملكتهما بخطه، " اختصار تاريخ نيسابور " مجلد، " الكبائر " جزءان، " تحريم الأدبار " جزءان، " أخبار السد "، " أحاديث مختصر ابن الحاجب " ملكته بخطه، " توقيف أهل التوفيق على مناقب الصديق "، " نعم السمر في سيرة عمر "، " التبيان في مناقب عثمان "، " فتح المطالب في أخبار علي بن أبي طالب "، قرأتهعليه كاملاً، " معجم أشياخه "، وهم ألف وثلاث مئة شيخ، وملكته بخطه، " اختصار كتاب الجهاد " لبهاء الدين بن عساكر، " ما بعد الموت " مجلد، " اختصار كتاب القدر " للبيهقي ثلاث مجلدات، " هالة البدر في عدد
أهل بدر "، " اختصار تقويم البلدان " لصاحب حماة، " نفض الجعبة في أخبار شعبة "، " قض نهارك في أخبار ابن المبارك "، " أخبار أبي مسلم الخراساني "، وله في تراجم الأعيان في كل واحد مصنف قائم الذات مثل الأئمة الأربعة، ومن جرى مجراهم، ولكنه أدخل الكل في " النبلاء "، ومن تكلم فيه، وهو موثق كتبته من خطه، وقرأته عليه، و" الثلاثين البلدية " كتبتها من خطه، وقرأتها عليه.
وكتب بخطه من الأجزاء شيئاً كثيراً، وملكت منها جملة.
أنشدني من لفظه لنفسه، وجود ما شاء:
إذا قرأ الحديث علي شخص
…
وأخلى موضعاً لوفاة مثلي
فما جازى بإحسان لأني
…
أريد حياته ويريد قتلي
فنظمت أنا وأنشدته:
خليلك ما له في ذا مراد
…
فدم كالشمس في عليا محل
وحظي أن تعيش مدى الليالي
…
وأنك لا تمل وأنت تملي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تولى شبابي كأن لم يكن
…
وأقبل شيب علينا تولى
ومن عاين المنحنى والنقا
…
فما بعد هذين إلا المصلى
قلت: الشيخ رحمه الله تعالى أخذ هذا من قول الأول:
ألا يا سارياً في بطن قفر
…
ليقطع في الفلا وعراً وسهلا
قطعت نقا المشيب وبنت عنه
…
وما بعد النقا إلا المصلى
قلت: ولكن شيخنا العلامة رحمه الله تعالى زاد عليه المنحنى، وهي زيادة مليحة، زيادة من له ذوق، ولو كان لي في قوله حكم لقلت:" ومن وصل المنحنى والنقا " وهو أحسن، وكذا في قول الأول لكان في حكم لقلت:" ليقطع في المدى ".
وكتب شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى إلى شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ولعله آخر شعر نظمه:
تقي الدين يا قاضي الممالك
…
ومن نحن العبيد وأنت مالك
بلغت المجد في دين ودنيا
…
ونلت من العلو مدى كمالك
ففي الأحكام أقضانا علي
…
وفي الخدام مع أنس بن مالك
وكابن معين في حفظ ونقد
…
وفي الفتوى كسفيان ومالك
وفخر الدين في جدل وبحث
…
وفي النحو المبرد وابن مالك
تشفع بي أناس في فراء
…
لتكسوهم ولو من رأس مالك
لتعطى في اليمين كتاب خير
…
ولا تعطى كتابك في شمالك
ثم إنه استطرد إلى مديح ولده قاضي القضاة تاج الدين، فقال بعد ذلك:
والمذهبي إدلال الموالي
…
على المولى لحلمك واحتمالك
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لو أن سفيان على حفظه
…
في بعض همي نسي الماضي
نفسي وعرسي ثم ضرسي سعوا
…
في غربتي والشيخ والقاضي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
العلم: قال الله قال رسوله
…
إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالةً
…
بين الرسول وبين رأي فقيه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أفق يا معنى بجمع الحطام
…
ودرس الكلام ومين يصاغ
ولازم تلاوة خير الكلام
…
وجانب أناساً عن الحق زاغوا
ولا تخدعن عن صحيح الحدي
…
ث فما في محق لرأي مساغ
وما للتقي وللبحث في
…
علوم الأوائل يوماً فراغ
بلاغاً من الله فاسمع وعش
…
قنوعاً فما العيش إلا بلاغ
ولما توفي شيخنا علم الدين البرزالي - رحمه الله تعالى - تولى الشيخ شمس الدين - رحمه الله تعالى - تدريس المدرسة النفيسية وإمامتها عوضاً عنه، فكتبت له توقيعاً بذلك، وهو: " رسم بالأمر العالي لا زالت أوامره المطاعة تطلع في أفق المدارس شمسا، وتذيل بمن توليه عن المشكلات لبسا، أن يرتب المجلس السامي الشيخي الشمس في كذا وكذا، علماً بأنه علامة، وحافظ متى أطلق هذا الوصف كان علماً عليه وعلامة، ومتبحر أشبه البحر إطلاعه والدر كلامه، ومترجم رفع لمن ذكره في تاريخ الإسلام أعلامه، فالبخاري طاب أرج ثنائه عليه، ومسلم أول مؤمن بأن هذا الفن
انتهى إليه. وأبو داود يحمد آثاره في سلوك سنن السنن، والترمذي يخال أنه فداه بنور ناظره من آفات دار الفتن، والنسائي لو نسأ الله في أجله لرأى منه عجبا. وابن ماجه لو عاين ما جاء به ماج له طربا.
فليباشر ما فوض إليه مباشرة تليق بمحاسنه وتدل طالبي السواد على مظانه وأماكنه، ويبين لهم طرق الرواية. فالفقه حلة وعلم الحديث علمها وطرازها، والرواية حقيقة، ومعرفة الرجال مجازها، ويتكلم على الأسانيد، ففي بعض الطرق ظلم وظلام، ويورد ما عنده كامن الجرح والتعديل إن بعض الكلام فيه كلام، ويوضح أحوال الرواة الذين سلفوا فليس ذاك بعيب. وما لجرح بميت إيلام، ويتم بما أطلع عليه من تدليسهم فما أحسن روضةً هو فيها تمام، ويسرد تراجم من مضى من القرون التي انقضت " فكأنها وكأنهم أحلام "، ويحرص على اتصال السند بالسماع ليكون له من الورق والمدار " رصدان ضوء الصبح والإظلام ". ولا يدع لفظة يوهم إشكالها، " فالشمس تمحو حندس الأوهام ".
حتى يقول الناس إن شعبةً منك شعبه، وأبا زرعة لم يترك عنده من الفضل حبه، وابن حزم ترك الحزم وما تنبه، وابن عساكر توجس منك رغبه، وابن الجوزي عدم لبه وأكل الحسد قلبه. ولا تغفل عن إلزام الطلبة بالتكرار على المتون الصحيحة دون السقيمة فيما يستوي الطيب والخبيث. وذكرهم بقوله عليه الصلاة والسلام: "
من حفظ على أمتي أربعين حديثاً "، وإن كان الحفظ بمعنى الجمع فالعمل بظاهر الحديث، فأنت ذو الصفات التي اشتهرت، والفضائل التي بهرت، والدربة التي اقتدرت على هذا الفن ومهرت، والفوائد التي ملأت الأمصار وظهرت، والحجج التي غلبت الخصوم وقهرت.
لم تضع وقتاً من زمانك إما أن تسمع أو تلقي أو تنتقي، وإما أن تجتهد في نصرة مذهب الشافعي حتى كأنك البيهقي، وإما أن يصنف ما يود بقي بن مخلد لو عاش له وبقي.
وأنت أدرى بشروط الواقف رحمه الله تعالى، فارعها وابتع أصلها وفرعها، وأهد الدعاء له عقيب الميعاد، وأشركه مع المسلمين في ذلك فآثار الرحمة تلمع على هذا السواد، واذكر من تقدمك فيها بخير ففضله الباهر كان مشهورا، واسأل له من الله الجنة ليسرك يوم القيامة أن تراه علماً منشورا.
والوصايا كثيرة، ومثلك لا ينبه، ولا يقاس بغيره ولا يشبه، وملاك الأمور تقوى الله تعالى، وقد سلكت منها المحجه، وملكت بها الحجة، فلا تعطل منها جيدك الحالي، وارو ما عندك فيها فسندك فيها عالي، والله يمدك بالإعانة، ويوفقك للإنابة والإبانة، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.