الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمسك في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وجاء عوضه الأمير علم الدين الجاولي.
قطلوبغا
الأمير الكبير الداهية الشجاع المقدام سيف الدين الساقي الناصري المعروف بالفخري.
رجل لا يهاب الموت، ولا يعبأ بالفوت، أسد يصول بمخلب من صارمه، ويربض في غاب من ذوابله التي ينصلها من عزائمه، دبر الحروب، وثبت في موقف تهرب منه الخطوب، كحل عيون النجوم بمراود الرماح، وضوأ الدجى الحالك بصباح الصفاح، ونور العجاج فكان كالإثمد والنجوم فيه مثل العيون الرمد، ومزقه بالبيض المرهفات لما نسجت ملاءته المطهمة الجرد:
ينم على فتكاته زهر القنا
…
كذاك حديث الزهر يحلو إذا نما
ويحلو مع الخطي من كلف به
…
ويحسبه قداً فيوسعه ضماً
وكان الناس يظنون به أنه فارس صيد، لا فارس حرب وكيد، وأنه حامل راية كاس، لا حامل راية القنا الدعاس، إلى أن قام في ناصر أحمد الناصر، وشهدت له بالفروسية والثبات الأواصر، وظهر عن تدبير ساعدته عليه المقادير، وثبت في وقت اللقاء ثبات الأنجاد المغاوير، وثبت للقاء جيش الشام بمجموعه، ورزقه الله النصر من أول طلوعه، وكان هو في دون الألفي فارس، وخصمه في أكثر من عشرين ألفاً،
إلا أنهم في عداد الأطلال الدوارس، وكان يوماً عظيماً في النصر، ومشهداً تفوت عجائبه العد والحصر، وسار ألطنبغا في بيداء سملق، وسار الفخري ونزل القصر الأبلق.
ولكن قلبت هذه السعادة إلى تعاسه، فصلت عن جسده راسه، وقطعت من الحياة أمراسه، وقتل صبرا، وألقي على الأرض شلواً لا يودع قبرا، فسبحان من بيده تصاريف الأمور، وبأمره الحبور إلى الثبور.
وكانت قتلته بظاهر الكرك في أول المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
كان من أكبر مماليك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون من رفعة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، ولم يكن لأحد من الخاصكية ولا من غيرهم إدلاله على السلطان، ولا فيهم من يكلمه بكلامه ويرد عليه الأجوبة الحادة المرة وهو يحتمله.
وقد تقدم شيء من ذكره في ترجمة أخيه الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر.
لم يزل عند السلطان أثيراً عالي المكانة إلى أن أمسكه في نوبة إخراج أرغون النائب إلى حلب في سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وكان الفخري ممن يكره الأمير سيف الدين تنكز ويحط عليه، وهو الذي ساعد الأمير حسين بن جندر عليه، يقال: إنه توجه مرة إلى بابه، وأقام - فيما قيل - من
بكرة إلى الظهر حتى أذن له في الدخول، ولما أخرجه السلطان معه إلى الشام في شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وسبع مئة شد الشلو في وسطه، وكان يركب في خدمته ويترجل قبل نزوله ويمشي في ركابه بالخف من غير سرموزة، ويحصل الصيد بين يديه، ويطعم طيوره، ولم يزل يدخل في قلبه بالخدمة إلى أن أحبه ومال إليه. قال تنكز مرة: والله أشتهي أن أركب مرة، وما أخرج ألتقي الفخري واقفاً ينتظرني.
قيل: إنه كان له واحد واقفاً دائماً بدار السعادة متى قدمت فرس تنكز للركوب توجه إليه وأعلمه، ويكون هو قاعداً متأهباً للركوب، فيركب ويقف ينتظره، فأحبه محبة شديدة حتى لم يبق عنده بدمشق أعز منه.
وقال تنكز عن الفخري: والله لو خدم أستاذه عشر هذه الخدمة ما كان أحد منا نال مرتبته.
كان يوماً في ضيافة الأمير صلاح الدين بن الأوحد، وقد شربوا القمز، فدخل عليهم الأمير سيف الدين أوران الحاجب وهو عند تنكز بمحل كبير، فأخذ الفخري الهياب وقام وقال: عندك يا أمير، فلم يقبله، فألح عليه، فلم يوافقه، فقال تنكز: عندي يا أمير، أنا أحق بك، والله يا أمراء ما عند أستاذنا أكبر منه ولا أعز، ولو وطأ نفسه قليلاً ما كان عند أستاذنا فينا أحد يصل إلى ركابه، وأخذ في الثناء عليه والشكر منه، ومنها، وكان الواقع، وانتحس أوران بها إلى أن مات، وكان إذا
شفع عنده ما يرده. ولم يزل إلى ترضى له السلطان. وكان بعد ذلك يحضر إليه الخيل والجوارح وغيرها من السلطان.
ولم يزل في دمشق على هذا الحال إلى أن كتب السلطان إلى الفخري في الباطن في إمساك تنكز، وقال له: يا ولدي، ما خبأتك إلا لهذا اليوم، أبصر كيف تكون، وهذا من راح معه راح بلا دنيا ولا آخرة، فاجتمع هو والأمراء بدمشق، وخرجوا إلى الأمير سيف الدين طشتمر، وأمسكوا تنكز، على ما تقدم في ترجمته، فنظر إليه تنكز والتركاش في وسطه، فقال له: يا فخري، لا إله إلا الله، وأنت الآخر بالتركاش؟! فقال: ما شد إلا في يومه. ثم إنه أقام بعده بدمشق إلى أن حضر الأمير سيف الدين بشتاك وأخذ حواصل تنكز وخزائنه، وتوجه بها.
ثم توجه الفخري إلى مصر بطلبه، وعظمه السلطان زائداً، ولم يزل في أعز مكانة إلى أن توفي السلطان الملك الناصر، فأظهر الميل إلى قوصون، وكان معه على بشتاك، وحضر إلى الشام، وحلف العساكر الشامية للمنصور أبي بكر، وذلك أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، ونزل في القصر، وخرج الناس لملتقاه، ودعوا له، وخصصوه بالدعاء دون ألطنبغا، وقدم له الأمراء بدمشق، وعاد إلى القاهرة.
ولما جرى للمنصور ما جرى وخلعوه وملكوا الأشرف علاء الدين كجك وجعلوا الأمير سيف الدين قوصون، مال الفخري إلى قوصون ميلاً عظيماً وقام بنصره، وطلب قوصون من يتوجه إلى الكرك ليحاصر أحمد، فلم يجسر أحد غير
الفخري، فخرج هو والأمير سيف الدين قماري في ألفي فارس إلى الكرك، وحصر أحمد، ووسط جماعة من أهل الكرك، وبالغ وربما أفحش في خطاب الناصر أحمد، فحقدها عليه، ثم لما بلغ الفخري أن ألطنبغا نائب دمشق توجه إلى حلب لإمساك طشتمر نائبها، وخلت دمشق من العسكر، حضر الفخري إلى دمشق وترك الكرك، وخرج أهل دمشق إليه وتلقوه ودعوا له، فدخلها ونزل على خان لاجين، واقترض من مال الأيتام مبلغ أربع مئة ألف درهم ونفق فيمن معه من العسكر، ولحق الأمير بهاء الدين أصلم - وهو على قارا - بعسكر صفد ليلحق الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى حلب، فبعث إليه الفخري ورده، وطلب الأمراء الذين تخلفوا في بر دمشق، فحضروا إليه، وأقام بخان لاجين، وكتب إلى الأمير سيف الدين طقزتمر نائب حماة، فحضر إليه وتلاحق الناس به، ولما حضر طقزتمر إليه قوي جأشه وجأش من معه.
وكان لما دخل إلى دمشق أحضر الناس وحلفهم للناصر أحمد، ودعا الناس إلى بيعته، ومال الخلق إليه، واستخدم الجند البطالة ورتب أناساً في وظائف، ووعده الناس كثيراً، وحضر إليه الأمير شمس الدين آقسنقر السلاري لما كان في غزة نائباً وأمسك الطرقات وربطها من صرخد إلى بيروت على من يحضر من مصر إلى حلب أو يحضر من حلب إلى مصر، وأمسك البريدية وأخذ ما معهم، وعمى الأخبار على قوصون وعلى ألطنبغا، وظهر بعزم كبير وحزم كثير، وساعده القدر وخدمته السعود زائداً، حتى لقد كنت أعجب منه.
وصار أمره كلما جاء قوي، وأمر ألطنبغا كلما جاء انحل وضعف، وترددت الرسل بينه وبين ألطنبغا، وطال الأمر بينهما، ولم يزالا كذلك إلى أن وصل ألطنبغا من
حلب ونزل القطيفة، وأقام بها ثلاثة أيام، وجبن عن لقاء الفخري ومعه عسكر دمشق وعسكر حلب وعسكر طرابلس في عدة تسعة عشر ألف فارس أو أكثر، وضعفت نفوس الذين مع الفخري؛ لأنهم دون الثلاثة آلاف بمن معهم من رجالة الجبلية من أهل البقاع وبعلبك، وترددت القضاة بينهما، ومال الفخري إلى الصلح وقال: أرجع عنك بشرط أن توفي عني مال الأيتام؛ لأنني أنفقت على من معي من العسكر، ولا تقطع من رتبته في وظيفة. فتوقف ألطنبغا، وطال التردد بينهما، والعسكران في المصاف، وهلك من مع ألطنبغا من الجوع؛ لأن عسكر الفخري حال بينهم وبين دمشق، وسيب المياه على المرج، فحال بينه وبين حريمه، وبين العسكر وبين دمشق، ولو نزل ألطنبغا ولم يقف بالقطيفة داس الفخري ومن معه دوساً، ولو وافق الفخري على ما أراد ودخل إلى دمشق دخلها وملكها وبقي على حاله نائباً، وكان الفخري يكون ضيفاً عنده تحت أوامره ونواهيه، ولكن إذا أراد الله أمراً بلغه، فلم يكن ذلك النهار إلا بمقدار الثالثة من النهار حتى مال العسكر الشامي بمجموعه إلى الفخري، وحركوا طبلخاناتهم وتحيزوا إلى الفخري، وتركوا ألطنبغا وحده على ما مر في ترجمته، فهرب فيمن هرب معه من الأمراء، ودخل الفخري بعساكره إلى دمشق، وملكها ونزل القصر الأبلق، وأخذ في تحليف العساكر للسلطان الملك الناصر أحمد، وجهز إليه ليحضر إلى دمشق، فقال: جهز لي الأمراء الكبار الذين عندك. فتوجه إليه الأمير سيف الدين طقزتمر، والأمير بهاء الدين أصلم، والأمير سيف الدين قماري، وعلم الدين سليمان بن مهنا، فتوجهوا إلى الكرك، وعادوا ولم يحضر معهم، ووعده بأنه إذا حضر طشتمر نائب حلب حضرت، فأخذ الفخري في العمل على