الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك نظماً ونثراً مطولاً، وكتبت أنا جوابه نظماً ونثراً مطولاً، وهما في الجزء الرابع والثلاثين من التذكرة التي لي.
قرا أرسلان
الأمير الكبير بهاء الدين المنصوري، أحد الأمراء المقدمين الكبار بدمشق، كان مليح الصورة، تام الخلق، سميناً، شجاعاً.
لما هرب الأمير سيف الدين قبجق إلى بلاد التتار أمر هو ونهى، وحج بالناس.
توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة، ودفن بمقابر باب توما، في يوم الأربعاء مستهل جمادى الأولى من السنة المذكورة.
قرا سنقر
الأمير الكبير شمس الدين أبو محمد الجوكندار المنصوري، من كبار الأمراء وأجل مماليك البيت المنصوري، اشتراه الملك المنصور في زمان الإمرة قبل أن تطير سمعته ويظهر اسمه.
وكان من رجالات العالم ودهاتهم، وممن إذا قصده عداه وقف كالشجى في لهاتهم، كثير العزم، كبير الحزم، لا يثق بمن يداهنه أو يداهيه، ولا يصبر لمن يظاهره أو يضاهيه، قد حلب الدهر أشطره، وعلم المخزية من الأمور والمأثرة:
يروعه السرار بكل شيء
…
مخافة أن يكون به السرار
عاداه جماعة من الأكابر وربطوا عليه المخالص والمضائق والمعابر، ولم يظفرهم الله تعالى منه بمقصود.
ولم يزل زرعه قائماً غير محصود، ودفن من أعاديه جمله، وفرق بمكائده من حزبهم شمله، بطرق خفية المسارب، دقيقة المسالك بعيدة المرامي والمضارب.
ترك المال والوطن والولد، ونزع من عنقه مأنة الصبر والجلد، وألقى حمل الاحتمال عن الكبد، ولم يرض أن يكون ثالث الأذلين العير والوتد، وأخذ في النجا بسنة النبي عليه السلام فنجا برأس طمرة ولجام، ودخل بلاد التتار، وخلى من تطلبه كما يقال على برد الديار، فأخذ البريد بسببه في قعقعة لجمه والبر يضيق عن الجيش وحجمه، والقصاد تروح وتغدو ناكصةً على أعقابها، والفداوية تفد عليه ولكن يدوس على رقابها:
إلى كم ترد الرسل عما أتوا له
…
كأنهم فيما سمعت ملام
لهم عنك بالبيض الخفاف تفرق
…
وحولك بالكتب اللطاف زحام
وكادت خزائن مصر فيه يسكنها الغراب الأبقع، وبلد مصياف تعود وهي خراب بلقع، هذا والسلطان لا يني عزمه، ولا يثنى حزمه، بل البريد في أثر البريد، والقاصد في عقد القاصد فيما يريد، وغلب سعادة مثل الملك الناصر في احترازه وتوقيه
ورد سهامه بتزفعة عنها وترقيه، إلى أن مات حتف أنفه من غير نجاح، أمر، وكاد يقول: بيدي لا بيد عمرو:
وإن أسلم فما أبقى ولكن
…
سلمت من الحمام إلى الحمام
وتوفي رحمه الله تعالى في مراغة في شوال سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
كان الأمير شمس الدين قراسنقر لما اشتراه المنصور وهو أمير جعله أوشاقياً، ثم إنه ترقى وعرف عنده من صغره بحسن التأني في الأمور والتحيل لبلوغ الغرض. وهو من أقران طرنطاي وكتبغا والشجاعي وتلك الطبقة، وكان أسعد منهم، لأنه عاصرهم وقاسمهم سعادة أيامهم، وعمر بعدها العمر الطويل متنقلاً في النيابات الكبار، فأناس كثيرون يعتقدون أنه من قارا النبك، وليس بصحيح، بل هم جهاركس استنابه الملك المنصور في حلب، وتتبعه طرنطاي ونصب له الحبائل، وسلط الحلبيين عليه فشكوا منه، وأخذ يحسن للمنصور عزله، ولم يزل يعبث به إلى أن أمره بالكشف عليه، فأتى حلب بنفسه وكشف عليه، ولم يظفر منه بمراد.
ثم إن الوزير ابن السلعوس أغرى به الأشرف وفطن له قراسنقر، فلم يزل يتلافى أمر نفسه ويرفع حاله بنفائس الأموال وكرائم الذخائر إلى أن سكن غيظ الأشرف عنه واستمر به.
ثم إن ابن السلعوس لم ينم عنه حتى عزله من حلب وولى الطباخي عوضه، ونقل قراسنقر إلى أمراء مصر وتقرب إلى الأشرف وخواصه بكل نفيس، إلى أن ندم
الأشرف على عزله، فقال له: حلب الآن انفصل أمرها، ولكن سل حاجتك، فقبل الأرض وقال: نظرة من وجه السلطان أحب إلي من حلب وما فيها، ولكن أسأل أن أكون أمير جاندار، لأنني أرى وجه مولانا السلطان، وإذا جاء ذاك الرجل أقول له يتصدق مولانا ويقعد، فإن السلطان في هذا الوقت مشغول، يعني بذاك الرجل الوزير ابن السلعوس، فضحك السلطان ومزح معه في هذا، وقال له: هذا بس، قال: يا خوند يكفيني، وهذا ما هو قليل. واستمر أمير جاندار، وحجب ابن السلعوس مرات من الدخول إلى السلطان، وابن السلعوس يتلظى عليه، وقراسنقر يعمل مع الأمراء الأشرفية عليه إلى أن فعلوا تلك الفعلة.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي أينبك مملوك بيسري قال: خرجنا مع الأشرف إلى جهة تروجة، فقدم للسلطان لبن ورقاق، وهو سائر، فنزل يأكل، وكان أستاذي بيسري ولاجين قراسنقر قد نزلوا جملة على جانب الطريق، فبعث الأشرف إليهم بقصعة من ذلك اللبن وقد سمها، فقال بيسري: فؤادي يمغسني، ما أقدر آكل لبناً على الريق، فقال: لاجين: أنا صائم، فقال قراسنقر: دس الله هذا اللبن في كذا وكذا ممن بعثه، نحن نأكله؟ ثم أخذ منه، وأطعم كلباً كان هناك، فمات لوقته فقال: أبصروا أيش كان، يريد يزقمنا.
ثم قاموا على كلمة واحدة واتفاق واحد في نجاز ما كانوا بنوا عليه، إلى أن كان ما كان، ولم يباشر قراسنقر قتله، ولما قتل نزل إليه ونزع خاتمه من يده وأخذ حياصته بيده، وفعل به ما تقتضيه شماته المشتفي، ثم إنه اختفى هو ولاجين في
بيت كتبغا، وكان ينادي عليهما ويتطلبهما وهما عنده. ولما تسلطن كتبغا أخرجهما وأمرهما، وعظم شأنهما.
ثم إن قراسنقر ناب للاجين لما تسلطن نيابةً عامة، وأورد الأمور وأصدرها برأيه، فعز على منكوتمر، ولم يزل به حتى أمسكه واعتقله في نصف ذي القعدة سنة ست وتسعين وست مئة، ومعه جماعة من الأمراء. وعمل منكوتمر النيابة عوض قراسنقر، وتحدث القاضي شرف الدين بن فضل الله معه في أمره، فقال له: يا شرف الدين، أنا أمسكه، ووالله ما أؤذيه، فقال له: يا خوند، أروح إليه وأعرفه هذا، فقال: روح إليه، فلما عرف قراسنقر ذلك بكى وقال: والله ما كنت أموت وأعيش إلا عليه، فعاد إلى لاجين وعرفه ذلك، فقال: يا شرف الدين هات المصحف، فحلف عليه أنه ما يؤذيه، ولا يمكن أحداً من أذيته، فعاد إليه وعرفه ذلك، فقال: يا شرف الدين، الآن طاب الحبس.
ولما قتل لاجين، وجلس السلطان الملك الناصر في المرة الثانية أطلقه وأعطاه الصبيبة، فبقي فيها مديدة، ونقل إلى نيابة حماة بعد العادل.
ولما مات الطباخي في حلب نقل قراسنقر إلى نيابة حلب، وأعطيت حماة لقبجق.
ولم يزل قراسنقر في حماة نائباً إلى أن حضر السلطان الملك الناصر محمد من الكرك إلى دمشق في شهر رمضان سنة تسع وسبع مئة، فحضر إليه، وركب السلطان وتلقاه
وترجل له وعانقه وقبل صدره، والتقيا بالميدان الكبير، وبه استتم أمره واستبب له الملك.
وكان ابنه ناصر الدين محمد هو الذي استمال أباه قراسنقر، فشعر بذلك المظفر، فيقال: إنه سمه. وأخذ قراسنقر في تدبير الملك والسلطان تبع فيما يراه، ووعده بكفالة الممالك والنيابة العامة بمصر. ولما وصل إلى مصر وجلس على تخت الملك قال له: الشام بعيد عني وما يضبطه غيرك، فأخرجه لنيابة دمشق وقال له: هذا الجاشنكير خارج إلى صهيون، فأمسكه واحضر به لنتفق على المصلحة، فاجتهد على إمساكه، ولما وصل إلى الصالحية أتاه أسندمر كرجي، فأخذه منه وأعاده إلى الشام، ووصل إلى دمشق ودخلها يوم الاثنين خامس عشري القعدة سنة تسع وسبع مئة، ونزل بالقصر الأبلق وقد نفض يده من طاعة السلطان، غير أنه حمل الأمر على ظاهره ولم يفسد السلطان بكشف باطنه، وأقام بدمشق على أوفاز، فما حل بها أحمالاً، ولا خزن غلة، ولا تقيد فيها بشيء، وأخذ أمره فيها بالحزم، فجعل له مماليك بطفس، ومماليك بالصنمين، وعيناً ببيسان، وإذا وصل من مصر أحد بطقوا إليه من بيسان، وإذا وصل الواصل إلى طفس تلقاه نواب قراسنقر ومماليكه، وقدموا له ما يأكل وما يشرب، وإذا أتى إلى الصنمين فعلوا به كذلك، ويشغلونه بالأكل والشرب والتكبيس إلى أن يبلغ الخبر قراسنقر وخيله وهجنه كلها محصلة لما يريد يفعله، وإذا ركب من الصنمين ركب معه من مماليك قراسنقر من
يوصله إلى قراسنقر بجميع من معه من مماليك وأتباع وسواقين حتى لا ينفرد أحد، ويكون معه ملطفات أو كتب أو مشافهات، فيتوجه بها، ثم إن قراسنقر ينزل الذي حضر من مصر هو وكل من معه عنده، ولا يدعه يجد محيصاً. فلما أتاه الأمير سيف الدين أرغون الدوادار وأنزله عنده ولم يمكنه من الخروج خطوة واحدة، وأنزل مماليكه عند مماليكه، وكان عنده كأنه تحت الترسيم، وفتح أجربتهم، وفتق نمازنيات سروجهم، فوجد فيها الملطفات بإمساكه، فأعادها إلى مكانها، وطاوله إلى أن نجز حاله، وهو لا يظهر شيئاً مما فهم منه، وغالطه بالبسط والانشراح.
قال الصاحب عز الدين بن القلانسي: أتيت إلى قراسنقر، وهو يأنس بي، وقلت له: ما هذا الذي أسمعه؟ فقال: اصبر حتى أفرجك، ثم قال لأرغون: بأي شيء غويتم أنتم؟ فإن نحن كنا في بيت المنصور غاوين بالعلاج والصراع، وحدثه في مثل هذا، فقال أرغون: ونحن هكذا، فقال: أيش تعمل؟ قال: أصارع، فأحضر قراسنقر مصارعين تصارعوا قدامه، ولم يزل به حتى قام أرغون وصارع قدامه فبقي قراسنقر يتطلع إلي ويقول: يا مولانا، أبصر من جاء يمسكني. انتهى.
وفهم بيبرس العلائي الحال من غير أن يقال له، فركب على سبيل الاحتياط على أنه يمسكه، فبعث يقول له: إن كان جاءك مرسوم خلني، وإلا أنا أركب وأقاتل، إما أنتصر، أو أقتل، أو أهرب ويكون عذري قائماً عند أستاذي، وأبعث أقول له: أنت الذي هربتني، فتخيل بيبرس العلائي وراح إلى بيته.
وكانت نيابة حلب قد خلت، وقد بعث السلطان مع أرغون تقليداً وفيه اسم النائب خالياً، وقال له: تصرف في هذه النيابة، وعينها لمن تختاره، فهي لك إن اشتهيت تأخذها، وإن أردتها لغيرك فهي له. وكان في تلك المدة كلها يبعث قراسنقر إلى السلطان ويقول: يا خوند، أنا قد ثقل جناحي، في حلب بكثرة علائقي بها وعلائقي مماليكي، ولو تصدق السلطان بها علي رحت إليها.
فلما كان من بيبرس العلائي ما كان قال لأرغون: أنا قد استخرت الله - تعالى -، وأنا رائح إلى حلب، ثم قام وركب ملبساً تحت الثياب من وقته، وركب مماليكه معه، وخرج في يوم الأحد ثالث المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة إلى حلب، وأرغون معه إلى جانبه وما يفارقه، والمماليك حولهما لا يمكنون الأمراء من الدخول إليه ولا التسليم عليه، وخرج - كما يقال - على حمية إلى حلب في يوم الأحد ثالث المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وأقام بحلب وهو على خوف شديد. ثم إنه طلب دستوراً للحج.
فلما كان بزيزاء أتته رسل السلطان تأمره بأن يأتي الكرك ليأخذ منها ما أعده السلطان له هناك من الإقامات، فزاد تخيله، وكثر تردد الرسل عليه في هذا، فعظم توهمه، وركب لوقته وقال: أنا ما بقيت أحج، ورمى هو وجماعته ما لا يحصى من الزاد، وأخذ مشرقاً يقطع عرض السماوة حتى أتى مهنا بن عيسى ونزل عليه واستجار به. وأتى حلب فوقف بظاهرها حتى أخرجت مماليكه ما كان لهم في حلب، مما أمكنهم حمله بعدما مانعه الأمير شهاب الدين قرطاي من ذلك، فإنه ركب في الجيش، ولكنه لم يقدر على مدافعة مهنا.
ولم يزل يكاتب الأفرم والزردكاش، ومهنا يستعطف لهم خاطر السلطان على أن
يعطي الأفرم الرحبة، والزردكاش بهسنى، وقراسنقر البيرة، والسلطان يقول: بل الصبيبة، وعجلون، والصلت. فهموا بالمقام مع العرب، وعملوا على هذا، وتهيؤوا لإزاحة العذر فيه، فلما طالت المدة ضاقت أعطانهم وأعطان مماليكهم أكثر؛ لأنه ما يلائم العرب صحبة الأتراك وقشف البادية وخشونة عيشها، وشرعوا في الهرب فخاف قراسنقر من الوحدة، فقال لمهنا في هذا، فقال: أنا كنت أريد الحديث معك في هذا، ولكن خشيت أن تظن بي أنني استثقلت بكم، لا والله، ولكن أنتم ما تضمكم إلا الحاضرة والمدن، وهذا قد تخبث لكم، وأنتم قد تخبثتم له، وما بقي إلا ملك الشرق - يعني خربندا - وهو كما أسمع ملك كريم محسن إلى من يجيئه ويقصده، فدعوني أكتب إليه بسببكم. فوافقوه على هذا، فكتب لهم، فعاد جواب خربندا بأن يجهزهم إليه ويعدهم بالإحسان، فتوجهوا إليه، فوجدوا منه ما أنساهم مصيبتهم، وسلاهم عن بلادهم، وكان وصولهم إلى ماردين في أواخر شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فتلقاهم صاحبها، وحمل إليهم بأمر خربندا ستين ألف درهم وفي كل يوم مئة مكوك شعيراً وخمسين رأساً من الغنم، وأقاموا عنده في بستان مدة تسعة أيام، وتوجهوا إلى خربندا.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي شيخنا شمس الدين محمود الأصفهاني قال: لما جاؤوا أمر السلطان خربندا للوزير أن يبصر كم كان لكل واحد منهم من مبلغ الإقطاع ليعطيهم نظيره، فأعطاهم على هذا الحكم، فأعطى قراسنقر مراغة، وأعطى الأفرم همذان، وأعطى الزردكاش نهاوند، وتفقدهم بالإنعامات حتى غمرهم.
وقال: لقد كنت حاضراً يوم وصولهم، واختبرهم في الحديث، وقال عن قراسنقر: هذا أرجحهم عقلاً؛ لأنه قال لكل واحد منهم: أيش تريد، فقال شيئاً،
فقال قراسنقر: ما أريد إلا امرأة كبيرة القدر أتزوجها، فقال: هذا كلام من يعرفنا أنه ما جاء إلا مستوطناً عندنا، وأنه ما بقي له عودة إلى بلاده، فعظم عنده بهذا، وأجلسه فوق الأفرم، وسنى له العطايا أكثر منه، وزوجه ابنه قطلوشاه، وسماه آقسنقر؛ لأن المغل يكرهون السواد، ويتشاءمون به.
قال القاضي شهاب الدين: وكان خربندا وابنه بوسعيد يحضران قراسنقر في الألطاع والأرغو معهما دون الأفرم، وهما من مواضع المشورة والحكم. وامتد عمر قراسنقر بعد الأفرم، ووقع الفداوية عليه مرات ولم يقدر الله - تعالى - أنهم ينالون منه شيئاً، وما قدروا عليه إلا مرة وهو بباب الكرباس منزل القان، فإنهم وثبوا عليه وهو بين أمراء المغل، فخدش في ساقه خدشاً، وتكاثر مماليكه والمغل على الواقع فقطعوه، ولم يتأثر قراسنقر لذلك. انتهى.
قلت: يقال: إن الذي هلك بسببه من الفداوية ثمانون رجلاً. حكى لي مجد الدين السلامي الخواجا قال: كنا يوم عيد بالأردو، وجوبان وولده دمشق خواجا إلى جانبه، وقراسنقر جالس إلى جانبه وهو قاعد فوق أطراف قماش دمشق خواجا، فوقع الفداوي عليه، فرأى دمشق خواجا السكين في الهواء وهي نازلة، فقام هارباً، فبسبب قيامه لما قام مسرعاً تعلق بقماشه تحت قراسنقر، فدفع قراسنقر ليخلص، فخرج قراسنقر من موضعه، وراحت الضربة في الهواء ضائعة، ووقع مماليك قراسنقر على الفداوي فقطعوه قطعاً، والتفت إلي قراسنقر وقال: هذا كله منك، وما كان هذا الفداوي إلا عندك مخبوءاً؛ وأخذ في هذا وأمثاله، ونهض إلى القان بوسعيد وشكا إليه، ودخلت أنا وجوبان خلفه، فقال للسلطان بوسعيد: يا خوند،
إلى متى هذا؟ بالله اقتلني حتى أستريح، والله زاد الأمر وطال، وأنا فقد التجأت إليكم، ورميت نفسي عليكم واستجرت بكم، والعصفور يستند إلى غصن شوك يقيه الحر والبرد. فانزعج بوسعيد لهذا الكلام، وقال لي بغيظ: إلى متى هذا وأنت عندنا والفداوية تخبؤهم عندك لهذا؟ فقلت: وحياة رأس القان ما كان عندي، وإنما حضر أمس مع فلان، لكن هذا أخوك السلطان الملك الناصر قد قال غير مرة: إن هذا مملوكي ومملوك أخي ومملوك أبي، وقد قتل أخي، وما أرجع عن ثأر أخي ولو أنفقت خزائن مصر على قتل هذا وهذا دخل إليكم قبل الصلح بيننا، وهو مستثنى من الصلح، فعند ذلك قال جوبان: هذا حقه، نحن ما ندخل بينه وبين مملوكه قاتل أخيه؛ وخرج فانفصلت القضية.
وحكى لي علاء الدين بن العديل القاصد قال: توجهنا مرة ومعنا أربعة من الفداوية لقراسنقر، فلما قاربنا مراغة وبقي بيننا وبينها يوم أو يومان ونحن في قفل تجار والفداوية مستورون أحدهم جمال والآخر عكام والآخر مشاعلي والآخر رفيق، فما نشعر إلا والألجية قد وردوا علينا، فتقدموا إلى أولئك الأربعة وأمسكوهم واحداً واحداً من غير أن يتعرضوا إلى أحد غيرهم من القفل، وتوجهوا بهم إلى قراسنقر فقتلهم، وكذلك فعل بغيرهم.
قلت: والظاهر أنه كانت له عيون تطالعه بالأخبار، وتعرفه المستجدات من دمشق ومن مصر، فإنه كان في هذه البلاد نائباً، وقد جهز جماعة من الفداوية، ويعرف قواعد هذه البلاد وما هي عليه، وما كان يغفل عن أمر الفداوية، وإ، هـ ما كان يؤتى عليه إلا منهم.
قال القاضي شهاب الدين: ومات في عزه وجاهه معظماً بين المغل كأنه ما ربي إلا فيهم، ويقال: إنه ملك ثماني مئة مملوك، وعندي أنه لم يبلغ هذه العدة، وإنما كان عنده مماليك كثيرة، وحصل أموالاً جمة، وكان يعطي لمماليكه الأموال الكثيرة، وجماعته من الخيول المسومة والسروج الزرخونا والحوائص الذهب والكلاوت والطرز الزركش والأطلس والسمور والقماقم وغير ذلك من كل شيء فاخر. وتأمر في حياته بنوه الأمير ناصر الدين محمد تقدمة ألف، والأمير علاء الدين على إمرة أربعين، وفرج بعشرة. وتأمر له عدة مماليك مثل بيخان ومغلطاي وبلبان جركس بطلبخاناه، وبهادر وعبدون بعشرات.
قال شهاب الدين بن الصنيعة النقيب: لما جاءت العساكر الحلبية مع قراسنقر إلى دمشق سنة تسع وسبع مئة كان ثلث الجيش يحمل رنك قراسنقر؛ لأنهم أولاده وأتباعه ومماليكهم وأتباعهم. وكان في حلب، والأمراء الحكام في مصر مثل سلار والجاشنكير وغيرهما يخافونه ويدارونه ولا يخالفون أمره، وكان مع العظمة الكبيرة يداري بماله ويصانع حواشي السلطان حتى الكتاب والغلمان، فيقال له في ذلك، فيقول: ما يعرف الإنسان كيف تدور الدوائر، وواحد من هؤلاء يجيء له وقت يلقح كلمةً تعمر ألف بيت وتخرب ألف بيت.
وكان يرى أخذ الأموال ولا يرى إهراق الدماء، فحقن الله دمه وأذهب ماله.
قال القاضي شهاب الدين: حكى الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري
الصوفي قال: كان ابن عبود إذا عمل المولد الشريف النبوي حضر إليه الأمراء وسائر المماليك والناس، فعمل المولد مرة في سنة من السنين، فحضره قراسنقر، وكان في المولد رجل شريف صالح مغربي يعرف بالمراكشي، فلما مدت الأسمطة قام قراسنقر وخلع سيفه وشمر ومد السماط المختص بالفقراء وقدم بيده الطعام، وشرع يقطع المشوي لهم، ولا يدع أحداً يتولى خدمتهم سواه، فقال المراكشي: من هذا؟ فقالوا له: هذا الأمير شمس الدين قراسنقر، أمير كبير صفته نعته، ومكانته في الدولة كبيرة، فقال: لا إله إلا الله! يعيش سعيداً وينزل به في آخر عمره كائنة، ويخلص منها ويخلص بسببه غيره، ويسلم وما يموت إلا على فراشه.
وكان لا يأخذ من أحد شيئاً إلا ويقضي شغله ويفيده قدر ما أخذ منه مرات مضاعفة، وأين مثله أو من يقارب فعله؟! حكي أن شخصاً من أبناء الأمراء الكبار بحلب كان يحب صبياً اشتهر به وعرف بحبه، فاتفق أن ذلك الصبي غاب، فاتهمه أهله بدمه وشكوه إلى الوالي، فأحضره وقرره بالضرب والتعليق، فلم يصبر وقال: قتلته، فألزم به وأودع الحبس على دمه، وكان بريئاً، فتحيل في إرسال شيء. خدم به قراسنقر، فأمر أن ينظر ولا يعجل عليه، فما مضت مدة حتى جاء كتاب نائب ألبيرة يخبر بأنه قد أنكر على صبي من أبناء النعمة مع جماعة من الفقراء قصدوا الدخول إلى ماردين، وأنه رده إلى حلب ليحقق أمره، فلما جاء إذا به ذلك الصبي بعينه، وظهرت براءة المتهم وخلي سبيله، وغفل عنه قراسنقر مدة لا يذكره إلى أن مات أمير بحلب وخلف نعمة طائلة ولا وارث به، فلما أتاه وكيل بيت المال والديوان يستأذنونه في الحوطة عليه، فقال: هذا مال