الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد تقدم ذكرهما في مكانيهما، وكانوا قد سمعوا على الشيخ كمال الدين بن النصيبي " الشمائل " للترمذي في سنة ثمان وثمانين وست مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - تاسع عشر شوال سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربتهم.
محمد بن عبد الرحمن بن عمر
الشيخ الإمام العلامة، ذو الفنون، قاضي القضاة جلال الدين أبو عبد الله القزويني الشافعي الأشعري.
سمع من الشيخ عز الدين الفاروثي وطائفة. وأخذ المعقول عن شمس الدين الأيكي.
كان قاضي القضاة جلال الدين شريف الخلال، منيف الجلال، وارف الظلال، صارف الملال، طود حلم، وبحر علم، يتموج فضائل، ويتبرج براهين ودلائل، بذهن يتوقد، ويدور على قطب الصواب كالفرقد، قد ملأ الزمان جودا، وجعل أقلام الثناء عليه ركعاً وسجودا.
ولم ير قاض أشبه منه بوزير، ولا إنسان كأنه وفي أثوابه أسد يزير، يجلس إلى جانب السلطان في دار عدله، ويغدو كالشمس بين أهلة وأهله، مهما أشار به هو الذي يكون، ومهما حركه فهو الذي لا يعتريه سكون. يرمل على يد السلطان لا يفعل ذلك غيره إذا حضر، ولا يتقدم عليه سواه من أشراف ربيعة أو مضر:
فالأمر مردود إلى أمره
…
وأمره ليس له رد
جمع بين قضاء الشام والخطابة، وفاز في كل المنصبين بالإصابة، وطلب إلى قضاء الديار المصرية فسد ما فسد، وعوذته مكارمه " من شر حاسد إذا حسد "، وأقام هناك مدة ينشر ألوية علومه، ويفيض على الناس سواكب غيومه. ثم إنه عاد إلى الشام عود الغمام إلى الروض إذا ذوى، والبدر التمام إلى الأفق الذي زل نجمه وهوى، فجدد معاهد الفضل والإفضال، وعمر غابه بالليث الخادر أبي الأشبال.
ولم يزل على حاله إلى أن زال ذلك الطود، وزل وتقشع ذلك المطر الجود.
وتوفي - رحمه الله تعالى - منتصف جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. وشيع جنازته خلق عظيم، ودفن في مقابر الصوفية.
ومولده بالموصل سنة ست وستين وست مئة.
وسكن الروم مع والده وأخيه، وولي بها قضاء ناحية وله من العمر نحو ثلاثين سنة، وتفقه وناظر واشتغل، وتخرج به الأصحاب، وناب في قضاء لأخيه قاضي القضاة سنة ست وتسعين، وناب في ما أظن لقاضي القضاة نجم الدين بن صصرى في أول المحرم سنة خمس وسبع مئة. وولي خطابة الجامع الأموي مدة.
وطلبه السلطان إلى دمشق في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وشافهه بولاية قضاء الشام، ووصله بذهب كثير ولما طلبه دافع عنه تنكز، فقال: هذا عليه ديون كثيرة، وابنه نحس ما يجمل أن يكون أبوه قاضي القضاة. فقال
السلطان: أنا أوفي دينه، وولده أنا أدعه يقيم في الديار المصرية. فجهزه في نصف جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. صلى بالناس صلاة الخسوف لأن القمر خسف تلك الليلة. ثم إنه صلى الصبح يوم الخميس وسافر إلى القاهرة.
وعاد إلى دمشق في خامس شهر رجب يوم الخميس، وباشر المنصب على أتم ما يكون وصرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين وراك المدارس، واستناب الشيخ جمال الدين بن جملة والشيخ فخر الدين المصري.
ولما كان في يوم الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة وصل البريد إلى دمشق فطلبه إلى مصر وولاه السلطان قضاء الديار المصرية، وعظمه ورفع شأنه، ورأى من العز والوجاهة ما لا رآه غيره.
وكان يرمل على يد السلطان في دار العدل.
قال لي القاضي شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود، وقد كان كاتب السر بمصر، وقد خرج من يوم اثنين نهار دار عدل: اليوم أخرج قاضي القضاة جلال الدين من كمه ست عشرة قصة غير ما شفع فيه وأشار به وشكر منه، والجميع يقضيه السلطان وما يرده.
وحج مع السلطان، ورتب له ما يكفيه بزيادات، وأحسن في مصر إلى أهلها وإلى الشاميين، وكان في باب السلطان ذخراً وملجأ لمن يقصده من الشاميين يشفع له ويساعده على مقاصده، ويصله عند قدومه وعند سفره وما بين ذلك. وأحبه المصريون، وفتح لهم باب الاشتغال في الأصول. كنت يوماً عنده وقد جاء إليه محضر فيه شهود، فوقف على أسماء الشهود اسماً اسماً، والتفت وقال: من هو فلان؟ فقال أحد الواقفين: أنا يا مولانا، فقال له: ما أنت الذي كان يعمل الدوادارية لقبجق؟
قال: نعم. قال: ما هذه الحالة؟ فشكا بطالة وقلة. فقال له: اصعد إلى فوق، وأجلسه. ولما انقضى ذلك الشغل وخف المجلس ولم يبق إلا من هو به خاص أخرج كيس النفقة ونفضه فنزل منه ما يقارب المئة. فقال: خذ هذه ارتفق بها في هذا الوقت وعد إذا فرغت، ولما كان في
…
رسم له السلطان بالعود إلى دمشق قاضي القضاة كما كان أولاً، فحضر إليها وصحبه، وصحب أولاده من المجلدات النظيفة النفيسة ما يزيد على خمسة آلاف مجلد، وفرح الناس به. فأقام قليلاً وتعلل، وأصابه فالج إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور، وتأسف الناس عليه لما كان فيه من الحلم والمكارم وعدم الشر وعدم المجازاة لمن أساء إليه بالإحسان.
وكان ينتسب إلى أبي دلف العجلي وكرمه بصدق هذه الدعوى.
وكان فصيحاً بليغاً في وقت البحث والجدل، منطقياً إلا إذا علا صهوة المنبر فإنه ليس ذلك، لغلبة الحياء.
وكان مليح الصورة، حلو العبارة، كبير الذقن رسلها، موطأ الأكناف، سمحاً، جواداً حليماً، جم الفضائل، حاد الذهن، يراعي قواعد البحث. وكان يحب الأدب ويحاضر به، وله فيه ذوق كثير يستحضر نكته، ويكتب خطاً جيداً حسناً. وصنف في المعاني والبيان مصنفاً وسماه " تلخيص المفتاح " وشرحه وسماه " الإيضاح "، وقرأ عليه جماعة بمصر والشام، وكان يعظم الأرجاني الشاعر، يرى أنه من مفاخر العجم، واختار شعره وسماه " الشذر المرجاني من شعر الأرجاني ".
وعلى الجملة فكان من أفراد الزمان في مجموعه علماً وعقلاً وأخلاقاً. وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين بالقاهرة.
وكتبت أنا إليه أهنيه في الديار المصرية لما قدم من الحج سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة بقصيدة فائية وهي:
من خص ذاك البنان الغض بالترف
…
وزان ذاك القوام اللدن بالهيف
وضم في شفتيها در مبسمها
…
فراح من أحمر المرجان في صدف
وحلل الفرق فرعاً من ذوائبها
…
والبدر أحسن ما تلقاه في السدف
علقتها من بنات الترك قد غنيت
…
بدمع عاشقها عن منة الشنف
يلقى المتيم من تثقيف قامتها
…
ما لا يلاقيه كوفي من الثقفي
ومنها:
في حفظ سالفها للحسن ترجمة
…
فاقت وما اتفقت للحافظ السلفي
يا للهوى عينها عين؛ وحاجبها
…
نون وتم العنا من قدها الألفي
يا هذه إن للأشعار معجزةً
…
تبقى عن السلف الماضين للخلف
ضعي بنانك مخضوباً على جسدي ال
…
بالي ليجتمع العناب بالحشف
يا عاذلي في هوى عيني محجبة
…
خف شر ناظرها، فالسر فيه خفي
ودع فؤادي ودعه نصب ناظرها
…
لا ترم نفسك بين السهم والهدف
إني لأعجب للعذال كيف رأوا
…
شخص وقد رحت ذا روح تردد في
أليس يشغلهم طيب الثناء على
…
قاضي القضاة جلال الدين عن شغفي
ويستفزهم أفراح مقدمه
…
من حجه وهو مثل الشمس في الشرف
حج غدا حجة في الدهر ثابتة
…
إن ينكسف نورها للشمس تنكسف
كم جاب في سيره والعيس قد سئمت
…
جذب البرى والسرى في مهمه قذف
والركب من فضله أو من فضائله
…
ما بين مغترف منه ومعترف
حتى نضا الإحرام ملبسه
…
عن الهدى والندى والعلم والصلف
وراح ذا جسد قد طاب عنصره
…
عار من العار بالإحسان ملتحف
ما مس طيباً وإن كان الحجيج بما
…
أثنوا عليه غدوا في روضة أنف
وأم أم القرى ذات القرار ومن
…
يطلب رضى الله في تلك الديار كفي
وطاف بالبيت فارتاح المقام له
…
لما تمسك بالأستار والسجف
فكل ركن إذا حاذاه منكبه
…
يود لو كان عنه غير منعطف
وراح في عرفات واقفاً وله
…
عرف يسير به عرق ولم يقف
وفي منى كم أنال الطالبين منى
…
أمسوا بها عن سطا الأعداء في كنف
وجاء طيبة يقضي حق ساكنها
…
ومثل ذمته ترعى له وتفي
وزار من لم يزل في نصر ملته
…
وشرعه بالقضا يا خير معتكف
هذا الإمام الذي ترضى حكومته
…
خلاف ما قاله النحوي في الصحف
حبر متى جال في بحث وجاد فلا
…
تسأل عن البحر والهطالة الوكف
له على كل قول بات ينصره
…
وجه يصان عن التكليف بالكلف
قد دب عن ملة الإسلام ذب فتى
…
يحمي الحمى بالعوالي السمر والزعف
ومذهب السنة الغراء قام به
…
وثقف الحق من حيف ومن جنف
يأتي بكل دليل قد جلا جبلاً
…
فليس ينسفه ما مغلط النسفي
وقد شفى العي لما بات منتصراً
…
للشافعي بزعم المذهب الحنفي
تحمي دروس ابن إدريس مباحثه
…
فحبذا خلف منه عن السلف
فما رأى ابن سريج إذ يناظره
…
من خيل ميدانه فليمض أو يقف
ولو أتى مزني الوقت أغرقه
…
ولم يعد قطرةً في سحبه الذرف
وقد أقام شعار الأشعري فما
…
يشك يوماً ولا يشكو من الدنف
وليس للسيف حد يستقيم له
…
ولو تصدى له ألقاه في التلف
والكاتبي غدا في عينه سقم
…
إذ راح ينظر من طرف إليه خفي
من معشر فخرهم أبقاه شاعرهم
…
في قوله: " إنما الدنيا أبو دلف "
هو الحفي بما يوليه من كرم
…
فما جرى قلم في مدحه فحفي
لو شاء في رفعة من مجده وغلا
…
لمد نحو الثريا كف مقتطف
قد زان أيامه عدل ومعرفة
…
فسعده في دوام غير منصرف
يغدو الضعيف على الباغين منتصراً
…
ولم يكن قبله منهم بمنتصف
لو يشتكي النهر مثل الغصن عنه مع الصبا إليه رمى عطفيه بالقصف
بل لو شكى الدهر خصم من بنيه غدا
…
من خوفه بين مرتج ومرتجف
دامت مآثره اللاتي أنظمها
…
تهدي لسمع المعالي أحسن التحف
ما رسخت عذبات البان سافحةً
…
من الصبا وشفت صباً من الأسف
فكتب هو إلي قرين ما بعث به:
يا مولانا هذه الأبيات التي تفضلت بإرسالها، وأنبطت معين زلالها، ما أقول فيها إلا أنها ذهب مسبوك، أو وشي محبوك، أو ستر ظلام عن الذراري مهتوك،