الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجيش بدمشق، وكانت بيده أنظار وأوقاف وغيرها يؤدي فيها الأمانة، ويتحرى في مصروفها، وكان قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يثني عليه في ذلك، ويقول: ما رأيت في دمشق مثله.
وكان يدخله من ملكه ووقفه في كل سنة ما يقارب الأربعين ألف درهم، إلا أنه كان مبخلاً، وفي يده مسكة. ويكتب كتابة ضعيفة مرجوفة.
وقف يوم الخميس لملك الأمراء، وسأله الإعفاء من الجامكية إلا الكسوة لا غير، فتعجب ملك الأمراء منه، وخرج من عنده، فمرض يوم السبت وما جاء الخميس الآخر إلا وهو تحت التراب.
محمد بن إسماعيل
السلطان الملك الأفضل ناصر الدين ابن السلطان الملك العالم الفاضل عماد الدين المؤيد بن الأفضل علي ابن الملك المظفر ابن الملك المنصور ابن صاحب حماة تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي. ملك ابن ملك، وذو نسب في البيت الأيوبي يضيء به الليل الحالك، يعطي عطاء الملوك، ويجود بما تخجل من نفاسته الشمس في الدلوك، ويغنم من الثناء عليه بالجواهر التي تنتظم في السلوك، إلا أنه لم يكن محظوظاً في جوده، ولو سمح بما في موجوده.
كان والده رحمه الله تعالى في ذلك أسعد، وأرقى في درج الثناء وأصعد.
وكان الملك الأفضل سليم الباطن عديم الشر للنازح والقاطن، تنسك في وقت وجلس على لباد، ورفض سماع الشعر حتى نقائض الفرزدق وجرير.
وما كان يخلو من ذوق، وعنده فضيلة تزين رب التاج والطوق، كثير التأدب مع من يخاطبه، غزير التعتب على من يقاطعه أو يجانبه، كبير التألب على من يستدعيه لجوده ولا يجاوبه.
ورث السيادة كابراً عن كابر
…
كالرمح أنبوباً على أنبوب
وقل أخيراً إلى دمشق من حماه، وترك ملكه فيها وحماه، فأكمده على ذلك الحزن، وطول الغم له الرسن، وحصل له قولنج أعقب بصرع، وألحق بالأصل الفرع. وجف من حياته الضرع، وضاق من أهله وخدمه الذرع، وأفضى الأفضل إلى ما قدم من عمل، وخاب ممن كان يقصده ويرجوه الأمل، ووضع في تابوت ونقل إلى حماه، ورشف العدو من السرور لماه، فعاد من وطنه إلى غير سكن، وناح عليه حتى ناعورة أم الحسن.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق ليلة الثلاثاء حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
كان والده رحمه الله تعالى، قد سماه في حياته بالمنصور، فلما توفي والده في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة رسم له السلطان الملك الناصر محمد بمكان أبيه في حماة، وسماه بالأفضل باسم جده، ورسم السلطان للأمير سيف الدين تنكز ولسائر نواب الشام أن يجروه على عادة والده في جميع أحواله من المكاتبة وقبول الهدية وسماع الشفاعة وغير ذلك.
وطلبه إلى مصر وأقبل عليه، وكتب تقليده بحماة على عادة والده، وأفاض عليه التشاريف الفاخرة، وكان يعطي الناس ويجود عليهم، ويخدم الأكابر وهو مذموم.
وما زال في حماة مروعاً مدة حياته تارة من جهة السلطان، وتارة من جهة تنكز، وتارة من جهة العربان، يأخذون إقطاعاته، وتارة من جهة أقاربه يشكون عليه.
وكان هو في حماة قد ولاني نظر المدرسة التقوية بدمشق نيابة عنه، وزاد معلوم النظر، ولما حضر إلى دمشق توجهت إلى خدمته، فتصدق وأحسن وأجمل، وترددت إليه، وسمعت كلامه غير مرة، وما كان يخلو من استشهاد على ما يقوله بشعر مطبوع، أو مثل مشهور.
ولم يزل على حاله في حماة إلى أن تولى الأشرف كجك، فرسم له بحضوره إلى دمشق، وولي الأمير سيف الدين طقزتمر نيابة حماة، وأن يكون الأفضل بدمشق أمير مئة رأس الميسرة، وأن يطلق له من دخل حماة ألف ألف درهم ومئتا ألف في كل سنة، فوصل إليها في أوائل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، فلم يركب بها سوى مركبين، وحصل له قولنج أعقب بصرع، فتوفي في التاريخ المذكور.
ومن الغريب أن زوجته كانت قد مرضت وأشرفت على الموت، فعمل لها تابوتاً ليضعها فيه إذا توفيت، ويحملها إلى حماة، فتوفي هو قبلها، فوضعته والدته هو فيه بعينه ونقلته إلى حماة. ثم إن زوجته المذكورة توفيت عشية ذلك النهار، وتوجه ابناه
إلى مصر صحبة جدتهما، فأكرم نزلها إكراماً لقومها، وأعطي ابنه الأكبر سبعين فارساً، فمات في مصر قبل خروجهم. فسبحان من يقرب الآجال، ويقطع الآمال.
وترك الملك الأفضل - رحمه الله تعالى - عليه من الدين على ما بلغني ممن له اطلاع على حاله فوق الألفي ألف درهم.
وكان الأمير سيف الدين تنكز قد حنا عليه آخراً حنواً كثيراً، وأراد السلطان أن يعزله عن حماة فتوجه تنكز إلى مصر، وشفع فيه، ولما أمسك تنكز تعب بعده، ولزمته مغارم كثيرة، وكثرت الشكاوى عليه، وقل ناصره فتضعضعت أحواله، واختلت أموره، وكان الموت فجاءة آخر خموله - نعوذ بالله من الخمول -.
وقال شاعره وشاعر أبيه جمال الدين محمد بن نباتة يرثيه وأنشدنيها من لفظه:
تغرب عن مغنى حماة مليكها
…
وأودى بها من بعد ذاك مماته
وما مات حتى مات بعض نسائه
…
بهم وكادت أن تموت حماته
وقال فيه أيضاً قصيدة منها:
بكى الشعر أيام المنى والمنائح
…
ففي كل بيت للثنا صوت نائح
ولما ادلهمت صفحة الأفق بالأسى
…
علمنا بأن الشهب تحت الصفائح
حيا المزن أسعدني على فقد سادتي
…
بدمع كجدواهم على الخلق سافح
أبعد بني شاد وقد سكنوا الثرى
…
قريض لشاد أو سرور لفارح
أبعد ملوك العلم والباس والندى
…
تشب العلا نار القرى والقرائح
لئن أوحشوا منهم بيوت مقامهم
…
لقد أوحشوا منا بيوت المدائح
منها:
تلا فقد إسماعيل فقد محمد
…
فيا للأسى من فادح بعد فادح
وزالا فما إنسان عيني بممسك
…
بكاه ولا إنسان عيني بكادح
كأن لم يجد بعد المؤيد أفضل
…
فمن جذع بذ الجياد وقارح
كأن زناد الفضل لم يور منهما
…
سنا شيم ما فيه قول لقادح
منها:
ووالله كانوا في صفات محمد
…
إذا نحن أثنينا عليه بصالح
سلام على جنات أجداثهم ولا
…
سلام لنار الحزن بين الجوانح
وأنشدني من لفظه لنفسه الأديب علاء الدين علي بن مقاتل الحموي بحماة يرثي صاحبها الملك الأفضل ويعرض بمجيء طقزتمر لحماة نائباً بدله، وهو مملوك لأبيه:
صاحب حماة ما عطي في الدست إلهامات
…
بيدق تغرزن عقد بندو على الهامات
دارت عليه رخاخ أفيال وهامامات
…
لعب بنفسو على خيل ركبها مات
وأنشدني أيضاً:
يا أولاد الأفضل كسرتوا كسر ما لو جبر
…
فقدتم ابن المؤيد نجل ذاك الحبر
تصبروا واندبوا من قد حواه القبر
…
فآل أيوب هم أهل البلا والصبر
وأنشدني له أيضاً:
بالأمس يا أولاد الأفضل صاح صايحكم
…
على الملا بين غاديكم ورايحكم
واليوم صارت مغانيكم نوايحكم
…
وابتدلت بمراثيكم مدايحكم
وأنشدني له أيضاً:
محمد المصطفى المختار من منشاه
…
من شرف الكون في سابع سما ممشاه
أذاقه الموت من كل الورى تخشاه
…
من هو ملك مصر أو من هو ابن شاهنشاه
ولما مات والده الملك المؤيد - رحمه الله تعالى - حضر منه كتاب إلى الأمير سيف الدين تنكز يعلمه بذلك فكتبت أنا الجواب إليه: " جعله الله خير خلف، وهنأ البيت الأيوبي بما ورثه من المجد المؤثل والشرف، وسقى صوب الرحمه أصله الذي فرع دولته الطاهرة وسلف، تقبيل من صدع الهناء جبر قلبه، ومسح كف السرور غمام دمعه الذي كاد هيدبه يذهب بهديه، وينهي بعد الدعاء الذي أجيب بالقبول لإخلاصه رفعه، والولاء الذي لم يضق بالعبودية ربعه ولا ذرعه، والثناء الذي أخجل تغريد الحمام في الخمائل سجعه، أن مثاله الكريم ورد على يد فلان يتضمن ما قدره الله تعالى من وفاة المقام الشريف
العمادي الواد مولاناه قدس الله روحه الكريمه، وسقى تربةً ضمته صوب كل ديمه. فوقف للمملوك على الخبر الذي روع العباد، وغدا كل قلب كأنما يجربه على شوك القتاد، ونظر إلى النجوم كأنها خرائد سافرات في حداد، فأرسل المملوك دمعة الصب على الحبيب الذاهب، وأخذ من قسمة الأحزان بين الأنام نصيبه الواجب، وكيف لا يعم الوجود هذا المصاب، وتبين الدموع بسحها شح السحاب، وقد كورت الشمس، ولا تقول انقض الشهاب، وغيض البحر، ولا نقول انقشع الرباب ووهى عماد الملك، ولا نقول انقصمت الأطناب، وفجع بمن أثقلت أياديه الأعناق قبل أن حمل على الرقاب:
ردت صنائعه عليه حياته
…
فكأنه من نشرها منشور
وللوقت طالع المملوك العلوم الشريفة بذلك، وورد الجواب الشريف يتضمن شمول مولانا بالصدقات الشريفة، وإقامته مقام والده قدس الله روحه، فهنأ الله مولانا بهذه البشرى التي صدقت الرجا، والمسرة التي رقمت سطورها على كافور النهار بعنبر الدجى. وما أحق هذه البشرى أن تهتز لها أعطاف المنابر، وأن تنطق بحمدها ألسنة الأقلام من أفواه المحابر، وأن تعد نعمها أنامل الرايات إذا خفقت، وأن تتورد صفحات السيوف من دم الأعادي إذا امتشقت، والله يجمل الأيام بدولته الزاهره، ويجعل الأقدار على مراده ومرامه متظافره، بمنه وكرمه - إن شاء الله تعالى - ".
فعاد جوابه يتضمن أنه واصل إلى دمشق ليتوجه منها إلى الديار المصرية، فكتبت أنا الجواب إليه: "
أعز الله أنصار المقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الأفضلي، ولا زال مقامه الشريف بالتحف ملتحفا، ومجده المؤثل بأزاهر المحامد روضه أنفا، وركابه العالي إذا سار أخذت الأرض زينتها، ولبست زخرفاً تقبيلاً يكسب به ثغر الثريا شرفاً، ويغدو على شفة الهلال شفا، بعد أن كان من السقم على شفا. وينهي بعد أدعية رقمت على سرادق الإجابة أحرفا، وعبودية لم يجد الولاء عن إخلاصها مصرفا، وأثنية تنشر على الروض بروداً وتقرأ الحمائم من سجعها صحفا. ورد المثال العالي يتضمن حركة الركاب الكريم إلى الأبواب الشريفة، فكاد قلب المملوك لتلقيه يطير فرحا، ويميد عطف الزمان ومن فيه مرحا، ويكون يوم قدومه يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. فالله تعالى يجعلها حركةً مقرونةً بالسعود، موصولةً بالميامن التي بها جمال الأيام والأنام والوجود ".
وكتبت أنا إليه عن السلطان الملك الناصر محمد كتاباً ببشارة النيل عقيب وروده من الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة:
" أعز الله أنصار المقام الشريف، وجعل رسل الهنا تتوارد على مقامه تترى، وأبهجه بكل نبأ من الخصب يتحرق له البرق حسداً في قلب السحاب ويتحرى، وسره بكل خبر يتفرق به محل المحل ويتفرى، ويعمه بكل وارد يقص عليه حديثاً جعل البر بحراً وملأ البحر برا. أصدرناها إلى مقامه الكريم تجد رعي عهوده،