الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن شريف بن يوسف
الفاضل الكاتب المجيد صاحب الخط الفائق، شرف الدين ابن الوحيد الزرعي.
سافر إلى الحجاز والعراق، واجتمع بياقوت المجود.
كان تام الشكل، متأنقاً في اللبس والأكل، حسن الزه، لدن المهزه، موصوفاً بالشجاعه، وبالعبارة السادة والبراعه، يتكلم بعدة ألسن، ويأتي فيها بما يروق ويحسن، وقد ضرب بحسن كتابة المثل، وسار ذكرها في السهل والجبل، لأنها أخملت زهرات الخمائل، وفاقت على من تقدمه الأوائل، فلو رآه ابن البواب لجود تحت مثاله، وعلم أن بدر هذا فاق على هلاله، أو ابن مقلة شخص إليه إنسانه، وعلم أنه ما تلحق إجادته ولا حسانه، أو الولي التبريزي لتحقق أنه قد برز وسبقه، وأنه ما يشم ريحانه ولا محققه.
وكان قد فضح الأوائل والأواخر بفصاح نشخه، وتفرد هو بكمال الخط وترك غيره يخبط في مسخه، فما أحقه بقول البستي:
إن هز أقلامه يوماً ليعملها
…
أنساك كل كمي هز عامله
وإن أقر على رق أنامله
…
أقر بالرق كتاب الأنام له
أما أنا فلا أرى أحداً مثله كتب في المحقق والريحان وفصاح النسخ، لأنه أتى في ذلك بالإبداع. وكان في حياته يبيع المصحف نسخاً بلا تجليد ولا تذهيب بألف درهم. وكان ابن تمام قد كتب عليه وحكى طريقه، وكان يكتب المصاحف فيقول له: اكتب أنت المصحف وهاته إلي. فإذا أتى به يزن له أربع مئة درهم، ويأخذ الشيخ شرف الدين فيكتب في آخره: كتبه محمد بن الوحبد، ويبيعه هو بألف درهم.
وروى عنه البرزالي وقاضي القضاة جلال الدين القزويني.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن الوحيد في قبره وحيدا، وفقد الناس منه كاتباً فريدا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في البيمارستان المنصوري بالقاهرة في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده بدمشق سنة سبع وأربعين وست مئة.
وكان يتكلم بعدة ألسن، وكان يتهم في دينه. قيل: إنه وضع الخمر في دواته وكتب منها المصحف.
وأخوه علاء الدين مدرس البادرائية كان ممن يحط عليه ويذكره بكل سوء،
وكان قد اتصل بخدمة الجاشنكير قبل السلطنة وأعجبه خطه. فكتب له ختمة في سبعة أجزاء في ورق بغدادي قطع النصف بليقة ذهب، قلم الأشعار، دخل فيها ألف وست مئة دينار ليقة، فدخل في الختمة ستة مئة دينار وأخذ هو الباقي، فقيل له في ذلك، فقال: متى يعود آخر مثل هذا يكتب علي مثل هذه الختمة، وزمكها صندل، ورأيتها أنا وهي وقف بجامع الحاكم بالقاهرة وما أظنها يكون لها ثان من حسنها، ولما فرغت أدخله الجاشنكير ديوان الإنشاء، فما أنجب في الديوان، فكانت الكتب التي تدفع إليه ليكتبها في أشغال الناس على القصص تبيت عنده وما تتنجز، وهذا تعجيز من الله تعالى لمثل هذا الكاتب العظيم. كما يحكى عن الحريري صاحب " المقامات " وأنه بعد عمل المقامات طلب إلى ديوان الإنشاء ببغداد فأعطاه صاحب الديوان كتاباً فمكث فيه من بكرة النهار إلى الظهر وهو ينتف عثنونه، ولم يفتح الله عليه بشيء حتى قال فيه ابن حكينا:
شيخ لنا من ربيعة الغرس
…
ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وقد
…
ألجمه في العراق بالخرس
هذا وقد كان يوماً في بعض مجالس الأكابر، فجرى ذكر البستي وقوله في رجل بخيل شرير: إن لم يكن لنا طمع في درك فاعفنا من شرك شرك، فلم يبق أحد حتى استحسنها، وأقر بالعجز عن الإتيان بمثلها، فقال الحريري في الحال: وإن لم تدننا من مبارك فأبعدنا عن معارك معارك.
قلت: وما لابن الوحيد والحريري إلا قول أبي الطيب:
وتوهموا اللعب الوغى والطعن في ال
…
هيجاء غير الطعن في الميدان
ولهذا، إنه لما دخل ابن الوحيد ديوان الإنشاء بلغ القاضي شرف الدين بن فضل الله صاحب الديوان عنه كلام يفهم منه أنه ينقص به، فطلبه وقال: اقعد. أعطوه درجين قطع الثلاثين، وقال: أوصل أحدهما بالآخر وعجل، فوصلهما. فقال: اكتب وعجل إلى صاحب اليمن وهد قوائمه، وزعزع أركانه فيه، وتوعده وهدده، ثم لطف القول حتى لا ييأس، ثم عد ببعض تلك الغلطة الأولى وعرفه أن العساكر التي نجهزها إليه يكون أولها عنده وآخرها عندنا، وذكره باصطناعنا لوالده قبله، وأنه لو شئنا ما تركناه جالساً على سرير مملكته، ولكن نحن نرعى هذا البيت الأيوبي، ومن هذا وأشباهه. وعجل بكتابة هذا لأدخل وأقرأه على السلطان، فبهت شرف الدين وأسقط في يده وأرعدت فرائصه، ولم يدر ما يقول ولا ما يكتب، ثم إنه اعترف وقال: يا مولانا والله ما أنا قدر هذا، والعفو. فقال له: إذا كنت كذا فلا تكن بعدها تكثر فضولك. فاستغفر الله وخرج.
وكان الشيخ شرف الدين شيخ خطيب بعلبك وغيره ممن كتب عليه.
ونظمه فيه يبس قليل، إلا أنه كان جيد العربية، عارفاً باللغة، وله رسائل كثيرة وقصيدة لامية سماها " سرد اللام في مادة لامية العجم ".
وكان الله قد رمى بينه وبين محيي الدين البغدادي حتى عمل له ذلك المنشور المشهور الذي أقطعه فيه قائم الهرمل وأبو عروق وما أشبه هذه الأماكن.
ولقد وقفت أنا بالديار المصرية على كتاب " خواص الحيوان " وفي بعضه ذكر الضبع، ومن خواص شعره أنه من تحمل بشيء منه حدث به البغاء، وقد كتب ابن البغدادي على الهامس: أخبرني الثقة شرف الدين بن الوحيد أنه جرب ذلك فصح معه، أو كما قال.
ومما ينسب إلى ابن الوحيد، ورأيته لغيره:
وخضراء لا الحمراء تفعل فعلها
…
لها وثبات في الحشا وثبات
تؤجج ناراً في الحشا وهي جنة
…
وتبدي مرير الطعم وهي نبات
ومن شعر ابن الوحيد:
الله باري قوس حاجبه التي
…
مدت وإنسان العيون النابل
ولحاظه نبل لها من هدبه
…
ريش وأفئدة الأنام مقاتل
ومنه:
جهد المغفل في الزمان مضيع
…
وإن ارتضى أستاذه وزمانه
كالثور في الدولاب يسعى وهو لا
…
يدري الطريق ولا يزال مكانه
وكان السراج الوراق قد مرض في وقت، فجهز إليه شرف الدين بن الوحيد أبلوجة سكر ومعها رقعة بخطه المليح، فكتب إليه السراج ومن خطه نقلت:
أرسل لي ابن الوحيد لما
…
مرضت بالأمس جام سكر
ومدحةً لي بخطه لي
…
فقلت ذا سكر مكرر
حلى وحلى فمي وجيدي
…
عقد شراب وعقد جوهر
ووقف يوماً شيخنا ناصر الدين شافع على شيء من نظم ابن الوحيد فقال:
أرانا يراع ابن الوحيد بدائعا
…
تشوق بما قد أنهجته من الطرق
بها فات كل الناس سبقاً فحبذا
…
يمين له قد أحرزت قصب السبق
فقال ابن الوحيد:
يا شافعاً شفع العليا بحكمته
…
فساد من راح ذا علم وذا حسب
بانت زيادة حظي بالسماع له
…
وكان يحكيه في الأوضاع والنسب
فجاءني منه مدح صيغ من ذهب
…
مرصعاً بل أتى أبهى من الذهب
فكدت أنشد لولا نور باطنه
…
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
فلما بلغت هذه الأبيات ناصر الدين شافعاً قال:
نعم نظرت ولكن لم أجد أحداً
…
يا من غدا أوحداً في قلة الأدب
جازيت مدحي وتقريظي بمعيرة
…
والعيب في الرأس دون العيب في الذنب
وزدت في الفخر حتى قلت منتسباً
…
بخطك اليابس المرئي كالحطب
بانت زيادة حظي بالسماع له
…
وكان يحكيه في الأوضاع والنسب
كذبت والله لن أرضاه في عمري
…
يا بن الوحيد وكم صنفت من كذب
جازيت نظمي وقد نضدته درراً
…
يروق سمع الورى دراً بمحتلب
وما فهمت مرادي في المديح ولو
…
فهمته لم توجهه إلى الأدب
سأتبع القاف إذا جاوبت مفتخراً
…
بالزاي يا غافلاً عن سورة الغضب
خالفت وزني عجزاً والروي معاً
…
وذاك أقبح ما يروى عن العرب