الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والطير يقرأ والنسيم مردد
…
والغصن يرقص والغدير يصفق
ومعاطف الأغصان غنتها الصبا
…
طرباً فذا عار وهذا مورق
وكان زهر اللوز أحداق إلى الزوار من خلل الغصون تحدق
وكأن أشجار الغياض سرادق
…
في ظلها من كل لون نمرق
والورد باللون يجلو منظراً
…
ونسيمه عطر كمسك يعبق
فبلابل منها تهيج بلابلي
…
ولذاك أثواب الشقيق تشقق
وهزاره يصبو إلى شحروره
…
ويجاوب القمري فيه مطوق
فكأنما في كل عود صارخ
…
عود حلا مزمومه والمطلق
والورق في الأوراق يشبه شجوها
…
شجوي وأين من الطليق الموثق
قلت: وهي طويلة جداً، وقد ذكرتها مستوفاة في الجزء الأول من " التذكرة " التي لي.
محمد بن الحسن بن محمد
الخطيب كمال الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الإمام العلامة نجم الدين أبي محمد ابن الشيخ كمال الدين القرشي الأموي القرطبي الأصل الصفدي الخطيب بن الخطيب بن الخطيب، الدمشقي المولد.
كان خطيباً مصقعا، وأديباً ترك ربع البلاغة بعده بلقعا، كم أسال الدموع وفضها على الخدود من الخشوع، وكم علا ذروة المنبر واستقبل الناس فقالوا: هذا بدر قد بدا في سماء من العنبر. ليس للحمائم مثل أسجاعه إذا غردت، ولا للفصحاء مثل عبارته التي جمعت أنواع البيان فتفردت.
وكان ممن ينظم وينثر، ويجري قلمه في ميدان البلاغة ولا يعثر، يأتي فكره بقصائد كأنها قلائد، ونثره برسائل كلها فرائد:
لا تطلبن كلامه متشبهاً
…
فالدر ممتنع على طلابه
كلم كنظم العقد يحسن تحته
…
معناه حسن الماء تحت حبابه
خطب في حياة والده، وهو خالي الوجنة من النبات، وحير العقول بماله من الإقدام والثبات، وكان وهو أمرد يفتن القلوب بنظره، ويقسم الأفق أنه أحسن من قمره.
ومات والده وهو عار من حلي الآداب سار في ميعة الصبا والشباب، فلما مات والده - رحمه الله تعالى اجتهد ودأب، وتمسك بعرا الفضل والأدب، فنظم ونثر وكتب.
ولم يزل على حاله إلى أن خاطبه الخطب فجاءه، ولم يدفع الطبيب داءه.
وتوفي رحمه الله تعالى - يوم الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
ومولده بدمشق، تقريباً سنة تسع وسبع مئة.
صلى الظهر بالناس يوم الاثنين، وجاء إليه المؤقت فقال له: إن بعض المؤذنين ما يلازم التأذين، فأحضره وأنكر عليه، وحصل له منه غيظ، دخل بعد ذلك إلى بيته ونام فجأة على فراشه. وكذلك توفي والده رحمه الله تعالى - فجأة بصفد أيضاً، وقد تقدم ذكره في حرف الحاء مكانه.
وكان الخطيب كمال الدين يكتب خطاً حسناً وهو من بيت بلاغة وكتابة، وبيني وبينه مكاتبات ومراجعات، ذكرت أكثرها في كتابي " ألحان السواجع بين البادي والمراجع "، وكنت أود ما يوده، وأختار ما يختاره من مسكنه دمشق - رحمه الله تعالى - وما اتفق له ذلك.
وكان قد كتب هو إلي من صفد في أواخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة:
سلام كنشر المسك يسري ويعبق
…
على معهد كالبدر يعلو فيشرق
ومشهد أنس حله من أحبتي
…
موال لهم في شاهد المجد مشرق
وسادات عز قيدوا القلب في الهوى
…
على حبهم والدمع في الخد أطلقوا
يذكرنيهم كل شيء يروقني
…
فلي بهم مع كل حسن تعلق
ويذكي فؤادي هجرهم وبعادهم
…
ولي نحوهم في كل حين تشوق
يردده سار ينم به الشذا
…
ويخبر عن جار من الدمع يسبق
ويتلو على سمع التعطف منهم
…
حديثي عسى يوماً يرق ويشفق
ويرفع حالاً نكرت وصف لمتى
…
بعطف ابتداء لي على الود ينسق
وينسخ أشواقي بريحان قربه
…
ويرقمه حقاً دنوي المحقق
أأحبابنا إن لم أفز بلقائكم
…
فمنوا بطيف في الكرى وتصدقوا
فقد طال هذا البعد والزمن انقضى
…
بأحلام قرب لا تتم فتصدق
وإن كان مع بعدي صحيحاً ودادكم
…
أكيد ولكن التداني أوفق
سقى دوحةً كنا نلوذ بظلها
…
من القرب سحاح الندى متدفق
وحيا زماناً كان فيه بوصلكم
…
لسان حبوري بالمسرات ينطق
فما كان أهنا عيشنا وألذه
…
وما راعنا بعد ولا شاب مفرق
ولا فرقت أيدي الحوادي شملنا
…
ولا بات قلبي من لقا البين مورق
فواهاً على أوقات قرب قطعتها
…
بكم وشبابي مائس الغصن مورق
ووصلكم داني الجنى في ربا المنى
…
وصافي التصافي بيننا يترقرق
مضت بسلام ثم أعقبت الأسى
…
فؤاداً سوى إعراضكم ليس يفرق
فما ذات طوق راعها فقد إلفها
…
وأشجى حشاها بينه والتفرق
وأنطقها بالنوح في الدوح والبكا
…
غريم غرام شفها والتحرق
بأشجى فؤاداً أو أشد تشوقاً
…
وأحرى لعبرات بها العين تشرق
وأبرح مني أو بأذكى تلهباً
…
على قرب إلف أو على الطيف يطرق
لعمري لقد كنت البعيد مزاره
…
فحبك في سوداء قلبي ملصق
وإن تنكر الأيام ما لي عندها
…
فأنت على دعوى ودادي مصدق
فديتك كن لي في ودادي معاضداً
…
فأنت بإسعادي أحق وأخلق
ورأيك مسعود فكن لي مساعداً
…
فإنك ذو الرأي السعيد الموفق
وإن أنت لم تسمع لقول شكايتي
…
فعش سالماً مما يسوء ويرهق
فشكري أياديك الجميلة واجب
…
أقوم به ما دمت أحيا وأرزق
وأسجع من مدحي بكل غريبة
…
لأني بعقد المن منك مطوق
فدم في بقاء ينبت العز والغنى
…
فأنت لنا الكنز الذي منه ننفق
يقبل الأرض التي يسأل الله تعالى أن يحمي حماها من الغير، ويجعلها كعبة تطوف بها الآمال والفكر، وأن يمنح ربها من مزيد النعم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وينهي أشواقه التي أصبح من حرها على خطر، ويذكره الذي كم له فيه من وطر، فلا يخلو منه أين كان ولا أنى نظر، وصحيح وده الذي هو بنقل الثقات معتبر، وحديث حبه المستطر، وقديم ولائه الذي هو للسان الملأ سمر.
وتلك نسبة رق قد عرفت بها
…
حفظ الولا منكم حق لها يجب
يا مالكي أين إسعافي بما طمعت
…
نفسي به من بعيد الدار يقترب
فقد سئمت حياتي مع بعادكم
…
وقد خشيت الردى تأتي به النوب
وإن قضيت ولم يقض اللقاء لنا
…
فكم مضى بحزازات الحشا وصب
فلا تعينوا على قلبي بقسوتكم
…
فقد كفاه الجفا والشوق والنصب
وإن تباخل أحبابي بقربهم
…
فالرسل والطيف يكفي الصب والكتب
وإن تجنوا برفع الود من خبر
…
فالعبد للحب في الحالين ينتصب
فكتبت أنا الجواب إليه من رأس القلم ارتجالاً:
تحية ذي ود براه التشوق
…
وأضناه بل أفناه وجد مؤرق
تروق كم راقت معاني حديقة
…
إليها عيون الناظرين تحدق
وتأتي بلطف من تخص ربوعه
…
كدمعة صب ودقها يترقرق
إلى مجدك السامي البنا الغامر الثنا
…
تروح وتغدو دائماً تتأنق
بعثت كمال الدين نحوي مشرفاً
…
عقود لآليه لجيدي تطوق
تنزهت منه في رياض بلاغة
…
بها أدب أنهاره تتدفق
كأن قوافيه كؤوس يديرها
…
على السمع مني البابلي المعتق
قوى في قوافيه التي قد تمكنت
…
يخور لها عند البيان الخورنق
به ألفات كالغصون تقومت
…
من الهمز يعلوها الحمام المطوق
ولا عين إلا مثل عين مريضة
…
يهيم بها في الناس من يتعشق
ولا ميم إلا مبسم من رضابه
…
رضاب يحاكيه المدام المروق
وأين البها أعني زهيراً فلو رأى
…
أزاهر هذا كان في الحال يطرق
وذلك شعر ليس للناس مثله
…
ولكن ذا أندى وأحلى وأرشق
وذاك قريض قد سما للسما وذا
…
على أذن الجوزاء قرط معلق
وذاك إمام في البلاغة شامل
…
وهذا موشى بالبديع موشق
فأذكرتني عهد الصبا بقدومه
…
وذلك عهد الصبا معرق
إذا ذكرت نفسي زماناً قطعته
…
وغصن الصبا ريان باللهو مورق
تصوب على خدب سحائب أدمع
…
فلولا زفيري كنت بالدمع أغرق
ولو كان لي صبر لقيت به الأسى
…
ولكن ثوب الصبر عني ممزق
فيازمني بالغت في عكس مقصدي
…
فما لي بالحرمان أرزى وأرزق
فلا وطني يدنو ولا وطري أرى
…
ومن دون ما أبغيه هام تفلق
أمولاي مدت بيننا حجب النوى
…
وما رفعت والعمر من ذاك أضيق
فإن كان مولانا صفد صفت
…
فإنك قد جلت بقربك جلق
وهبك خطيباً قد علا فوق منبر
…
أما في دمشق منبر بك أليق
أدم شق لج البين في عرصاتها
…
فكم من أناس أفلحوا مذ تدمشقوا
وجدد لباس العز في غير ربعها
…
فطول مقام المرء في الحي مخلق
وضم بنا شمل التآلف واللقا
…
بأسحم داج عوض لا نتفرق
فكل مكان ينبت العز طيب
…
وفي كل أفق للسعادة مشرق
فلو وضحت لي من مرادك لمحة
…
لكنت لوفد الريح والبرق أسبق
فما أنا في حفظ الوفا متاصنعاً
…
ولا أنا للزور القبيح منمق
وأنت فتدري ما قضته جبلتي
…
فما أدعي إلا وأنت تصدق
ولكن دهراً قد بلينا بأهله
…
أباعوا به ثوب النفاق ونفقوا
أناس تنازلنا إلى أن ترفعوا
…
علينا ألا يا ليتهم لو ترفقوا
فكانوا أصولاً في صحائف عزهم
…
ونحن على بعض الهوامش ملحق
فثق بقضاء الله وارض بحكمه
…
فلي أمل لا بد فيك يحقق
يقبل الأرض وينهي ورود المثال الكريم الذي فضح كماله القمر، وسلب بسحره الألباب وقمر، وأحيا رسم البلاغة، فساد بما شاد وعمر، وهمى غمام فضله وسقى رياض الفصاحة وهمر، وقسم نظمه ونثره فهذا للندامى غناء، وهذا للمحدثين سمر، وخالف العادة لأنه جاء بستاناً في ورقه، إلا أن جميعه زهر وثمر، وأمر ونهى في سلطان فضله، فأذعن الفصحاء له وقالوا له: السمع والطاعة فيما نهى وأمر، وأطرب
المسامع فعلم أن من أنشأه لو شاء بالطرس طبل وزمر، فوقف المملوك على أبياته وآمن بآياته وعلم أنه يقصر عن مباراة مباديه وهو في غاياته، وتصور عتبه فتضور وتفكر في أمره الأمر فتكفر، وتربض لما يدبره في معناه فما تصبر، وترفق للحيلة فما رأى لها دليلاً تقرر، وتحرى فيما يعتمده فما وجد فيه بحثاً تحرر:
سوى حضورك في أمن وفي دعة
…
ليقضي الله ما نرجو ونرتقب
أو فالتصبر أولى ما ادرعت له
…
فالسول يقضى به والقصد والأرب
فلي أماني خير فيك أرقبها
…
أرى بعيد مداها وهو مقترب
فلا يضيق لك صدر من أذى زمن
…
أيامه تمنح الحسنى وتستلب
وربما كان مكروه الأمور إلي
…
معروفها سبباً ما مثله سبب
وكنت قد كتبت له توقيعاً من الفخري لما كان بدمشق، على أن يكون موقعاً بصفد في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، ونسخته:
رسم بالأمر العالي، لا زال يزيد بدور أوليائه كمالا، ويفيد سفور نعمائه جمالاً، ويعيد وفور آلائه على من بهر بفوائده التي غدا سحر بيانها حلالا، أن يرتب المجلس السامي القضائي الكمالي في كذا، لأنه الأصيل الذي ثبت في البيت الأموي ركنه، وتفرع في الدوحة العثمانية غصنه، وكمل قبل بلوغ الحلم حلمه، فلم يكن في هضبات الأبرقين وزنه، وألف حين أشبل غاب المجد حتى كأنه كنه، والبليغ الذي تساوى في البديع نظمه ونثره، وخلب العقول من كلامه سحره، وفاق زهر الليالي لآليه