الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن علي بن محمد بن علي
ابن منصور المؤمل بن محمود البالسي، المسند عماد الدين أبو المعالي.
كان يشهد على الحكام مدة طويلة، وأسمعه أبوه حضوراً وسماعاً واستجاز له من جماعة ببغداد ومصر ودمشق، وانتفع به الناس، وحدث بالقاهرة ودمشق.
ومن شيوخه حضوراً السخاوي، وابن الصلاح، وكريمة القرشية، وشيخ الشيوخ ابن حمويه، والضياء المقدسي الحافظ، وسالم خطيب عقربا، وعمر بن المنجا، وإبراهيم الخشوعي، وإسحاق بن طرخان الشاغوري، وعتيق السلماني، وعبد الحق بن خلف وعبد الملك بن الحنبلي، وعلي بن عبد الصمد الرازي، وعيسى الداركي، وخرج له شيخنا الذهبي جزءاً جمع فيه شيوخه بالسماع والحضور والإجازة على حروف المعجم، وحدث به.
وتوفي رحمه الله تعالى خامس عشر جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده في صفر سنة ثمان وثلاثين وست مئة بدمشق.
محمد بن علي بن وهب بن مطيع
الإمام العلامة شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين، قاضي القضاة، تقي الدين أبو الفتح ابن الشيخ الإمام مجد الدين المعروف بابن دقيق العيد القشيري المنفلوطي المصري المالكي الشافعي.
سمع من ابن المقير، وابن الجميزي، وابن رواج، والسبط، وعدة. وسمع من
ابن عبد الدائم، والزين خالد بدمشق وخرج لنفسه " أربعين تساعيات " ولم يحدث عن ابن المقير وابن رواج، لأنه داخله شك في كيفية التحمل عنهما.
كان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى إماماً في فنونه، غماماً فيما يرسله من الفوائد في كلامه وعيونه، مفسراً، محدثا، سبق في هذين من كان عجلاً أو متلبثاً، فقيهاً مدققا، قام بفروع المذهبين محققا، أصولياً أشعريا، حقيقاً بانفراده في ذلك حريا، نحوياً أديبا، ناظماً ناثراً عجيبا، لا يباريه في كل فنونه مبار، ولا يجاريه في مضمارها مجار، ولا تعلق له الريح إذا أم غايةً بغبار.
وإذا خطاب القوم في البحث اعتلى
…
فصل القضية في ثلاثة أحرف
وكان ذكياً غواصاً على المعاني، قناصاً لشوارد ما يحاوله من العلوم ويعاني، وافر العقل، سافر الحجب عن وجوه النقل، كثير السكينه، لازم الوقار والأبهة الركينه، بخيلاً بالكلام، قل أن يسمع منه غير رد السلام، شديد الورع، مديد الباع إذا قام في أمر شرعي وشرع، ملازم السهر والسهاد، مداوم المطالعة في استخراج ما ينتفع به في العبادة العباد، وكانت كفه تتخرق، وتدع الغمام حسداً لجوده بنار البرق يتحرق، عديم الدعاوى، كثير الشكر قليل الشكاوى، بصيراً بعلل المنقول، خبيراً بغلل المعقول:
يروي فيرى كل ذي ظمأ له
…
بحمى الحديث تعلق وهيام
ببديهة في العلم يقسم من رأى
…
ذاك التسرع أنه السهام
وكيف لا يكون ذلك، وهو الذي بعثه الله على رأس المئة ليجدد للأمة أمر دينها، ويحدد لها ما اشتبه من قواعد شريعتها عند تبيينها. وهؤلاء الذين أشار إليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " يبعث الله على رأس كل مئة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها ".
كان الأول على رأس المئة الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المئة الثانية الشافعي رضي الله عنه، وعلى رأس المئة الثالثة ابن سريج، وقيل: أبو الحسن الأشعري، ويمكن الجمع بينهما، فإن الأشعري جاء لأصول الدين، لأن المعتزلة كانوا قد طبقوا الأرض فحجزهم رضي الله عنه في قموع السمسم، وابن سريج جاء لتقرير الفروع.
وعلى رأس المئة الرابعة أبو حامد الإسفراييني، وقيل: سهل بن أبي سهل محمد المقول فيه النجيب بن النجيب، كان أحد عظماء الشافعية الراسخين في الفقه والأصول والحديث والتصوف.
وعلى رأس المئة الخامسة حجة الإسلام أبو حامد الغزالي. وعلى رأس المئة السادسة الإمام فخر الدين الرازي. وعلى رأس المئة السابعة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
ومن سعادة الشافعية أن الجميع شافعيون. فإن قلت: فكيف تعمل في عمر بن عبد العزيز؟ قلت: ما كانت المذاهب الأربعة ظهرت ذلك الزمان.
وقد أنشد شيخ من أهل العلم في مجلس ابن سريج:
اثنان قد مضيا فبورك فيهما
…
عمر الخليفة ثم حلف السؤدد
الشافعي الألمعي محمد
…
إرث النبوة وابن عم محمد
أبشر أبا العباس إنك ثالث
…
من بعدهم سقياً لتربة أحمد
فصاح ابن سريج وبكى، وقال: لقد نعى إلي نفسي، ومات في تلك السنة رحمه الله تعالى.
وزاد على ذلك بعض الفقهاء فقال:
والرابع المشهور سهل محمد
…
أضحى عظيماً عند كل موحد
يأوي إليه المسلمون بأسرهم
…
في العلم إن جاؤوا بخطب مؤبد
لا زال فيما بيننا خير الورى
…
للمذهب المختار خير مجدد
وأنشد من لفظه لنفسه مولانا قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب الأنصاري السبكي الشافعي مكملاً على الأبيات الأولى التي في ابن سريج:
ويقال إن الأشعري الثالث ال
…
مبعوث للدين القويم الأملد
والحق ليس بمنكر هذا ولا
…
هذا وعلمهما اقرأن فعدد
هذا لنصرة أصل دين محمد
…
لنظير ذلك في فروع محمد
وضرورة الإسلام داعية إلى
…
هذا وذاك ليهتدي من يهتدي
وقضى أناس أن أحمد الأسفرا
…
ييني رابعهم فلا تستبعد
فكلاهما فرد الورى المعدود من
…
حزب الإمام الشافعي محمد
والخامس الحبر الإمام محمد
…
هو حجة الإسلام دون تردد
وابن الخطيب السادس المبعوث إذ
…
هو في أصول الدين أي مؤيد
والسابع ابن دقيق عيد فاستمع
…
فالقوم بين محمد أو أحمد
وانظر لسر الله أن الكل من
…
أصحابنا فافهم وأنصف ترشد
هذا على أن المصيب إمامنا
…
أجلى دليل واضح للمهتدي
يا أيها الرجل المريد نجاته
…
دع ذا التعصب والمراء وقلد
هذا ابن عم المصطفى وسميه
…
والعالم المبعوث خير مجدد
وضح الهدى بكلامه وبهديه
…
يا أيها المسكين لم لا تقتدي
ولم يزل الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد إلى أن طفئ سراجه الوهاج، وأثار عليه لواعج الأحزان وهاج.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده في البحر الملح وكان والده رحمه الله تعالى متوجهاً إلى مكة في البحر، فولد له عند الينبع في يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وست مئة، ولذلك ربما كتب بخطه:" السجي ". ثم إن والده أخذه على يده فطاف به وجعل يدعو الله أن يجعله عالماً عاملاً.
وقلت أنا فيه:
ومن عند الطواف بخير بيت
…
غدا يدعو أبوه له هنالك
بأن يمتاز في عمل وعلم
…
فقل لي كيف لا يأتي كذلك
وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى قد تفقه بأبيه الشيخ مجد الدين بقوص، وبالشيخ عز الدين بن عبد السلام بالقاهرة وبطائفة، واشتهر اسمه في حياته وحياة مشايخه، وتخرج به أئمة.
وكان لا يسلك المراء في بحثه، بل يتكلم بسكينة كلمات يسيرة، فلا يراد ولا يراجع. وكان عارفاً بمذهبي مالك والشافعي، كان مالكياً أولاً، ثم صار شافعياً.
قال: وافق اجتهادي اجتهاد الشافعي إلا في مسألتين أحدهما أن الابن لا يزوج أمه والأخرى
…
، وحسبك بمن يتنزل ذهنه على ذهن الشافعي.
قلت: أما مسألة الابن وعدم تزويجه لأمه فلأنه متفرع عن أصلين: أحدهما: أبوه، ولا ولاية له في تزويج أمه، والثاني: أمه، وما لها أن تزوج ابنها، فبطل أن يكون للابن ولاية في تزويج أمه.
وامتدحه شيخنا الإمام العلامة المحقق النظار ركن الدين محمد بن محمد بن القوبع بقصيدة طنانة جاء منها في مدحه:
صبا للعلم صباً في صباه
…
فاعل بهمة الصب الصبي
وأتقن والشباب له لباس
…
أدلة مالك والشافعي
وستأتي بقية الأبيات في ترجمة الشيخ ركن الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن.
وكانت ولايته قضاء القضاة بالديار المصرية في يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وست مئة.
وكان الشيخ تقي الدين لا ينام الليل إلا قليلاً ولا يقطعه إلا بمطالعة وذكر وتهجد، أوقاته كلها معمورة.
وله التصانيف البديعة ك " الإلمام والإمام " شرحه ولم يكمله، ولو كمل لم يكن
للإسلام مثله، وكان يجيء في خمس وعشرين مجلدة، وله " علوم الحديث " و" شرح العمدة " في الأحكام الذي أملاه على ابن الأثير فاضل العصر الذي تعرفه وهو إملاء، وشرح " مقدمة " المطرزي في أصول الفقه. وألف " الأربعين في الرواية عن رب العالمين " وشرح بعض " مختصر ابن الحاجب "، و" شرح ابن الحاجب " في فروع المالكية، وشرح " مختصر التبريزي " في فروع الشافعية.
وكان رحمه الله تعالى قد قهره الوسواس في أمر المياه والنجاسات، وله في ذلك وقائع وحكايات عجيبة. وكان كثير التسري، وله عدة أولاد سماهم بأسماء الصحابة العشرة.
ولما طلع إلى السلطان حسام الدين لاجين قام له وخطا عن مرتبته.
وعزل نفسه عن القضاء مرات، ثم يسأل ويعاد. وكان شفوقاً على المشتغلين، كثير البر لهم.
قال قطب الدين عبد الكريم: أتيت إليه بجزء سمعه من ابن رواج والطبقة بخطه، فقال: حتى أنظر في هذا، ثم عاد إليه فقال: هو خطي، ولكن ما أحقق سماعي له ولا أذكره.
أخبرني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي قال: حكى لي الشيخ قطب الدين السنباطي قال: بلغني أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قال: لكاتب
الشمال عشرين سنة. أو قال: " سنين "، الشك مني أنا في روايتي عن شيخنا تقي الدين - لم يكتب علي شيئاً، قال السنباطي: فاجتمعت به وقلت له: قال فلان عن مولانا كذا وكذا، فقال: أظن ذلك أو كذلك يكون المسلم، أو كما قال.
وكان يقول: ما تكلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله تعالى.
ولما جاءت التتار ورد مرسوم السلطان إلى مصر بجمع العلماء وقراءة البخاري، فقرؤوا البخاري إلى أن بقي ميعاد أخروه ليختم يوم الجمعة، فلما كان يوم الجمعة رئي الشيخ تقي الدين في الجامع فقال: ما فعلتم ببخاريكم؟ فقالوا: بقي ميعاد ليكمل اليوم، فقال: انفصل الحال من أمس العصر وبات المسلمون على كذا، فقالوا: نخبر عنك؟ قال: نعم، فجاء الخبر بعد أيام بذلك، وذلك في سنة ثمانين وست مئة على حمص، ومقدم التتار منكوتمر.
وقال عن بعض الأمراء وقد خرج من القاهرة إنه ما يرجع، فما رجع.
وأساء شخص عليه الأدب فقال الشيخ: نعيت لي في هذا المجلس ثلاث مرات، فمات بعد ثلاثة أيام.
واستمع له بعض أصحابه ليلةً وهو يقرأ، قال: فوصل إلى قوله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ". قال: فما زال يكررها حتى طلع الفجر.
قلت: ويدل على ذلك تحريه في عدم الكلام، وأنه كان بخيلاً، وشعره فيه أيضاً ما يدل على ذلك.
أنشدني الشيخ شمس الدين بن نباته المصري من لفظه، قال: أنشدني الشيخ تقي الدين لنفسه:
الجسم تذيبه حقوق الخدمه
…
والنفس هلاكها علو الهمة
والعمر بذاك ينقضي في تعب
…
والراحة ماتت فعليها الرحمة
ومن العجيب ما نقلته أنا من بعض التعاليق أن هذين البيتين حفظهما تاج الدين أحمد أخو الشيخ تقي الدين، وكان فارضاً عاقداً بالحسينية، فاتفق أنه قال في وقت في الهاجرة بمسجد الجوادي، فرأى في النوم والدهما الشيخ مجد الدين، رحمه الله تعالى، فسلم عليه، وسأله عن حاله، فقال: يا سيدي بخير. فقال: كيف محمد أخوك؟ قال: بخير، الساعة كنت عنده وأنشدني هذين البيتين. وأنشدهما، فقال: سلم عليه وقل له:
الروح إلى محلها قد تاقت
…
والنفس لها مع جسمها قد عاقت
والقلب معذب على جمعهم
…
والصبر قضى وحيلتي قد ضاقت
ونقلت أنا من خطه رحمه الله تعالى لنفسه:
أفكر في حالي وقرب منيتي
…
وسيري حثيثا في مصيري إلى القبر
فينشئ لي فكري سحائب للأسى
…
تسح دموعا دونها وابل القطر
إلى الله أشكو من وجودي فإنني
…
تعبت به مذ كنت في مبدأ العمر
تروح وتغدو للمنايا فجائع
…
تكدره والموت خاتمة الأمر
ونقلت من خطه له أيضاً:
سحاب فكري لا يزال هامياً
…
وليل همي لا أراه راجلا
قد أتعبتني همتي وفطنتي
…
فليتني كنت مهينا جاهلا
قلت: جاء في كلام أرسطو: تعبت بعرفاني فليتني خلقت لا أعرف.
وأنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن نباتة المصري قال: أنشدنا من لفظه لنفسه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
أتعب نفسك بين ذلة كادح
…
طلب الحياة وبين حرص مؤمل
وأضعت عمرك لا خلاعة ماجن
…
حصلت فيه ولا وقار مبجل
وتركت حظ النفس في الدنيا وفي ال
…
أخرى ورحت عن الجميع بمعزل
ولقد وقفت له على جواب طويل كتبه بخط يده في درج إلى الأمير سيف الدين منكوتمر نائب السلطان حسام الدين لاجين، وكان عند أستاذه الجزء الذي لا يتجزأ، وقد كتب فيه بعد البسملة.
" ورد على العبد الفقير محمد بن علي مخاطبة الأمير الكبير سيف الدين، ووقف عليها وعجب منها لأمرين، ثم إنه ذكر كل فصل ويجيبه عنه، إلى أن قال في آخر ذلك: فكتب الأمير إلي كتاباً يكتب إلى من ليس عنده من الدين شيء، ولو كان الأمير عرف مني ارتكاب الكبائر الموبقات ما زاد على ما فعل، وبالجملة فإن الله تعالى
أمر نبيه بالمباهلة والملاعنة في الدين، فقال لأهل الكتاب:" فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبنائكم ونسائنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " فنتمثل أمر الله لرسوله ونقول: اللهم يا شديد البطش، يا جبار، يا قهار، يا حكيم، يا قوي يا عزيز يا قوي يا عزيز، يا قوي يا عزيز، نسب إلي أكل الحرام من المدارس الغائبة، وإلى أمور أنت أعلم بسرها، فإن كان ذلك في علمك صحيحاً فاجعل لعنتك ولعنة ملائكتك والناس أجمعين علي، وإن لم يكن صحيحاً فاجعلها على من افترى علي بها، وإن كان الولد قد فعل ما قيل من أخذ البراطيل فاجعلها عليه، وإن لم يكن فاجعلها على من افترى عليه، فهذا إنصاف وامتثال لما أمر الله به رسوله، وربك بالمرصاد، والشكوى إلى الله الحكم العدل ".
فلم يلبث إلا أسبوعاً أو أقل أو أكثر حتى قتل السلطان وحبس منكوتمر، ثم أخرج من محبسه وذبح.
وكان من شدة وسواسه ما يجلس على جوخ ولا يقربه.
وكان في بعض الأيام طلع إلى السلطان حسام الدين وهو جالس على طراحة جوخ، فجلس معه عليها وقضى شغله، وعاد إلى بيته، ونزع كل ما عليه وغسله.
فقالوا له: يا سيدي لا كنت جلست عليها، فقال فكرت إن جلست دونه أكن قد أهنت منصب الشرع، وهو أمر ما يزول، فجلست معه وغسلت ما علي فزال.
وقيل: إنه امتنع من أكل الحلوى فقيل له في ذلك، فقال: لأني رأيت يوماً بعض الصناع يحرك دست حلوى ثم إنه أراق ماءً ولم يستنج. وقيل: كان يغسل الحلوى ويأكلها.
وكان قد عزل نفسه في شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وست مئة، ثم إنه أعيد إلى القضاء وخلع عليه، ورسم له أن لا يستنيب ولده محب الدين.
وعلى الجملة فكان امرأ غريباً قل أن ترى العيون مثله زهداً وورعاً وتصميماً وتحرياً واجتهاداً وعبادة وتوسعاً في العلوم.
فهو الذي بجح الزمان بذكره
…
وتزينت بحديثه الأشعار
وأما ما كان يقع في حقه من شيخنا العلامة أثير الدين فله سبب، أخبرني شيخنا الحافظ أبو الفتح اليعمري قال: كان الشيخ تقي الدين قد نزل عن تدريس مدرسة لولده، أنسيت أنا اسم المدرسة واسم ابنه، فلما حضر الشيخ أثير الدين درس قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز قرأ آيةً يدرس بها ذلك اليوم وهي " قد خسر الذين قتلوا أولادهم " الآية، فبرز أبو حيان من الحلقة وقال: يا مولانا قاضي القضاة " قدموا أولادهم "، يكرر ذلك، فقال قاضي القضاة: ما معنى هذا؟ فقال: ابن دقيق العيد نزل لولده فلان عن تدريس المدرسة الفلانية، فنقل المجلس إلى الشيخ
تقي الدين بن دقيق العيد فقال: أما أبو حيان ففيه دعابة من أهل الأندلس ومجونهم، وأما أنت يا قاضي القضاة يبدل القرآن في حضرتك وما تنكر هذا الأمر. فما كان إلا قليل حتى عزل ابن بنت الأعز عن القضاء بابن دقيق العيد. وكان إذا خلا شيء من الوظائف التي تليق بالشيخ أثير الدين يقول الناس: هذه لأبي حيان، فتخرج عنه لغيره. فهذا هو السبب الموجب لحطه عليه وشناعته.
والصحيح أن أهل العصر لا يرجع إلى جرح بعضهم بعضا بهذه الواقعة وأمثالها:
إن العرانين تلقاها محسدة
…
ولا ترى للئام الناس حسادا
وبعد هذا ما خلص ابن بنت الأعز من ضرب العنق إلا ابن دقيق العيد، لأن الوزير شمس الدين بن السلعوس لما عمل على ابن بنت الأعز وعزله، وعمل محاضر بكفره، وأخذ خط الجماعة على المحاضر، ولم يبق إلا خط ابن دقيق العيد، أرسل إليه المحاضر مع النقباء وقال: يا مولانا الساعة تضع خطك على هذه المحاضر، فأخذها وشرع يتأملها واحداً وحداً، والنقباء من القلعة يتواترون بالحث والطلب والإزعاج، وأن الوزير والسلطان في طلب ذلك، وهو لا ينزعج، وكلما فرغ محضراً
دفعه إلى الآخر وقال: ما أكتب فيها شيئاً. قال الشيخ فتح الدين: فقلت أنا: يا سيدي لأجل السلطان والوزير، فقال: أنا ما أدخل في إراقة دم مسلم، قال: فقلت: فكيف كنت تكتب خطك بذلك، وبما يخلص فيه؟ فقال: يا فقيه ما عقلي عقلك، هم ما يدخلون إلى السلطان ويقولون: قد كتب فلان بما يخالف خطوط الباقين، وإنما يقولون: قد كتب الجماعة، وهذا خط ابن دقيق العيد، فأكون أنا السبب الأقوى في قتله، قال: فأبطل ذلك عملهم، وسكن سورتهم، وأطفأ شواظ نارهم.
قال شيخنا أبو الفتح: وما كان الشيخ تقي الدين يعجبه من يقول: قاضي القضاة الشافعي، فإذا قلنا: قاضي القضاة الشافعية قال: إيه هذا.
وأخبرني شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء قال: قال لي يوماً الشيخ تقي الدين: قول أبي الطيب:
أو كان صادف رأس عازر سيفه
…
في يوم معركة لأعيا عيسى
في هذا شيء غير إساءة الأدب، ففكرت ساعة، ثم قلت: نعم، كون الموت ما يتفاوت إن كان بالسيف أو بغيره، فالإحياء من الموت سبيل واحدة، فقال: أحسنت يا فقيه. أو كما قال.
وهذه المؤاخذة دقيقة لا تصدر إلا من أديب كبير كالجاحظ أو غيره.
قال لي شيخنا شهاب الدين: ما رأيت في أهل الأدب مثله، وناهيك بمن يقول مثل الشهاب محمود في حقه مثل هذا، وقد كان شيخ الأدب في زمانه، ووقفت أنا له على كتاب كتبه إلى قاضي القضاة شهاب الدين الخويي شافعاً ومتشوقاً: " يخدم المجلس لا زال حافظاً لأحكام الجود، محفوظاً بضمان الله في ضمن السعود، محروس العزم من دواعي الهوى والعز من دعاوي الحسود، مقابل وجه الرأي بمرآة الحق، مولي جناب الباطل جانب الصدود، ولا برح على العفاة سحائب كرمه، ويروي الرواة من بحار علوم تمد من قلمه، ويجلو أبكار الأفكار مقلدة بما نظم السحر من حلي كلمه، ويبرز خفيات المعاني منقادةً بأيد ذهنه وأيدي حكمه، ويسمو إلى غايات المعالي حتى يقال: أين سمو النجم من هممه، ويسبغ من جمال فضله وجميله ما يبصره الجاهل على عماه، ويسمعه الحاسد على صممه، وينهي من ولائه ما يشهد به ضميره الكريم، ومن ثنائه ما هو أطيب من ودائع الروض في طي النسيم. ومن دعائه ما يقوم منه بوظيفة لا تهمل، ويشيعه برجاء يطمع معه
بكرم الله أن يقبل ويقبل، ويجري منه على عادة إذا انقضى منها ماض تبعه الفعل في الحال والعزم في المستقبل، غير خاف أنه " لكل أجل كتاب "، ولكل مقصود أسباب، ولم يزل يهم بالكتابة والأيام تدافع، ويعزم على المخاطبة فتدفع في صدر عزمه الموانع، حتى
طلع بهذا الوقت فجر حظه، واستناب منافثة قلمه عن مشافهة لفظه، وقال لخدمته هذه: ردي مورداً غير آسن، وتهني بمحاسن لا تشبهها المحاسن، وتوطني المحلة المسعودة فكما يسعد الناس، فكذلك تسعد الأماكن، وشاهدي من ذلك السيد صدراً بشره بالنجح ضامن، وشهاباً ما زلنا نعد السيادة سبعاً حتى عززت لنا منه بثامن، وكان السبب في ذلك أن القاضي نجم الدين بمحلة منف لما قدم القاهرة أقام بحيث نقيم، وحاضرنا محاضرة الرجل الكريم، ونافث منافثةً " لا لغو فيها ولا تأثيم "، ولازم الدروس ملازمةً لولا أنها محبوبة لقلنا ملازمة غريم، وتلك حقوق له مرعيه، ومعرفة أنسابها مراضعة العلوم الشرعيه، وقصد هذه الخدمة إلى المجلس، فكان ذلك من واجب حقه، وذكر ثناءً فقلنا: رأيت الحق لمستحقه وسيدنا حرسه الله تعالى أهل لتقليد المنن، ومحل لأن يظن به كل حسن، والعلم بمروءته لا يقبل تشكيك المشكك، وأبوة يقتضي أن يرتقي من بعروة وده يستمسك. والله تعالى يرفع شانه، ويعلي برهانه، ويكتب له يوم إحسانه، ويطوي على المعارف اليقينية جنايه، ويطلق بكل صالحة يده ولسانه بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى ".
قلت: ما أعرف من كتب الإنشاء بعد القاضي الفاضل رحمه الله تعالى مثل القاضي
محيي الدين ابن عبد الظاهر، وماله مثل هذه المكاتبة إذا لم تعتبر التورية علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
وأنشدني شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس قال: أنشدني من لفظه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد لنفسه:
أأحباب قلبي والذين بذكرهم
…
وترداده طول الزمان تعلقي
لئن غاب عن عيني بديع جمالكم
…
وجار على الأبدان حكم التفرق
فما ضرنا بعد المسافة بيننا
…
سرائرنا تسري إليكم فنلتقي
وبالسند المذكور له أيضاً:
قالوا فلان عالم فاضل
…
فأكرموه مثل ما يرتضي
فقلت لما لم يكن ذا تقى
…
تعارض المانع والمقتضي
ومن شعر الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى:
كم ليلة فيك وصلنا السرى
…
لا نعرف الغمض ولا نستريح
قد كلت العيس فجد الهوى
…
واتسع الكرب فضاق الفسيح
وكادت الأنفس مما بها
…
تزهق والأرواح منها تطيح
واختلف الأصحاب ماذا الذي
…
يزيل من شكواهم أو يريح
فقيل تعريسهم ساعةً
…
وقيل بل ذكراك وهو الصحيح
قلت: لا أعرف لأحد من المتقدمين ولا من المتأخرين حسن هذا المخلص ثم إنه نص على الصحيح بعد ذلك.
ومن شعره:
يا معرضاً عني ولست بمعرض
…
بل ناقضاً عهدي ولست بناقض
أتعبتني فخلائق لك لم يفد
…
فيها وقد جمحت رياضة رائض
أرضيت أن تختار رفضي مذهباً
…
ويشنع الأعداء أنك رافضي
ومنه:
قد جرحتنا يد أيامنا
…
وليس غير الله من آس
فلا ترج الخلق في حاجة
…
ليسوا بأهل لسوى الياس
ولا تزد شكوى إليهم فلا
…
معنى لشكواك إلى قاشي
وإن تخالط منهم معشرا
…
هويت في الدين على الراس
يأكل بعض لحم بعض ولا
…
يحسب في الغيبة من باس
لا ورع في الدين يحميهم
…
عنها ولا حشمة جلاس
لا يعدم الآتي إلى بابهم
…
من ذلة الكلب سوى الخاسي
فاهرب من الناس إلى ربهم
…
لا خير في الخلطة بالناس
ومن شعره رحمه الله تعالى:
وقائلة مات الكرام فمن لنا
…
إذ عضنا الدهر الشديد بنابه
فقلت لها: من كان غاية قصده
…
سؤالاً لمخلوق فليس بنابه
لئن مات من يرجى فمعطيهم الذي
…
يرجونه باق فلوذي ببابه
ومنه:
ومستعبد قلب المحب وطرفه
…
بسلطان حكم لا ينازع في الحكم
متين التقى عف الضمير عن الخنا
…
رقيق حواشي الطرف والحسن والفهم
يناولني مسواكه فأظنه
…
تحيل في رشفي الرضاب بلا إثم
ومنه:
إذا كنت في نجد وطيب نسيمها
…
تذكرت أهلي باللوى فمحجر
وإن كنت فيهم ذبت شوقاً ولوعة
…
إلى ساكني نجد وعيل تصبري
وقد طال ما بين الفريقين قصتي
…
فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري
ومنه، وقيل إنه في ابن الجوزي:
دققت في الفطنة حتى لقد
…
أبديت ما يسحر أو يسبي
وصرت في أعلى مقاماتها
…
حيث يراك الناس كالشهب
وسار ما صيرت من جوهر ال
…
حكمة في الشرق والغرب
ثم تنازلت إلى حيث لا
…
ينزل ذو فهم وذو لب
تثبت ما تجحده فطرة ال
…
عقل ولا تشعر بالخطب
أنت دليل لي على أنه
…
يحال بين المرء والقلب
ومنه ما نظمه في بعض الوزراء:
مقبل مدبر بعيد قريب
…
محسن مذنب عدو حبيب
عجب من عجائب البر والبح
…
ر ونوع فرد وشكل غريب
ومن شعره:
يا هل أقضى حاجتي من منى
…
وأنحر البزل المهاريا
وأرتوي من زمزم فهي لي
…
ألذ من ريق المها ريا
يهيم قلبي طرباً كلما
…
أستلمح البرق الحجازيا
ويستخف الوجد عقلي وقد
…
لبست أثواب الحجى زيا
ومنه:
تمنيت أن الشيب عاجل لمتي
…
وقرب مني في صباي مزاره
لآخذ من عصر الشباب نشاطه
…
وآخذ من عصر المشيب وقاره
ومنه:
يا شبابي أفسدت صالح ديني
…
يا مشيبي نغصت طيب عيشي
فعدوان أنتما لا صديقا
…
ن تلعبتما بحلمي وطيشي
ومنه:
لم يبق لي أمل سواك فإن يفت
…
ودعت أيام الحياة وداعا
لا أستلذ لغير وجهك منظراً
…
وسوى حديثك لا أريد سماعا
وأنشدني الشيخ شمس الدين بن نباته قال: أنشدني له:
لعمري لقد قاسيت بالفقر شدةً
…
وقعت بها في حيرة وشتات
فإن بحت بالشكوى هتكت مروءتي
…
وإن لم أبح بالصبر خفت مماتي
فأعظم به من نازل بملمة
…
يزيل حيائي أو يزيل حياتي
وأنشدني من لفظه شيخنا فتح الدين قال: أنشدني من لفظه له:
الحمد لله كم أسعى بعزمي في
…
نيل العلا وقضاء الله ينكسه
كأنني البدر أبغي الشرق والفلك ال
…
أعلى يعارض مسعاه فيعكسه
قلت: هذا مثل قول الأرجاني:
سعيي إليكم في الحقيقة والذي
…
تجدون عنكم فهو سعي الدهر بي
أنحوكم ويرد وجهي القهقرى
…
دهري فسيري مثل سير الكوكب
فالقصد نحو المشرق الأقصى له
…
والسير رأي العين نحو المغرب
قلت: إلا أن هذا المعنى الذي أتى به الشيخ تقي الدين في بيتين فهو أخصر. وقد تكلمت في " شرح لامية العجم " على معنى الأرجاني وأوضحته.
وأخبرني شيخنا الحافظ فتح الدين، وكان خصيصاً بالشيخ تقي الدين قال: كان الشيخ مغرىً بالكيمياء، معتقداً صحتها، قال: لأنه اتفق لي في مدينة قوص من صنعها بحضوره وحكى لي الواقعة بطولها في ذلك.
وممن روى عنه الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، وقطب الدين بن منير، وقاضي القضاة علاء الدين القونوي، وقاضي القضاة علم الدين الأخنائي، وآخرون، وحدث شيخنا الذهبي إملاءً.
وقال كمال الدين الأدفوي: حكى القاضي شهاب الدين بن الكويك التاجر الكارمي رحمه الله تعالى، قال: اجتمعت به مرةً واحدة، فرأيته في ضرورة، فقلت: يا سيدنا ما تكتب ورقة لصاحب اليمن؟ اكتبها وأنا أقضي فيها الشغل، فكتب ورقة لطيفة فيها:
تجادل أرباب الفضائل إذ رأوا
…
بضاعتهم موكوسة الحظ في الثمن
وقالوا عرضناها فلم نلف طالباً
…
ولا من له في مثلها نظر حسن
ولم يبق إلا رفضها واطراحها
…
فقلت لهم لا تعجلوا السوق باليمن
وأرسلها إليه فأرسل له مئتي دينار، واستمر يرسلها صاحب اليمن إلى أن مات.
وقال كمال الدين أيضاً: قال لي عبد اللطيف بن القفصي: هجوته مرة فبلغه، فلقيته في الكاملية فقال: بلغني أنك هجوتني، أنشدني، فأنشدته بليقةً أولها:
قاضي القضاة أعزل نفسو
…
لما ظهر للناس نحسو
إلى آخرها فقال: هجوت جيداً.
وقال قال لي صاحبنا الفقيه الفاضل الثقة مجير الدين عمر بن اللمطي، قال: كنت مرةً بمصر، وطلعت إلى القاهرة، فقالوا لي: الشيخ طلبك مرات، فجئت إليه، فقال أين كنت؟ قلت: بمصر في حاجة، قال: طلبتك في حاجة، سمعت إنساناً ينشد خارج الكاملية:
بكيت قالوا عاشق
…
سكت قالوا قد سلا
صليت قالوا زوكر
…
ما أكثر فضول الناس
وقال: حكى لي صاحبنا فتح الدين محمد بن كمال الدين أحمد بن عيسى القليوبي قال: دخلت مرةً عليه وفي يده ورقة ينظر فيها زماناً، ثم ناولني الورقة وقال: اكتب من هذه نسخة، فأخذتها فوجدت فيها " بليقة " أولها:
كيف أقدر أتوب
…
وراس إيري مثقوب
وقال: قال لي شيخنا تاج الدين محمد بن أحمد الدشناوي: سمعته ينشد هذه " البليقة " أولها:
جلد عميرة بالزجاج
…
ولا الزواج
ويقول: بالزجاج يا فقيه
…
! وقال: حكى لي القاضي سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتي قاضي قوص قال: جئت إليه مرة، وأردت الدخول، فمنعني الحاجب وجاء الجلال العسلوجي فأدخله وغيره، فتألمت، وأخذت ورقة وكتبت فيها:
قل للتقي الذي رعيته
…
راضون عن علمه وعن عمله
انظر إلى بابك............ يلوح من خلله
باطنه رحمة وظاهره
…
يأتي إليك العذاب من قبله
ثم دخلت وجعلت الورقة في الدواة، وظننت أنه ما رآني، فقال: أجلس، ما في هذه الورقة؟ قلت: يقرأها سيدنا، فقال: أقرأها أنت، فكررت عليه، وهو يرد علي فقرأتها، فقال: ما حملك على هذا؟ فحكيت له، فقال: وقف عليها أحد؟ فقلت: لا، فقال قطعها.
قال: وأخبرني برهان الدين إبراهيم المصري الحنفي الطبيب، وكان قد استوطن قوص سنين، قال: كنت أباشر وقفاً، فأخذه مني شمس الدين محمد ابن أخي الشيخ، وولاه لآخر، فعز علي، فنظمت أبياتاً في الشيخ، فبلغته، فأنا أمشي خلفه
مرة فإذا به قد التفت إلي وقال: يا فقيه، بلغني أنك قد هجوتني، فسكت فقال: أنشدني، فألح علي فأنشدته:
وليت فولى الزهد عنك بأسره
…
وبان لنا غير الذي كنت تظهر
ركنت إلى الدنيا وعاشرت أهلها
…
ولو كان عن جد لقد كنت تعذر
فسكت زمانا وقال: ما حملك على هذا؟ فقلت: أنا رجل فقير، وأنا أباشر وقفاً أخذه مني فلان، فقال: ما علمت هذا، أنت على حالك، فباشرت الوقف مدةً، وخطر لي الحج، فجئت إليه استأذنه، فدخلت خلفه، فالتفت إلي وقال: أمعك هجو آخر؟ فقلت: لا، ولكني قصدت الحج، وجئت أستأذن سيدي، فقال: مع السلامة ما نغير عليك.
وقال ناصر الدين شافع: من شعر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قوله:
تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا
…
وسافرت واستبقيتهم في المعاوز
وخضت بحاراً ليس يعرف قدرها
…
وألقيت نفسي في فسيح المفاوز
ولججت في الأفكار ثم تراجع اخ
…
تياري إلى استحسان دين العجائز
وكتب إليه ناصر الدين حسن بن النقيب الفقيسي لما قدم الديار المصرية في سنة أربع وسبعين وست مئة:
أأنت كالشافعي إذ حل مصراً
…
فهو فيها علماً وإن فات عصرا
قد رأيناه مذ قدمت علينا
…
وسمعناه بعد ما حل قبرا
وارتضيناك مالكاً وإماماً
…
فامض فينا الأحكام نهياً وأمرا
وهي ثلاثون بيتاً، فأجاب الشيخ عنها بأبيات أولها:
قد تأملت ما بعثت به لا
…
زلت تهدي لمن يواليك برا
فرأيت الجمال كمل والإج
…
مال فاستجمعا وسمي شعرا
وتنزهت في رياض بديع
…
من صنيع اليبان أطلعن زهرا
يا أمير حتى على النظم والنث
…
ر لقد زدت في الإمارة قدرا
وهي خمسة عشر بيتاً، وكتب الجواب ابن النقيب أيضاً وأوله:
أرسلت أبياتاً إلي بنشرها
…
غرف الجنان تزخرفت وقصورها
وبها عيون الشعر إلا أنها
…
ولدان هاتيك الجنان وحورها
ورأيت ألفافا من الجنات إلا
…
أنهن حروفها وسطورها
وهي أحد عشر بيتاً، وقد أثبت الجميع في الجزء التاسع والعشرين من " التذكرة " التي لي.
وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى صحح حديث القلتين، واختار ترك العمل به لا لمعارض أرجح بل، لأنه لم يثبت عنده بطريق يجب الرجوع إليه شرعاً تعيين لمقدار القلتين.
وقال رحمه الله تعالى: ذكر بعضهم المسألة السريجية وقال: إذا انعكست انحلت وتقريره أن صورة المسألة: متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً، أو متى طلقتك، فوجه الدور أنه متى طلقها الآن وقع قبله ثلاثاً ومتى وقع قبله ثلاثاً لم
يقع، فيؤدي إثباته إلى نفيه، فانتفى، وعكس هذا أن يقول: متى طلقتك، أو متى وقع عليك طلاقي فلم يقع فأنت طالق قبله ثلاثاً، فحينئذ متى طلقها وجب أن تقع الثلاث القبلية، لأنه حينئذ يكون الطلاق القبلي ثابتاً على النقيضين، أعني المنجز وعدم وقوعه، وما ثبت على النقيضين فهو ثابت في الواقع قطعاً، لأن أحدهما واقع قطعاً، فالمعلق به واقع قطعاً. وهذه مقدمة ضرورية عقلية لا تقبل المنع بوجه من الوجوه، وأصل المسألة الوكالة. وكان شيخنا العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يقول: إن طلقتك فوقع عليك طلاقي أو لم يقع فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثم يقول لها: أنت طالق، فحينئذ يحكم بأنها طلقت قبل ذلك التطليق ثلاثاً عملاً بالشرط الثاني، وهو عدم الوقوع، لأن الطلاق المعلق مشروط بأحد أمرين: إما الوقوع وإما عدمه في زمن واحد مستند إلى زمن واحد قبلي، ولا يمكن الحكم بالوقوع القبلي مستنداً إلى عدم الوقوع فلا مجال فيه، لأنه لا يمكن أن يقال: لو وقع فيه لوقع قبله، لأنه إما أن يحتمل القبلية على المتسعة التي أولها عقب التعليق، أو على القبلية التي تستعقب التطليق، فإن التعليق لا يسبقه، وهذا فائدة فرضنا التعليق على التطليق ونفيه بكلمة واحدة، وإن كان الثاني لم يتمكن القول أيضاً بالوقوع قبله استناداً إلى الشرط الأول، لأنه كما تتقيد القبلية القريبة بالنسبة إلى الشرط الثاني كذلك تتقيد بالنسبة إلى الشرط الأول، فلا يكون على تقدم الوقوع على ذلك الزمان دليل، ولا له موجب، هذا كله إذا كان التعليق بالنقيضين بكلمة واحدة، كما فرضناه، وبان لك