الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن أحمد بن مفضل
ابن فضل الله المصري القاضي الرئيس علم الدين بن قطب الدين. تقدم ذكر والده في الأحمدين.
وكان هذا علم الدين أخيراً ناظر الجيوش المنصورة بدمشق، وكان في نفسه رئيساً، قضى عمره في نعمى عجيبة، إلا أنها ما خلت من بوسى، يتأنق في المأكل والملابس. ويتخرق بالتجمل والمجالس، بنفس يتدفق بحرها، ويتألق وفرها، يبالغ في إكرام من يعاشره، ويهش لوفادته عليه ويكاشره. قد اشتهر بالتوسع في الأطعمة والمشارب، والتنقل في النزه والمسارب، قل من رئي في دمشق من يدانيه في سماطه، أو تنخرط لآلئ حشمته في أسماطه.
من تعاطى تشبهاً بك أعيا
…
هـ ومن دل في طريقك ضلا
وكانت مساعيه دقيقه، ومجازاته في المناصب الكبار حقيقه، وثب من الثرى إلى الثريا، وطوى شقة المشقة طيا، وتنقل في الوظائف الكبار، وتوقل هضبات المجد من غير اعتناء ولا اعتبار، كأن له غصن الرياسة يجنى ويهتصر، أو كأن له طريقاً إلى العلياء تختصر.
ولم يزل في سعاداته، وما ألفه في اللذات من عاداته، إلى أن دك علمه، وفك من التصرفات قلمه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة نهار الاثنين ثاني جمادى الأولى سنة ستين وسبع مئة. ودفن في تربة بني هلال بالصالحية.
كان هذا القاضي علم الدين من بقايا رؤساء دمشق، رأى الناس وصحبهم وعاشرهم وخالطهم.
وكان جميل الصورة، أنيق الشكل، مديد القامة، حسن البزة، نظيف اللباس، عاطر الرائحة، يتجمل في الملابس، ويتأنق في المآكل، ويتوسع في المطاعم والمشارب، يمد في كل يوم من الطعام ألواناً، وينفق على مخالطيه المال مجاناً.
أول ما علمته من أمره أنه كان في خدمة عمه القاضي محيي الدين كاتب قبجق، وسيأتي ذكره في مكانه، وكان يميل إليه ويركن إلى تربيته له دون والده قطب الدين، وكان يتوجه معه إلى قسم النواحي، وينوبه في ديوان الأمير سيف الدين تنكز. ولما توفي قطب الدين رتب هو مكان والده في عمالة خانقاه الشميساطي.
ثم إنه بعد ذلك بمدة رتبة الأمير سيف الدين تنكز في استيفاء ديوانه، وأضاف إليه عمالة الأشراف، وفي ديوان الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، وكان مداخلاً سؤوساً، خبيراً بالمساعي عارفاً بالتوصل درباً بالتوسل، فداخل حمزة التركماني، وقد انفرد بالأمير سيف تنكز، وقد احتوى عليه، وكان يشكره للأمير سيف الدين تنكز ويرشحه عنده لكل وظيفة، ويستكتبه عنه في مكاتبات خاصة ما يرى أن كاتب السر يطلع عليها فيأتي فيها بالمراد فيعجبه ذلك. ولم يزل به إلى أن أحسن له أن
يوليه كتابة سر دمشق، فكتب فيه إلى السلطان وشكره وبالغ في أمره، فأجابه الملك الناصر محمد إلى ذلك، وجهز توقيعه بكتابة السر بدمشق في سنة ست وثلاثين وسبع مئة ثاني شعبان المكرم، وكان قد باشرها في هذا اليوم قبل وصول توقيعه الشريف، ووصل التوقيع والتشريف من مصر في حادي عشري الشهر المذكور. وتولاها عوضاً عن القاضي جمال الدين عبد الله بن الأثير، فوليها وعملها على القالب الجائر. وخضع الناس له، وتمكن من قلب الأمير سيف تنكز، وكان يعجبه شكله وكتابته وتأنيه. إلى أن لم يكن عنده في دمشق غيره، وسلم قياده إليه، وتوجه معه إلى مصر، وشكره للسلطان، وبالغ في وصفه، فعظمه السلطان وألبسه تشريفاً بطرحة ولم يكن ذلك لغيره، وحضر بريد من الشام، فدخل به القاضي شهاب الدين بن فضل الله ليقرأه، فطلب السلطان علم الدين هذا، وقرأه عليه، فما حمل القاضي شهاب الدين ذلك، وجرى له مع السلطان ما جرى، وقدم الدواة الأمير سيف الدين تنكز لعلم الدين هذا بين يدي السلطان، فزادت عظمته عند الناس.
ولم يزل كذلك وهو في أوج سعده إلى أن تغير عليه في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فقبض عليه وضربه بالعصي ضرباً مبرحاً، واحتاط على موجوده، واعتقله مدة، ثم أفرج عنه وأمر أنه لا يخرج من داره، ولا يجتمع بأحد، فسكن عند حمام السلاري، وكان ليله ونهاره في تربة الكاملية المجاورة للجامع الأموي، وأقام على ذلك
مدة إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز. فقال السلطان للأمير بشتاك: إذا وصلت إلى دمشق، اطلب العلم بن القطب الذي كان مستوفي تنكز، فهو يدلك على جميع ماله.
ولما وصل بشتاك إلى دمشق، ونزل بالقصر الأبلق، طلب القاضي علم الدين واستعان به على تطلب أموال تنكز، وتحكم علم الدين في تركة تنكز، وأخذ منها غالب ما وجده فيها من الأصناف التي أخذت منه، ودخل في الأمير بشتاك وخدمه، ودخل معه إلى مصر، فعينه السلطان لاستيفاء الصحبة بالديار المصرية، وأراد السلطان أن يمكنه ويتسلط على الكتاب، فأداه عقله إلى مصاحبة جمال الكفاة، ومن كان في ذلك الزمان، وداخلهم واتحد بهم، وصافوه.
ويئس السلطان منه فتركه ولم يزل في استيفاء الصحبة إلى أن توفي السلطان، ودخل الفخري وطشتمر إلى القاهرة، فسعى معهما في أن يكون ناظر النظار بدمشق عوضاً عن الصاحب علاء الدين بن الحراني، فوصل إلى دمشق وباشر بها الوزارة، ولكنه تعب فيها تعباً كثيراً، فاستوخم مرعاها، وطلب النقلة من الأمير طقزتمر إلى نظر الجيوش بدمشق، فكتب له، فأجيب إلى ذلك، وحضر توقيعه، فباشر ذلك عوضاً عن القاضي فخر الدين بن العفيف، فحمد مسراه عند صباح هذه المباشرة، ورأى فيها ما رآه غيره، ودانت له الأيام، وطال عمره فيها، وطاب عرفه.
وكان كثير الهدية للمصريين والخدمة لهم، وما جاءت دولة إلا وهو فيها عزيز مكرم لا يبالي بمن ناواه، ولا يعبأ بمن جاراه، يقهر خصومه ولا يدرون سره ولا مكتومه، وباشر هذه الوظائف الثلاث التي هي أكبر مناصب دمشق.
ولم يزل على حاله إلى أن مرض بعلة الربو، فأقام على ذلك قريباً من خمسين يوماً، وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور، وكان يعتريه وجع المفاصل في كل سنة فأنهكه ذلك، وهرم به وانحنت قامته وضعف.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بعمالة ديوان الأشراف بدمشق في شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة وهو: " رسم بالأمر العالي، لا زال يتلقى برفع علمه، ويكسب المناصب فخراً بمن يوليه لكفاية هممه أن يرتب المجلس السامي القضائي علم الدين في كذا، ثقةً بكفايته التي شهدت بها مخائله، ودلت عليها حركاته السعيدة وشمائله، وتكفلت حركاته المباركة أن تبلغه من العليا ما يحاوله، إذ هو الكاتب الذي أضحت نظراؤه في المعدوم معدوده، والبارع الذي مخزومة فضله لا تبيت إلا وهي بالمحاسن مسدوده، والماجد الذي خرج سيادته عن سلفه، فكانت أبواب النقص فيها مردودة. أقلامه في كفه أنابيب يضمها منه خير عامل، وأعنة يصرفها في السيادة بأطراف الأنامل. فليباشر ما فوض إليه مباشرةً يطلب بها من الله رضاه، ويدخر عمله فيها عنده، فيا حبذا ما يعتمده ويتوخاه، ويحمل لواء الشرف لهذا الديوان، تولى خدمته وتوالاه، وينفق في الفضل من سعة مجده فقد كفاه ما نالته منه كفاه، ويثق بالسعادة التي أظفرته حتى ببركة آل البيت، ويشكر الله على هذه النعمة التي أدخلته في حساب حسبهم الذي هو شرف الحي والميت، مجتهداً على رضا السادة الأشراف بإيصال كل منهم ما يخصه، على اختلاف القسمة، محققاً معرفة بيوتهم الشريفة التي بقاؤها ما بين هذه الأمة نعمه، وتقوى الله تعالى معقل حصين، فلا يلتجئ إلى غيره،
وحبل متين فلا يتمسك بغير عروته التي هي سبب خيره، وليقابل هذه النعمة بشكر يوصله إلى ما تستحقه أهليته في ذمتها، وتبلغه الرتب العلية التي لا تنالها النفوس إلا بشرف همتها، والله يتولى عونه فيما ولاه، ويزيده فضلاً إلى فضله الذي أولاه، والاعتماد فيما رسم به على الخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه إن شاء الله تعالى.
وكتبت أنا إليه من القاهرة وهو بدمشق:
من جود كفيك تخجل الديم
…
ومن محياك تنجلي الظلم
يا من سما وارتقى وطال علاً
…
حتى غدا وهو في الورى علم
ومن صفت للورى مكارمه
…
وساعدتها الأخلاق والشيم
ومن إذا خط طرسه خجلت
…
منه رياض بالزهر تبتسم
ومن إذا فاه بالكلام فما
…
تراه إلا العقود تنتظم
لست أطيل الكلام في صفة
…
ترضى بها في علوك الكلم
مثلك والله ما رأيت ولا
…
يصلح إلا لمثلك الكرم
عندي من الشوق والتطلع ما
…
يعجز عن بعض وصفه القلم
أوحشني وجهك الجميل فلم
…
يلذ من بعده لي الحلم
فالقلب من لوعة ومن حرق
…
مضطرب دائماً ومضطرم
والعين أفنى البكاء مدامعها
…
فسال منها بعد الدموع دم
والله ما سار في الطريق معي
…
بعدك إلا البكاء والندم
فليتني لا أطعت فيك نوىً
…
ولا سعت لي الفرقة قدم
وكتبت إليه من مصر أهنئه بكتابة السر بدمشق: