الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرواح قربه، وأوجد مسرات قلبه، وأعدم مضرات كربه، وأبهجه الكتاب بعبير رياه، وألهجه الخطاب تعبير رؤياه، فرأى خطه وشياً مرقوما، ولفظه رحيقاً مختوما، ووجده محتوياً على درر كلامية وبشر مناميه، وحديث نفس عصاميه.
نرجو من الله أن نشاهد ذلك أيقاظا، ونكون لأبنائه حفاظا.
وهو كتاب طويل. وأجاب عنه شيخنا فتح الدين، وقد أثبتهما في الجزء الأول من " التذكرة " التي لي.
محمد بن عبد الله بن المجد إبراهيم
الشيخ الكبير المشهور الصالح المرشدي.
قرأ على ضياء الدين بن عبد الرحيم، وتلا على الصائغ. وكان فقيهاً شافعي المذهب. وكانت له أحوال وهمة عظيمة، في خدمة الناس على مر السنين والأحوال، يطعم الناس الذين يردون عليه، ويأتي لكل واحد بما في خاطره ويقدمه بين يديه، اشتهر هذا الأمر عنه وذاع، وامتلأت به النواحي والبقاع. ولو ورد عليه من الألف نفس فما دونها أو جاؤوه في أي وقت كان من غير هدية يهدونها وجدوا ما يكفيهم ويكفي دوابهم وشيوخهم وشوابهم.
ولم يكن يقبل لأحد شيئاً البته. وتحيل الناس عليه في مثل هذا فحالما علم به رده بغته.
ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى خالقه على سداد، وسكن لحده إلى يوم المعاد.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وسبع مئة.
كان يحكي عجائب يحار لها السامع من إحضاره الأطعمة الكثيرة للواردين وكل من حضر وخطر بباله في الطريق قبل وصوله إليه شيء من المآكل الغريبة أحضره إليه ووضعه قدامه على الخصوص، وكان مقامه بقرية منية مرشد بالقرب من بلد فوه بالديار المصرية.
تحيل السلطان الملك الناصر محمد وجهز له مع الأمير سيف الدين بكتمر الساقي جملة من الذهب، فغالطه في قبولها ودسها معه في مأكول جهزه معه إلى السلطان. وحج في هيئة كبيرة وتلامذة.
أنفق في ليلة ما قيمته ألفان وخمس مئة درهم، وقيل: إنه أنفق في ثلاث ليال ما قيمته ألف دينار، وكان يأتيه الأمراء الكبار ومن دونهم من الفقراء، فيقوم بخدمتهم على أتم ما يكون، وقل من أنكر عليه، فاجتمع به إلا وزال ذلك من خاطره. وكان شيخنا فتح الدين بن سيد الناس ممن ينكر حاله ويشنع عليه، فما كان إلا أن اجتمع به، فسألته عنه، فقال: هو إنسان حسن. ثم إنه اجتمع به مرة ومرة، وكذلك الأمر ناصر الدين بن جنكلي كان ينكر عليه واجتمع به، وجرى بينهما تنافس في الكلام، ولم يجئ من عنده إلا وقد رضي به.
وأخبرني جماعة ممن توجه إليه وأقام عنده أن في مكانه مسجداً ومنبراً للخطيب يوم الجمعة، وكان يأمر الناس بالصلاة، ولم يصل مع أحد، وصلاة الجماعة لا يعدلها شيء. وأمره غريب والسلام، يتولى الله سريرته.
وكان قد عظم شأنه، ويكتب الأوراق إلى دوادار السلطان، وإلى كاتب السر، وإلى من يتحدث في الدولة بقضاء أشغال الناس بعبارة ملخصة موجزة على يد من يتقاضاه ذلك، ويقضي جميع ما يشير به، وما عظم واشتهر في الديار المصرية إلا بتردد القاضي فخر الدين ناظر الجيش إليه، فإنه كان يزوره كثيراً، فعظم لذلك محله في النفوس.
وبات في عافية، وأرسل إلى الذين من حوله ليحضروا إليه فقد عرض أمر مهم، فأتوه، فدخل خلوته وأبطأ، فطلبوه فوجدوه ميتاً في التاريخ المذكور.
والحكايات في شأنه تزيد وتنقص إلا أنه لا يدعي شيئاً، ولم يحفظ عنه شطح، حسن العقيدة، شافعي المذهب، وكان يخرج إلى الواردين أطعمة كثيرة من داخل مكانه، ولا يدخل إلى ذلك المكان أحد سواه.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي الأمير الوزير مغلطاي الجمالي رحمه الله تعالى، قال: توجهت إلى زيارة الشيخ محمد المرشدي، فلما قربت منه اشتهيت قمحية بلبن حليب بلحم رميس، فلما وصلنا جاء ومعه زبدية كبيرة فيها قمحية بلبن حليب بلحم رميس، وقال لي: كل. ثم بقي يغيب ويأتي بأشياء أخر ويضعها قدام مماليكي، وكلما أتى بشيء إلى واحد منهم تعجب منه ويقول: أنا والله كنت اشتهيه، وأحضر أكثر من عشرين لوناً ما يطبخ إلا في مطبخ السلطان.
قال: وحكى لي شهاب الدين أحمد بن مليح الإسكندري بالإسكندرية، قال: نويت زيارة الشيخ محمد في نفسي. وقلت: لعلي أصادف عنده هيطلية بسمن وعسل آكل منها. فجاء كتاب وكيل الخاص باستعمال حوائج السلطان، فعاقني عما عزمت عليه، فلم يمض غير يومين أو ثلاثة وإذا أنا برجل قد أتاني من عند الشيخ، وقال: الشيخ يسلم عليك وقد بعث لك هذا السمن والعسل ليعمل لك هيطلية وتأكل بهما، ولو كانت تحمل إليك لبعث بها.
قال: وقد زعم قوم أن هذه الكرامات إنما كانت بصناعة مقررة بينه وبين قاضي فوه فإنهما كانا روحين في جسد، وكان قد تحصن بالشيخ، فلا يقدر قاضي القضاة ولا أحد على عزله، وطال ذيله، وأكثر من تسجيل البلاد والتجارة، والولاة ترعاه إما لاعتقاد في الشيخ أو لرجاء العناية من الشيخ بهم عند الدولة. فنمت أمواله، وصلحت حاله، واتسعت دائرة سعادته، ولم يبق له دأب إلا يلقى من يصل من ذوي الأقدار قاصداً زيارة الشيخ، لأن فوه طريق منية مرشد، فإذا وصل الزائر أنزله وأضافه وشرع في محادثته ومحادثة من معه حتى يقف على ما في خواطرهم وما يقترحونه، ثم إنه يبعث إلى الشيخ بذلك على دواب مركزة في الطريق بينهما ويمده من الأصناف بما لعله لا يكون عنده، ويعطيه حلية كل رجل من المذكورين واسمه.
قلت: هذا فيه بعد إلى الغاية، وهذا يريد أموالاً كثيرة ينفقها القاضي أولاً على الزائرين، ثم إنه يجهز إلى الشيخ بما يطعم به زواره ثانياً. ولعل الذي كان يشتهي المأكول أو المشروب يشتهيه بعد فراق القاضي في نفسه، فمن أين يعلم الشيخ بذلك أيضاً؟ فما كل من قصد الشيخ يعمل طريقه على فوه ويجتمع بالقاضي.