الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحثُ الثالث: عرضُه للخلاف النحوي، وموقفُه من النحويين
سلك ابن الملقن سُبُلًا عدة عند عرض الخلافات النحوية الواردة في الحديث الشريف، حيث تبيَّن موقفُه من النحويين، وإلى أيٍّ من المذاهب النحوية ينتمي، وذلك في بعض المسائل، ويكون ذلك تلميحًا لا تصريحًا، فمن السبل التي سلكها ابن الملقن في عرض الخلاف النحوي ما يلي:
البدء بعرض الآراء التي سلمت من التقدير والإضمار، ثم ذكر الآراء الأخرى، ومن ذلك في قوله تعالى:{انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ} (1)، قال ابن الملقن:"وهي تجيء على مذهب الكوفيين؛ كما قالوا في قوله تعالى: {انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ}، أي: يكن الانتهاءُ خيرًا لكم، ومذهب البصريين أن (خيرًا) في الآية منصوبٌ بفعل مضمر يدل عليه (انتهوا)؛ تقديره: انتهوا وافعلوا خيرًا لكم"(2).
كذلك من الطرق التي يَعرض بها الخلاف: ذكرُ الآراء النحوية مع ذكر ترجيح العلماء دون أن يرجح هو أيَّ رأي، ومن ذلك في قوله عليه السلام:(هذه مكان عمرتك) قال: "عوض عمرتك الفائتة، وبالنصب على الظرف، قال بعضهم: والنصب أوجَهُ، قال القاضي: والرفع أوجَهُ عندي"(3)، ومن ذلك أيضًا في (ما رزقتنا)، قال ابن الملقن:"أي: شيئًا رزقتنا؛ لأن المشهور أن (ما) لِمَا لا يعقِلُ، و (مَن) لمن يعقل، وإذا كانت (ما) بمعنى شيء، وقعت على من يعقل وما لا يعقل، وقيل: تكون لمن يعقل، والمعروف الأول"(4).
وربما يكتفي ابن الملقن برأي نحوي دون الآخر، ومن ذلك في (حتى أفيض)، قال:"وصوابُه (أفض)؛ لأنه جواب الأمر"(5)، وهذا الذي ذكره هو مذهب البصريين، ويرى أن ما عليه الكوفيين خطأ.
ومن طرقه في عرض الخلاف: أن يذكر الأقوال، ثم يبني الأحكام عليها، ومن ذلك في
(1) النساء: 171.
(2)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح 2/ 292.
(3)
المصدر السابق 11/ 200.
(4)
المصدر السابق 29/ 333.
(5)
المصدر السابق 11/ 533.
قوله تعالى: {مَا يَهْجَعُونَ} (1)، قال ابن الملقن: "قال إبراهيم: قليلًا ما ينامون
…
وقال أنس: يصلون طويلًا ما ينامون
…
فعلى قول إبراهيم يجوز أن تكون (ما) زائدة، وعلى قول أنس (ما) نافية" (2). وقد يَجزمُ بالحكم دون ذكر أقوال أخرى، ومن ذلك في: (يا معاذ بن جبل)، قال: "أما (ابن) فمنصوب قطعًا" (3).
ومن طرقه في عرض الخلاف النحوي: أنه ربما يذكر رأي عالم ثم يذكر ما يعترضه من الآراء، دون ذكر أيهما أصح، ومن ذلك: في (معاذ) قال: "ويجوز في (معاذ) النصب والرفع، واختار ابنُ الحاجب النصبَ على أنه تابعٌ لـ (ابن)، فيصيران كاسمٍ واحد مركبٍ؛ كأنه أضيف إلى جبل، والمنادى المضاف منصوبٌ قطعًا، واعترضه ابنُ مالك فقال: الاختيار الضم؛ لأنه منادًى علمٌ، ولا حاجة إلى إضمار"(4).
وقد يعرض للخلاف ثم يبين الصحيح، ومثل ذلك في (سمعت) قال ابن الملقن:"اختلف النحاة في (سمعت) هل يتعدى إلى مفعولين؟ على قولين: أحدهما: نعم، وهو مذهبُ أبي علي الفارسي في إيضاحه؛ قال: لكن لا بد أن يكون الثاني مما يُسْمَعُ، كقولك: (سمعت زيدًا يقول كذا)، ولو قلت: (سمعت زيدًا أخاك) لم يجُزْ، والصحيح أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، والفعلُ الواقع بعد المفعول في موضع الحال، أي: سمعته حالَ قوله كذا"(5).
ومن ذلك في (ما أنا بقارئ)، قال: " (ما) نافية
…
وغُلط من جعلها استفهامية؛ وذلك لأن (ما) الاستفهامية لا يدخل خبرَها الباءُ، وهي لا تدخل على ما الاستفهامية" (6).
كذلك من الطرق: ذكر المشهور من أقوال العلماء، ثم ذكر الأقوال الأخرى، دون أي إيضاح، ومن ذلك في (ما كدت أصلي)، قال ابن الملقن: "والمشهور في (كاد): إذا كانت في سياق النفي أوجَبَتْ، وإن كانت في سياق الإيجاب نَفَتْ، وقيل: النفيُ نفيٌ والإيجابُ
(1) الذاريات: 17.
(2)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح 9/ 96.
(3)
المصدر السابق 3/ 658.
(4)
المصدر السابق 3/ 658.
(5)
المصدر السابق 2/ 170.
(6)
المصدر السابق 2/ 260.
إيجابٌ" (1).
هذا، وقد يكون الخلافُ النحوي قائمًا على اختلاف المعنى، ومن ذلك في قوله تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (2)، قال ابن الملقن:"فمَن قال: هو معطوف بـ (أو) على قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا}؛ فالمعنى عنده: ليقتل طائفة، أو يخزيهم بالهزيمة، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم، وقيل: (أو) هنا بمعنى (حتى) "(3).
وقد يعرض ابنُ الملقن الخلافَ مع عزوه لصاحبه، وذلك في (وإنا لوجدناه بحرًا) قال:"و (إن) في قول الكوفيين بمعنى (ما)، واللام بمعنى (إلا)، وهي عند البصريين مخففة من الثقيلة"(4). ومن ذلك في (لما أخبرتني) قال: "يحتمل أن تكون اللام بمعنى (إلا) و (ما) زائدة، هذا مذهب الكوفيين، ويحتمل أن تكون (لَمَّا) مشددة بمعنى (إلا)، ذكره سيبويه، وأنكره الجوهري"(5).
ومن طرق ابن الملقن في عرضه للخلاف النحوي: أنه ربما يذكر الرأي النحوي، ثم يورد احتمالاتٍ تعترضُ الرأي الصحيح، ومن ذلك في (لا أذره)، قال: "وعلى هذا تكون (لا) زائدة
…
ويحتمل عدم زيادتها" (6).
وربما نجده يذكر الرأي النحوي على طريقة الإنكار، ثم يبين مدى صحته، ثم يرجح بعد ذلك، ومثله في قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (7)، قال:"زعم أبو عبيدة أن (إلا) هنا بمعنى الواو، وهو خطأ عند حُذَّاق النحويين، والقولُ أنه استثناءٌ أبيَنُ"(8).
وقد يذكر الحكم النحوي ثم يبين الخلاف فيه، وذلك في مثل (لا تُشِفوا بعضَها على
(1) التوضيح لشرح الجامع الصحيح 6/ 282.
(2)
آل عمران: 128.
(3)
المصدر السابق 21/ 175.
(4)
المصدر السابق 17/ 529.
(5)
المصدر السابق 29/ 141.
(6)
المصدر السابق 24/ 573.
(7)
البقرة: 150.
(8)
المصدر السابق 22/ 58.
بعض)، قال:"ولا يصح حملُه على النقص مع (على)؛ إلا على مذهبِ مَن يجيزُ بدل الحروف بعضها من بعض، فيجعل (على) موضعَ (عن)، وفيه بُعد"(1).
ومن أغربِ الطرق التي عرض ابنُ الملقن بها الخلافَ النحوي: أنه قد يعترضُ على مذهب نحوي، ولهذا المذهب ما يُثبت صحتَه، ومن ذلك في (إلا خطأ)، قال:"ولا يصح أن يكون (إلا) بمعنى الواو؛ لأنه لا يعرف (إلا) بمعنى حرف الواو"(2).
أما موقفُ ابن الملقن من النحويين، فيختلفُ من مسألة لأخرى، ففي مسألةٍ قد نجد ابنَ الملقن يسيرُ وَفْقَ ما سار عليه النحويون، ويعضدُ رأيَهم بالدليل، ومن ذلك: قول ابن الملقن: "باب العدد في العربية
…
أو يكون مرفوعًا بدلًا من (إحدى عشر)، وهو الأظهر، وعلى هذا أعربوا قوله تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} (3)، بدلًا من اثنتي عشرة" (4). ومعنى قوله:(في العربية)، أي: عند أهل العربية.
فابن الملقن اعتدَّ بما عند النحاة، وأيَّدهم بقوله: وهو الأظهر.
ومن مواقف ابن الملقن من النحويين: أنه قد يرُدُّ رأيَ عالم نحوي استنادًا إلى المشهور من كلام العلماء، ومن ذلك قوله: "ولا يصح نصبُه على التفسير، إذ لا تفسير في العدد إلا لواحد، ولا يصحُّ إضافةُ العدد الذي قبله إليه
…
وليس بتفسير فيما قاله الفارسي، وغيره" (5).
ومن مواقف ابن الملقن: أنه قد يعرض لخلاف النحويين دون التعليق عليه، ومن ذلك في (لما أخبرتني)، إذ قال ابن الملقن:"يحتمل أن تكون (اللام) بمعنى (إلا)، و (ما) زائدة، هذا مذهب الكوفيين، ويحتمل أن تكون (لَمَّا) مشددة بمعنى (إلا)، ذكره سيبويه، وأنكره الجوهري"(6).
هذا، وقد يصرِّحُ بالخطأ مع ذكر قائله من النحويين، وربما لا يعللُ لهذه التخطئة، ومن
(1) التوضيح لشرح الجامع الصحيح 14/ 333.
(2)
المصدر السابق 31/ 357.
(3)
الأعراف: 160.
(4)
المصدر السابق 24/ 568.
(5)
المصدر السابق 24/ 568.
(6)
المصدر السابق 29/ 141.
ذلك في {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم} (1) قال: "وزعم أبو عبيدة أن (إلا) هنا بمعنى الواو، وهو خطأ عند حُذَّاق النحويين، والقول أنه استثناء أبيَنُ "(2).
ولا يعني هذا أن ابن الملقن يرفضُ الرأيَ ما لم يكن صحيحًا مشهورًا، بل قد يجيز الرأي المفضول أو غير المشهور؛ ومن ذلك في:(لا تشفوا بعضها على بعض) إذ قال: "ولا يصح حملُه على النقص مع (على)؛ إلا على مذهبِ مَن يجيزُ بدل الحروف بعضِها من بعض؛ فيجعل (على) موضعَ (عن)، وفيه بُعدٌ"(3).
وقد نجد اعتدادَ ابن الملقن بآراء النحويين؛ ومن ذلك في (أكثرَ أهل النار)، قال:"بالنصب على الحال، إذا قلنا: إن أفعل لا يتعرفُ بالإضافة، كما صار إليه الفارسي وغيره"(4).
أما عن مذهب ابن الملقن النحوي، فلم يصرح الشارحُ -حسَبَما وقفتُ عليه- بالمذهب الذي ينتمي إليه، ولكننا نجدُ إثباتَه لآراء البصريين بكثرة، وأما ذكرُه لرأي الكوفيين ففي مواطنَ قليلةٍ.
فمما أخَذَ فيه برأي البصريين: في (أفيض)، إذ قال:"وصوابه (أفض)؛ لأنه جواب الأمر"(5)، وهذا ما يراه البصريون، والوجه الذي يراه الكوفيون يعُده خطأً بقوله: وصوابُه. ومن ذلك أيضا في (إلا خطأ) إذ قال: "ولا يصح أن يكون (إلا) بمعنى الواو؛ لأنه لا يعرف (إلا) بمعنى حرف العطف"(6)، وهو بذلك يثبتُ مذهبَ البصريين، ويعترض على مذهب الكوفيين.
وتارة نجدُ ابنَ الملقن يأخذ برأيِ مذهبٍ دون عزوه، ومن ذلك في (مثنى مثنى)، إذ قال:"و (مثنى) معدولٌ عن اثنين اثنين، فهي لا تنصرفُ للعدل المكرَّر"(7). وهذا رأيُ سيبويه عن الخليل.
(1) البقرة: 150.
(2)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح 22/ 58.
(3)
المصدر السابق 14/ 333.
(4)
المصدر السابق 5/ 53.
(5)
المصدر السابق 11/ 533.
(6)
المصدر السابق 31/ 357.
(7)
المصدر السابق 8/ 166.
ومما أخذ فيه بقول البصريين: في (لا تُشِفوا بعضَه على بعض)، إذ قال:"ولا يصح حملُه على النقص مع (على)؛ إلا على مذهبِ مَن يجيزُ بدل الحروف بعضِها على بعض، فيجعل (على) موضع (عن)، وفيه بُعد"(1)، وبما سبق فقد تبع مذهب البصريين.
ومما أخذ فيه ابنُ الملقن عن الكوفيين: (في هرة)، إذ قال:" (في) هنا سببية، وأصلُ (في) للظرفية"(2)، فالكوفيون يرون أن (في) تخرج عن أصلها، أما البصريون فيرون ظرفيتها.
بهذا، قد بيَّنَّا طريقة ابن الملقن في عرضه للخلاف النحوي، وكيف كان موقفُه من النحويين، مع محاولة اكتشاف مذهبه النحوي، وكل هذا بحسَبِ ما وقفَ عليه الباحثُ ورآه.
(1) التوضيح لشرح الجامع الصحيح 14/ 333.
(2)
المصدر السابق 2/ 444.