الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
دلالة (إنما) على الحصر بن المنطوق والمفهوم
في قوله عليه السلام: "إنما الأعمالُ بالنيَّات
…
" (1).
قال ابن الملقن:
"لفظة (إنما) موضوعةٌ للحصر، تُثبت المذكور، وتَنفي ما عداه، هذا مذهبُ الجمهور من أهل اللغة والأصول وغيرهما. وعلى هذا هل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فيه مذهبان حكاهما ابنُ الحاجب، ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنه بالمنطوق، واختار الآمدي أنها لا تُفيد الحصرَ، بل تفيد تأكيدَ الإثبات، وهو الصحيح عند النحويين، وقيل: تُفيده وضعًا لا عُرفًا، حكاه بعضُ المتأخرين، ومحلُّ بَسْطِ المسألة كتبُ الأصول والعربية؛ فلا نطوِّل به"(2).
بيان المسألة:
ذكر ابن الملقن أن دلالة (إنما) محلُّ خلاف بين أهل اللغة والأصول والنحو، وبيان ذلك فيما يلي:
للعلماء في (إنما) مذاهبُ ثلاثة:
1 -
مَن عدَّ (إنما) للحصر.
2 -
مَن عدَّ (إنما) لتأكيد الإثبات.
3 -
مَن عدَّ (إنما) للحصر والمبالغة.
فأما من عدَّها للحصر (3)، فلأمور؛ منها:
أ- أنَّ (إنَّ) للإثبات، و (ما) للنفي، والنفيُ والإثباتُ في شيء واحد يمتنعان، فيجبُ الجمع بينهما ما أمكن، وهذا ما يُقصَد به الحصرُ بدلالة المنطوق.
(1) صحيح البخاري 1/ 6، باب بدء الوحي.
(2)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح 2/ 170 - 171.
(3)
كابن الملقن إذ قال في موضع آخر: "في الحديث مع (إنما) صيغة حَصْرٍ أخرى، وهي المبتدأ والخبر الواقع بعده"، التوضيح لشرح الجامع الصحيح 2/ 172، منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل 112، الإيضاح في علوم البلاغة 3/ 24، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب 1/ 406، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول 218، الإبهاج في شرح المنهاج 1/ 356، بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة 2/ 231.
ب- أنَّ (إنَّ) لتأكيد الإثبات، و (ما) مؤكِّدة وليست نافيةً (1)، فيجتمعُ توكيدٌ على توكيد، فتصبح بمعنى القصر (2)، وهذا ما يُقصَد به الحصر بدلالة المفهوم.
ج- استعمال العرب لها في الحصر، ومثالُه قوله تعالى:{وإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} (3)، وكذا قولُ الفرزدق:
أنا الضامنُ الراعي عليهم وإنَّما
…
يُدافِعُ عن أحسابِهم أنا أو مِثْلي (4)
وأما مَن عدَّها لتأكيد الإثبات (5)؛ فلخروجها من الحصر لغيره، وذلك في قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (6)، فـ (إنما) أفادت الحصر، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الماء من الماء"(7).
وأما مَن عدها للحصر والمبالغة (8)، فبما يوحي به المعنى، ومثالُ ذلك في المبالغة قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الربا في النسيئة"(9).
وقد اعتُرض على القول بأنها للحصر بما يلي:
(1) نسب هذا الرأي إلى: علي بن عيسى الربعي، وهو عالم بالعربية أصله من شيراز، له مؤلفات في النحو منها: كتاب البديع، وشرح مختصر الجرمي وشرح الإيضاح لأبي علي الفارسي، توفي ببغداد 420 هـ. ورأيه في: الإبهاج في شرح المنهاج 1/ 356، وترجمته في: نزهة الألباء في طبقات الأدباء 1/ 249، وفيات الأعيان 3/ 336، الإعلام للزركلي 4/ 318.
(2)
القصر في اللغة: (الحبس)، وفي الاصطلاح: تخصيص شيء "صفة أو موصوف" بشيء "موصوف أو صفة" بطريق مخصوص بـ (ما) و (إلا) وما شابه ذلك، وقصر الشيء على الشيء ليس إلا تأكيدا على تأكيد.
الإيضاح في علوم البلاغة 3/ 5، الإبهاج في شرح المنهاج 1/ 357.
(3)
آل عمران: 20.
(4)
روي بلفظ مختلف: أنا الذائد الحامي الديار، ديوانه 488، نهاية الأرب في فنون الأدب 7/ 85، شرح المفصل لابن يعيش 2/ 81، الجنى الداني في حروف المعاني 397.
(5)
الإحكام في أصول الأحكام 3/ 97، البحر المحيط في التفسير 1/ 100.
(6)
التوبة: 60.
(7)
مسند الإمام أحمد بن حنبل 18/ 25، صحيح مسلم 1/ 269، سنن الترمذي 1/ 186، المستصفى 271.
(8)
البحر المحيط في التفسير 1/ 100، الجنى الداني في حروف المعاني 396.
(9)
صحيح مسلم 3/ 1218، سنن ابن ماجة 2/ 758، سنن الترمذي 3/ 534، سنن النسائي 7/ 281.
1 -
إما أن تكون (إنَّ) لإثبات شيء غير مذكور، و (ما) لنفي شيء غير مذكور، وإما أن تكون (إنَّ) لإثبات شيء مذكور، و (ما) لنفي شيء غير مذكور، فالأولُ: باطلٌ إجماعًا، وإلا لَمَا كان في الجملة حصرٌ. والثاني: تحقق فيه الحصر غير أن (إنَّ) ليست للإثبات، بل لتأكيد الكلام إثباتًا ونفيًا، و (ما) ليست نافية بل زائدة كافة، وبهذا يضعفُ هذا الرأي.
2 -
لو كانت (ما) نافية لعمِلت، واستحقَّت الصدارة.
3 -
امتناع الجمع بين النفي والإثبات.
4 -
ورود (إنما) لغير الحصر، وهذا خلاف للأصل، وإن قيل: لو كانت لغير الحصر وفُهم أنها للحصر لخُولف الأصل أيضًا، والجواب عن ذلك: أن الحصر غيرُ مقتصر على (إنما) فقط، بل قد يجيء الحصر بالسَّبْر والتقسيم كـ:(إن لم يكن زيدٌ متحركًا فهو ساكن)، وغيره من أدوات الحصر.
5 -
المناسبة بين القصر واجتماع التأكيدين؛ لا يدل على كون (إنما) للحصر فحسب.
6 -
امتناع اطراد الحصر بـ (إنما) مع استعمال العرب له؛ لعدم اللجوء إلى التقدير، ففي قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (1)، لا يمكن أن يقال بأن (إنما) للحصر إلا بتأويل: المؤمنون الكاملون.
واعتُرض على القول بأنها لتأكيد الإثبات بما يلي:
1 -
أنَّ (إنَّ) ليست لتأكيد الإثبات فقط، بل لتأكيد الكلام إثباتًا ونفيًا، كـ:(إنَّ زيدًا قائم)، و (إنَّ زيدًا ليس بقائم).
2 -
أنَّ (ما) ليست للنفي، بل هي كافة تكف (إنَّ) عن العمل، وموطِّئة لدخول الفعل، وإن قيل: إن أبا علي الفارسي قال: إنها للنفي، فالصواب أنه لم يقله، بل قال: إن العرب حملوا (إنما) على معنى النفي (2).
والذي يترجح أن (إنما) تأتي للحصر ولغيره؛ لأمور:
(1) الأنفال: 2.
(2)
الشيرازيات 1/ 255.
1 -
مراعاة للمعنى، وعدم اللجوء للتقدير.
2 -
مراعاة للقواعد النحوية.
وبهذا، يُجمع بين رأي أهل اللغة والأصول والنحو إجمالًا.