الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
حذف المضاف إليه وترك المضاف على هيئته قبل الحذف
في قوله عليه السلام: "
…
فأُوحي إليَّ أنكم تُفتَنون في قبوركم مثلَ أو قريبَ -لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماءُ- مِن فتنةِ المسيحِ الدجال
…
" (1).
قال ابن الملقن:
"وقوله: (مثلَ أو قريبَ) كذا في كثير من نُسَخ البخاري. قال القاضي: وكذا رويناه عن الأكثر في الموطأ، ورويناه عن بعضهم:(مثلًا أو قريبًا)، ولبعضهم:(مثلَ أو قريبًا)، وهو الوجهُ، وقال ابنُ مالك: يُروى في البخاري (أو قريبَ) بغير تنوينٍ، والمشهورُ (أو قريبًا)، ووجهُه أن يكون أصلُه:(مثلَ فتنةِ الدجالِ أو قريبًا من فتنة الدجال)، فحُذف ما كان مثلُ مضافًا إليه، وتُرك على هيئته قبل الحذف، وجاز الحذفُ لدلالة ما بعده، والمعتادُ في صحة هذا الحذف أن يكون مع إضافتين؛ كقول الشاعر:
أمامُ وخلفُ المرءِ مِن لُطفِ ربِّه
…
كوالئُ تَزوي عنه ما هو يَحذَرُ
وجاء أيضًا في إضافةٍ واحدةٍ؛ كما هو في الحديث.
وأما روايةُ (قريبَ) بغير تنوين فأراد (مثلَ فتنة الدجال، أو قريبَ الشبه من فتنة الدجال)، فحُذف المضاف إليه، وبقِي "قريب" على هيئته، وهذا الحذف في المتأخِّر لدلالة المتقدِّم عليه قليلٌ، مثل قراءة ابن مُحَيْصن:{فَلَا خَوْفُ عَلَيْهِمْ} (2)؛ أي: لا خوفُ شيءٍ، وكقول الشاعر:
أقولُ لَمَّا جاءني فَخْرُه
…
سُبحانَ مِن علقمةَ الفاخِر
أراد: سبحان الله، فحذفَ المضافَ إليه، وترك المضافَ بحاله. يقولُ الشاعرُ: العجبُ منه إذ يفخرُ" (3).
بيان المسألة:
ذكر ابن الملقن للفظِ (مثل - قريب) في هذا الحديث رواياتٍ ثلاثًا:
(1) صحيح البخاري 1/ 28، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس.
(2)
البقرة: 38.
(3)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح 3/ 433.
أحدُها: (مثلَ أو قريبَ) بغير تنوين (1).
ثانيها: (مثلًا أو قريبًا) بالتنوين (2).
ثالثُها: (مثلَ أو قريبًا) بغير تنوين لـ (مثل)، وبالتنوين لـ (قريب)(3).
فتوجيهُ الرواية الأولى (مثلَ أو قريبَ): مثلَ فتنة المسيح الدجال، أو قريبَ الشبهِ من فتنة المسيح الدجال، فحُذف المضاف إليه "الشبه" وبقِي المضافُ على حاله قبل حذف المضاف إليه (4). ووُجهت توجيهًا آخرَ؛ وهو أن (قريبَ) مضافٌ إلى فتنة أيضًا، وأُقحم حرفُ الجر بين المتضايِفَين (5).
والذي يظهرُ أن التوجيه الأولَ لهذه الرواية أقوى؛ وهو توجيه ابن مالك؛ لأن المعهودَ في الفصل بين المتضايِفَين أن يكون من مواضعِ زيادة (اللام) وليس (من)؛ إذ هو ليس من المواضعِ التي تُزاد فيها (6).
أما الروايةُ الثانية (مثلًا أو قريبًا) فتوجيهُها: تُفتنون في قبوركم فتنةً مثلًا -أي: مماثلًا- فتنةَ المسيح الدجال أو فتنةً قريبًا من فتنة المسيح الدجال، فـ (مثلًا) منصوب على أنه صفةٌ لمصدر محذوف، و (قريبًا) معطوف عليها (7).
وأما روايةُ (مثلَ أو قريبًا) فتوجيهُها: فأوحي إليَّ أنكم تُفتنون في قبوركم مثلَ فتنةِ الدجال أو قريبًا من فتنة الدجال، فحُذف ما أضيف إلى (مثل)؛ وهو "فتنة الدجال"، وتُرك المضافُ على هيئته قبل الحذف (8)، وهي الوجهُ كما يرى ابن الملقن؛ لجواز حذف المضاف إليه لدلالةِ ما بعدَه عليه.
ما سبَق هو توجيهٌ لروايات الحديث وتوضيحٌ لما اختاره ابنُ الملقن منها، وبيانُ ذلك فيما
(1) صحيح البخاري (86).
(2)
المنتقى شرح الموطإ 1/ 330.
(3)
صحيح البخاري (1053)
(4)
شواهد التوضيح 1/ 162.
(5)
فتح الباري 1/ 183، إرشاد الساري 1/ 184.
(6)
رصف المباني 244، الجنى الداني 106 - 107.
(7)
عمدة القاري 2/ 96.
(8)
فتح الباري 1/ 183، عمدة القاري 2/ 95، إرشاد الساري 1/ 184، شواهد التوضيح 1/ 162.
يلي:
في رواية (مثلَ أو قريبَ) و (مثلَ أو قريبًا) ذكر ابنُ الملقن مسألةَ حَذْفِ المضافِ إليه؛ لدلالةِ ما بعدَ المحذوف عليه، وهذا جائزٌ عند النحويين، وذلك أنه قد يُحذف المضافُ إليه لظهور معناه ويُنوى لفظُه لقوة الدلالة عليه، ويبقى المضافُ بإعرابه وهيئته التي يَستحقُّها مع بقاء المضاف إليه، فلا يُنون، ولا تُرد إليه النونُ إن كان مثنًّى أو مجموعًا، وأكثرُ ما يكونُ ذلك إذا عُطف على المضاف مضافٌ لِمَا يُماثل المحذوفَ لفظًا ومعنًى (1).
قال ابنُ مالك في ألفيته (2):
ويُحذف الثاني فيبقى الأولُ
…
كحاله إذا به يتصلُ
بشرطِ عطفٍ وإضافةٍ إلى
…
مثلِ الذي له أضفتَ الأوَّلا
ومن شواهدِ المسألة:
ما أورده ابنُ الملقن من قول الشاعر (3):
أمامُ وخلفُ المرءِ من لُطفِ ربِّه
…
كوالئُ تَزوي عنه ما هو يَحذَرُ (4)
أي: أمامُ المرء وخلفُ المرء.
ومن ذلك قولُ الفرزدق (5):
يا مَن رأى عارضًا أُسَرُّ به
…
بين ذراعَيْ وجبهةِ الأسَدِ (6)
أي: بين ذراعَيِ الأسدِ وجبهةِ الأسد.
وقد يكونُ الحذفُ مع إضافةٍ واحدة، كما في هذا الحديث، ومنه ما أورده ابنُ الملقن من
(1) شرح التسهيل 3/ 247.
(2)
ألفية ابن مالك 38.
(3)
البيت بلا نسبة، همع الهوامع 2/ 197، شواهد التوضيح 157.
(4)
البيت من الطويل، وروي بألفاظ أخرى منها: ما كان يحذر، وذكر في همع الهوامع 2/ 197، شواهد التوضيح 157.
(5)
همام بن غالب الدارمي، ت: 110 هـ، وترجمته في الأعلام للزركلي 8/ 93.
(6)
البيت من المنسرح، ارتشاف الضرب 3/ 2206، الخزانة 2/ 319، شرح الأشموني 2/ 177.
قراءة ابن محيصن: {فَلَا خَوْفُ عَلَيهِمْ} (1) أي: لا خوفُ شيءٍ عليهم (2).
وكذلك ما أورده ابنُ الملقن من قول الشاعر (3):
أقولُ لَمَّا جاءني فَخْرُه
…
سُبحانَ مِن علقمةَ الفاخِرِ (4)
أراد سبحانَ الله، فحذفَ المضافَ إليه وأبقى المضافَ على الهيئة التي يستحقُّها قبل الحذف.
أما حذفُ المضاف إليه مع عطف أو إضافة، فالخلافُ حول المحذوف على قولين كما يلي:
1 -
أن المضاف إليه محذوفٌ من الأول، والمعطوفَ مضافٌ إلى الموجود، ويكون التقدير في بيت الفرزدق -مثلًا- بين ذراعي الأسد وجبهة الأسد، وذهب إلى هذا الرأي المبردُ (5) وابنُ مالك (6).
2 -
أن المضاف إليه محذوفٌ من الثاني، فالأول مضافٌ إلى الاسم الظاهر، والثاني مضافٌ إلى ضميره، تقديره: بين ذراعي الأسد وجبهتِه، فحُذف الضمير وقُدم المضاف إليه الثاني بين المضاف الأول والمضاف إليه الثاني؛ ليكون المضافُ إليه الظاهرُ عوضًا عن المضاف إليه الثاني (7)، وهذا مذهبُ سيبويه، وصحَّحه ابنُ هشام (8).
(1) البقرة: 38.
(2)
محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي، مقرئ أهل مكة، أحد القراء الأربعة عشر توفي 123 هـ.، وردت هذه العبارة في أكثر من آية؛ منها الآية رقم 38 من سورة البقرة، والآية 69 من سورة المائدة، والآية رقم 48 من سورة الأنعام، والآية 35 من سورة الأعراف، والآية رقم 13 من سورة الأحقاف، إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر 1/ 176، تفسير الألوسي 1/ 241، همع الهوامع 2/ 523، شرح الكافية الشافية 2/ 978.
(3)
البيت للأعشى، ميمون بن قيس بن جندل، ت: 7 هـ، وترجمته في الأعلام للزركلي 7/ 341.
(4)
البيت من السريع، ديوانه 143، الكتاب 1/ 324، الخصائص 2/ 218، همع الهوامع 2/ 115، شرح أبيات سيبويه 1/ 109.
(5)
المقتضب 4/ 228.
(6)
شرح التسهيل 3/ 349.
(7)
شرح الجمل لابن عصفور 2/ 93 - 100، المسائل النحوية د. ناهد العتيق 2/ 647.
(8)
مغني اللبيب 809، شرح ابن عقيل 3/ 81.
ويترجحُ من هذين القولين الأول؛ وذلك أننا إذا قدَّرنا مضافًا إلى الظاهر وقدَّرنا الثاني مضافًا إلى ضمير الاسم المتقدم؛ فقد أتينا بالشيء على أصله (1)، ولعدم مخالفته للأصول بأكثرَ مِن حذف متقدمٍ لدلالة متأخِّر عليه.
(1) شرح أبيات سيبويه 1/ 81.