الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحثُ الأول: السَّماع
اعتمد ابنُ الملقن على هذا الأصل من أصول الاستدلال اعتمادًا كبيرًا، وقد تنوَّعت طرقُه في الاستدلال بالسماع، وتعددت أغراضُه الداعية لهذا الاستدلال.
فمن الطرق التي استخدم بها أصل السماع -من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وشواهد شعرية، وأقوال العلماء- أنه ربما يستدلُّ بالحديث والحديثين في مسألة واحدة، وتارةً يستدل بمعنَى الحديثِ دون نصِّه، وتارة يوردُ الحديثَ كما ورد في كتب الصحاح.
فمثالُ ما استدل فيه بمعنى الحديث: في مجيء (في) للسببية، في حديث (في النفس المؤمنة)؛ إذ قال:"وكقوله في التي حبست هرةً فدخلت النارَ فيها، أي: لسببها"(1)، ففي هذا الحديث الأخير استدل به بالمعنى ولم يوردْه نصًّا.
ومثالُ ما استدل بنصِّه كما ورد في كتب الصحاح: في قوله عليه السلام: (ما مِن أحد أغيرَ من الله)، قال:"وفي مسلم: (إنْ من أحد أغير من الله) بكسر همزة (إن) وإسكان النون، وهو بمعنى: ما من أحد أغير من الله"(2).
هذا، وقد يستدلُّ بروايات الحديث غيرَ مكتفٍ برواية البخاري، كما في (ما أنا بقارئ)، إذ قال:" (ما) نافية، واسمها (أنا)، وخبرها (بقارئ)، و (الباء) زائدة لتأكيد النفي، أي: ما أحسنُ القراءة، وقد جاء في رواية: ما أحسنُ أن أقرأ"(3).
كذلك قد يستدلُّ بأقوال الصحابة، وقد تكونُ مقتطعةً من الحديث الشريف، ومن ذلك في آية {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} (4)؛ إذ قال:"ومثله قولُ عائشة: ولم يجلس عندي مِن يومِ قيلَ ما قيل. وقولُ أنس: فما زلتُ أحبُّ الدُّبَّاءَ من يومئذ. وقولُ بعض الصحابة: مُطرنا من الجمعة إلى الجمعة"(5).
وقد يستدلُّ كذلك ببعض لغات العرب، عند مخالفتها للقواعد النحوية المشهورة، وذلك
(1) التوضيح لشرح الجامع الصحيح 2/ 444.
(2)
المصدر السابق 8/ 316.
(3)
المصدر السابق 2/ 260.
(4)
التوبة: 108.
(5)
المصدر السابق 3/ 584.
في مثل (لن يصبنا - لن تعد)؛ إذ قال ابن الملقن: "هي لغةُ بعض العرب؛ يجزمون بـ (لن) مثل (لم) "(1).
ومثالُ ما استشهد به ابنُ الملقن من كلام العرب، في (حَذْفِ ما دلَّ عليه دليلٌ)؛ إذ قال:"والعرب قد تحذف (كاد) كثيرًا من كلامها؛ لدلالة الكلام عليه، كقولهم في: (أظلمت الشمسُ)؛ كادت تُظلم"(2).
أما الأغراض التي دَعَتِ ابنَ الملقن للاستدلال بالسماع، فمتعددةٌ؛ منها: أنه قد يستدل عَضْدًا لرأي نحوي، ومن ذلك في (قيل وقال)، إذ قال ابن الملقن:"قال أبو عبيد: كنايةٌ عن قيل وقول، ويقال: قلتُ قولًا، وقيل قالًا، وقرأ ابن مسعود: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَالَ الْحَقِّ} (3)، يعني: قولَ الحق"(4).
ومثالُ ما استدل به ابنُ الملقن عضدًا لرأيٍ نحوي، في قول عمر:(ما كدتُ أصلي العصر)، إذ قال ابن الملقن:"مقتضى الحديث أن عمر صلى العصر قبل المغرب؛ لأن النفي إذا دخل على (كاد) اقتضى وجوبَ الفعل في الأكثر، كما في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (5) "(6).
وربما يعضُدُ الرأيَ النحوي بأكثرَ من شاهد، في مثل (إضافة الشيء إلى نفسه)، إذ قال ابن الملقن: "قال الشاعر:
أَمَامُ وَخَلْفُ المرْءِ مِنْ لُطْفِ رَبِّهِ
…
كوالئُ تَزْوي عَنْهُ مَا هُوَ يَحْذَرُ
وجاء أيضًا في إضافة واحدة؛ كما هو في الحديث" (7).
وقد يجمع بين الاستدلال بقراءة وبيتٍ شعري، في مثل (حذف المضاف إليه وإبقاء
(1) التوضيح لشرح الجامع الصحيح 10/ 91.
(2)
المصدر السابق 6/ 293.
(3)
مريم: 34.
(4)
المصدر السابق 15/ 460.
(5)
البقرة: 71.
(6)
المصدر السابق 6/ 282.
(7)
المصدر السابق 3/ 433.
المضاف على حاله)؛ إذ قال: "مثل قراءة ابن محيصن: {فَلَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ} (1)، وقول الشاعر:
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ
…
سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ" (2)
ومن طرائقه أنه ربما يستدلُّ بالقرآن الكريم لعضدِ معنى الحديث، ومن ذلك في (أن كان ابن عمتك)؛ إذ قال:"من أجل أنه ابن عمتك، كقوله تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} (3) "(4).
هذا، وقد يكون استدلالُه بأصل السماع إثباتًا للقاعدة النحوية، ومن ذلك في (اتخذ)؛ إذ قال:"وقد تتعدى (اتخذ) لأحد المفعولين بحرف الجر، وقد تتعدى إلى مفعول واحد، وكل ذلك في القرآن"(5)، ومن ذلك ما علق به بعد قول ابن الشجري: إن (اللام) قد تأتي بمعنى (في)، قال ابن الملقن:"كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (6) "(7).
هذا أبرزُ ما وقف عليه الباحثُ -حسَبَ اطلاعه- من طرق ابن الملقن في الاستدلال بالسماع، والأغراض التي دعته لاستخدام هذا الأصل.
(1) البقرة: 38.
(2)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح 3/ 433.
(3)
القلم: 14.
(4)
المصدر السابق 15/ 337.
(5)
المصدر السابق 5/ 617.
(6)
الأنبياء: 47.
(7)
المصدر السابق 18/ 305.