الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
وجه النصب في: (يا ليتني فيها جَذَعًا)
في قول ورقةَ بنِ نوفل: "
…
يا ليتني فيها جذعًا
…
" (1).
قال ابن الملقن:
"قوله: (جَذَعًا) هكذا الروايةُ المشهورة هنا وفي (صحيح مسلم)؛ بالنصب، ووقع للأصيلي هنا وابنِ ماهان في (صحيح مسلم):(جَذَعٌ)؛ بالرفع، فعلى الرفع لا إشكال، وفي النصب اختلفوا في وجهه على ثلاثة أوجُه:
أحدها: نصبُه على أنه خبر (كان) المقدرةِ، تقديرُه: ليتني أكونُ جذعًا، قاله الخطَّابي والمازَري وابنُ الجوزي في مُشكِله، وهي تجيءُ على مذهب الكوفيين، كما قالوا في قوله تعالى:{انتَهُوا خَيْرًا لَّكُم} (2)؛ أي: يكُنِ الانتهاءُ خيرًا لكم، ومذهبُ البصريين أن (خيرًا) في الآية منصوبٌ بفعل مضمر يدلُّ عليه (انتهوا)، تقديره: انتهوا وافعلوا خيرًا لكم. وقال الفراءُ: انتهوا انتهاءً خيرًا لكم، وضُعِّفَ هذا الوجهُ بأنَّ (كان) الناصبةَ لا تُضمَر إلا إذا كان في الكلام لفظٌ ظاهرٌ يقتضيها؛ كقولهم:(إنْ خيرًا فخيرٌ).
ثانيها: أنه منصوبٌ على الحال، وخبر (ليت) قوله:(فيها)، والتقديرُ: ليتني كائنٌ فيها -أي: مدة الحياة- في هذا الحال شَبِيبةً وصحةً وقوةً لنصرتك، إذ قد كان أسَنَّ وعمِي عند هذا القول، ورجَّح هذا القاضي عياضٌ، وقال: إنه الظاهرُ، وقال النووي: إنه الصحيحُ الذي اختاره المحققون.
ثالثُها: أن تكون (ليت) عمِلت عملَ (تمنَّيت) فنصبت اسمين كما قال الكوفيون؛ وأنشدوا:
يا ليتَ أيامَ الصِّبا رواجِعَا" (3).
بيان المسألة:
(1) صحيح البخاري 1/ 7، كتاب بدء الوحي.
(2)
النساء: 171.
(3)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح 2/ 292. وسيأتي تخريج البيت.
ذكر ابن الملقن الأوجُهَ الإعرابية لـ (جذعًا)، وبيانُ ذلك فيما يلي:
أما روايةُ الرفع فظاهرةُ التوجيه، فتُعرب (جذع) خبرَ (ليت)، ولا إشكالَ في هذا الوجه من جهة النحو (1).
وأما روايةُ النصب (جذعًا)؛ فالعامل فيها عند الكوفيين (كان) المقدرةُ، والتقدير: يا ليتني أكونُ جذعًا؛ كما قالوا في قوله تعالى: {انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ} (2)؛ أي: يكن الانتهاءُ خيرًا لكم (3).
وهذا خطأٌ في تقدير العربية كما يراه المبردُ؛ لأنه يُضمِر الجوابُ ولا دليلَ عليه (4)، وعند البصريين أنها منصوبة بفعل مُضمَر، والتقديرُ: يا ليتني جُعِلت فيها جذعًا، كما قالوا في قوله تعالى:{انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ} (5) أي: انتهوا وائتوا خيرًا لكم (6)؛ وذاك لأنك حين قلت: (انتَهِ) فأنت تريدُ أن تُخرجَه من أمرٍ وتدخلَه في أمر، وقال الخليل:(كأنك تحملُه على ذلك المعنى؛ كأنك قلت: انتَهِ وادخُل فيما هو خيرٌ لك، وحذفوا الفعلَ لكثرة استعمالهم إياه في الكلام)(7).
ومثلُ ذلك قولُ القُطامي (8):
فَكَرَّتْ تَبْتَغِيهِ فَوَافَقَتْهُ
…
عَلَى دَمِهِ وَمَصْرَعِهِ السِّبَاعَا (9)
(1) لم أجد هذه الرواية في المظان، ووجدتها في مصادر وسيطة، منها: إعراب الحديث النبوي 331، شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى 1/ 161، فتح الباري 1/ 26، مطالع الأنوار 2/ 104.
(2)
النساء: 171.
(3)
إعراب القرآن للنحاس 219، إعراب القرآن الكريم وبيانه 2/ 160، المقتضب 3/ 283، مغني اللبيب 827، شرح شذور الذهب للجوجري 2/ 421.
(4)
المقتضب 3/ 283، شرح التصريح على التوضيح 1/ 473، شرح التسهيل 2/ 159.
(5)
النساء: 171.
(6)
المصادر السابقة.
(7)
نقلًا: الكتاب 1/ 282.
(8)
هو: عمير بن شييم بن عمرو بن عباد بن بكر بن عامر بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن بكر بن غنم بن تغلب بن حبيب، شاعر أموي، ديوان القطامي 6، الخزانة 2/ 370.
(9)
في ديوانه بلفظ: فكرت عند فيقتها إليه فألفت عند مربضها السباعا 41، البيت من الوافر، شرح أبيات سيبويه 158، الخصائص 2/ 474، الكتاب 1/ 284.
ومثله قولُ ابن الرُّقَيَّات (1):
لَنْ تَرَاهَا وَلَوْ تَأَمَّلْتَ إلا
…
وَلَهَا فِي مَفَارِقِ الرَّأْسِ طِيبَا (2)
وإنما نصَبَ هذا لأنه حين قال: (وافقته) وقال: (لن تراها)، فقد عُلم أن الطيبَ والسباعَ قد دخلا في الرؤية والموافقة، وأنهما قد اشتملا على ما بعدهما في المعنى (3).
وقدَّر الفراءُ: انتهوا انتهاء خيرًا لكم، على أنها نعتٌ لمصدر محذوف (4)، وضعَّف ابنُ الملقن هذا الرأيَ؛ لظنه أن الفراءَ بناه على إضمار (كان) لغيرِ دليل يدل عليها، وصحيحٌ أنَّ (كان) الناصبةَ لا تُضمر إلا إذا كان في الكلام لفظٌ ظاهر يقتضيها؛ كقولهم:(إن خيرًا فخير)، لكنَّ الفراء إنما بنى النصبَ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، ومع هذا فقد رُدَّ قولُ الفراء بقولهم:(حسبُك خيرًا لك)؛ فإن تقدير مصدرٍ ههنا لا يحسُن، وبقولهم:(وراءَك أوسعَ لك)؛ فإن (أوسع) صفةٌ لمكان لا لمصدر. وعلى هذا فلا يصلحُ أن يراد به المصدرُ.
وخلاصةُ القول: إن جعلت (خيرًا) خبرًا لـ (كان) المقدرةِ فهذا خطأٌ في تقدير العربية، وإن قُدرت نعتًا لمصدر محذوف كما يرى الفراءُ، فالمعنى لا يناسبُ ذلك، لأنه يكون المعنى:(انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم)(5)، فتعين القولُ بأن يكون المقدرُ فعلًا مضمرًا (6).
هذا، وقد أجاز ابنُ مالك إضمارَ (كان) الناقصةِ وإن لم تكن بعد (إنْ) و (لَوْ)، وذلك على قلة، بقوله:"وربما أُضمرت الناقصة بعد (لدن) وشبهِها"(7)، فمثالُ إضمارها بعد (لدُن): قولُ الشاعر (8):
مِنْ لَدُ شَوْلًا فَإِلَى إتِلَائِها (9)
(1) عبد الله بن قيس الرقيات، شاعر أموي ت 75 هـ، ديوانه 5.
(2)
البيت من الخفيف، الكتاب 1/ 285، الخصائص 2/ 431، الانتخاب لكشف الأبيات المشكلة الإعراب 1/ 20.
(3)
الكتاب 1/ 284.
(4)
مشكل إعراب القرآن لمكي 1/ 214، المعلم بفوائد مسلم 1/ 327، ولم أجد هذا التخريح في معاني القرآن للفراء.
(5)
إعراب القراب الكريم للنحاس 219.
(6)
شرح التسهيل 2/ 160.
(7)
المصدر السابق 1/ 364.
(8)
من الخمسين بيتا المجهول قائلها في الكتاب 1/ 264، همع الهوامع 1/ 443، شواهد التوضيح 190.
(9)
البيت من الرجز المشطور الكتاب 1/ 265، همع الهوامع 1/ 443، شواهد التوضيح 190.
والتقديرُ: من لدُ أن كانت شولًا فإلى إتلائها.
ومثالُ إضمار (كان) بعد شبهِ (لدن): قولُ الراعي (1):
أَزْمَانَ قَوْمِي وَالْجَمَاعَةُ كَالَّذِي
…
منعَ الرِّحَالَةَ أَنْ تَمِيلَ مَمِيلَا (2)
والتقدير: أزمانَ كان قومي والجماعةُ.
وأما كونُها منصوبة على الحال، فهذا الذي رجَّحه القاضي عياض (3)، وقال النووي:(إنه الصحيح الذي اختاره المحققون)(4)؛ لأنه حين قال: (يا ليتني فيها جذعًا) كان قد أسَنَّ وعمِي، ويصبح التقدير: في هذا الحال شبيبةً وصحةً وقوةً لنُصرتك (5).
وأما كونُ (جذعًا) خبرًا لـ (ليت) العاملةِ عملَ (تمنَّيت) الناصبةِ للجزأين، فقولٌ منسوب لبعض الكوفيين، وحكى ابنُ السِّيدِ: أن ذلك لغةٌ لقوم من العرب دون تحديد (6)، كما سُمع:(لعل زيدًا أخانا)(7).
ويرى الفراءُ جوازَ نصب الجزأين بـ (ليت) خاصة (8)، تشبيهًا لها بفعل التمني، فقولُك:(ليت زيدًا قائمًا)، مثل (تمنيتُ زيدًا قائمًا)، وكأنه لَمَح فيه معنَى الفعلِ الذي ناب الحرفُ عنه (9)، ومن ذلك قولُ الراجز (10):
يا ليت أيامَ الصِّبا رواجعَا (11)
(1) عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل بن قطن بن ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة، الخزانة 3/ 145، ضياء السالك 1/ 250.
(2)
البيت من الكامل، الخزانة 3/ 145، الكتاب 1/ 305، التذييل والتكمييل 4/ 231.
(3)
إكمال المعلم بفوائد مسلم 1/ 489،
(4)
مسلم بشرح النووي 2/ 203.
(5)
شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى 1/ 161، التوضيح شرح الجامع الصحيح 2/ 292.
(6)
نقلًا: الجنى الداني 393، همع الهوامع 1/ 490.
(7)
همع الهوامع 1/ 491.
(8)
معاني القرآن للفراء 1/ 410، شرح المفصل 8/ 84، الجنى الداني 1/ 394، همع الهوامع 1/ 490.
(9)
المسائل النحوية في كتاب فتخ الباري بشرح صحيح البخاري 1/ 416.
(10)
للعجاج في طبقات فحول الشعراء 1/ 78، لرؤبة في شرح المفصل 1/ 104.
(11)
البيت من الرجز، الكتاب 1/ 142، الأصول في النحو 1/ 148، مغني اللبيب 376، شرح الأشموني 1/ 295.
ومن خلال دراسة المسألة السابقة، يتبيَّنُ أنَّ ابنَ الملقن ذكر الأوجُه الإعرابيةَ لـ (جذعًا) كما وردت عند شراح الحديث قبلَه، وعند أهل الصناعة، مع عزوِ هذه الآراء إلى أصحابها، وذلك يدلُّ على سَعة اطلاعِ ابن الملقن ومنزلتِه العلمية.